هناك أشياء محددة هي التي تساعدنا على تحمل هذا العالم، أفكار تبدو خيالية ولكننا نتمسك بها؛ كأن ينتصر الخير في النهاية، أو يتزوج الأمير من ابنة الطحان ويعيشوا بسعادة للأبد، أو أن يتمكن الفقير من أن يحقق أحلامه، أو أن يعود الحق لأصحابه، أو مثلاً أن يتحقق الانتقام العادل لصالح الطرف الذي وقع عليه الظلم.

كلها أفكار رومانسية نتبناها جميعًا ونبحث عنها حولنا، نوقن أنها لا بد وأن تتحقق يومًا ما، وعندما لا نجدها حولنا ننقب عنها في الأفلام والروايات، نعم نغضب من النهايات الرومانسية الزائدة عن اللازم ونسخر منها، ولكنها تمنحنا شيئًا من السلام، ننام مطمئنين أنه يمكن للعدل أن يتحقق حتى لو على شاشة السينما، وعندما يقابلنا فيلم ذو نهاية واقعية نشيد به ونثني على صناعته، ولكن يبقى وخز في القلب يخبرنا أن هناك شيئًا ما خطأ، النهاية الواقعية تحيط بنا من كل جانب ولا يجب أن تخرج لنا عبر الشاشات أيضًا.


Brimstone: عندما يصطبغ الشر بالقداسة

فيلم «Brimstone» يحكي عن ابنة لأحد قساوسة طائفة «الآميش» المسيحية، يعيشون في قرية منعزلة في مجتمع صغير ومتشدد، يمارس الأب فيه سطوته على زوجته وابنته وعلى القرية بأكملها، يمارس الأب عنفه الممنهج والمصطبغ بصبغة دينية، إلى أن يطلب ابنته لتقوم بواجب زوجته في الفراش متعللاً بأن هذا يرضي الرب، يجلدها في البداية ثم يغتصبها عنوة فتهرب الفتاة.

تكبر الفتاة لتصبح عاهرة حتى يجدها أبوها مرة أخرى ويحاول تنفيذ رغبته التي تتكشف تمامًا أنها لا تمت لإرضاء الرب بأي صلة حتى لو كانت مزيفة، تهرب الفتاة بحيلة ما وتتزوج وتنجب طفلة وتعيش أعوامًا شبه سعيدة حتى يجدها القس/الأب مرة أخرى ويدمر حياتها بالكامل، يخيل لها أنها انتصرت ولا تمهلها الحياة سوى وقت قصير قبل النهاية المأساوية للفيلم.

الفيلم من بطولة «داكوتا فانينج» في دور الابنة، و«جاي برس» في دور الأب/ القس، واللذين كان أداؤهما ممتازًا حقًا خاصة لو أخذنا في الاعتبار أن «داكوتا فانينج» قضت حوالي نصف دورها في الفيلم صامتة وأداؤها كله كان معتمدًا بشكل أساسي على عينيها فقط، حينها ستوقن أن هذا الأداء لم يكن سهلاً بأي حال من الأحوال، قاسمتها دور الابنة في مراحلها المبكرة «إيميليا جونز» والتي قامت أيضًا بدورها باقتدار رغم حداثة سنها.

الفيلم مكون من أربعة فصول هي على الترتيب (الإفشاء، النزوح، سفر التكوين، القصاص) وكما هو واضح فأسماء الفصول مستوحاة من الكتاب المقدس مما يوحي لك بأن الكاتب والمخرج «مارتن كولهوفن» يصبغ مأساة الفيلم بصبغة القداسة وكأنه يريد بشكل ما أن يتهم المنظومة الدينية بالعبثية بشكل غير مباشر حتى ولو كان من خلال قصة شاذة – بالطبع – عن المألوف ولا تخدم الدين ولا الرب بأي حال.


الانتقام قادم

من المعروف أن السطر التعريفي الذي يكتب عادة تحت اسم الفيلم على البوسترات الدعائية يلخص فلسفة الفيلم بشكل ما، أو يعطيك فكرة عامة عن الخط الذي تتحرك فيه الدراما، أو يكون بمثابة وجهة نظر قصيرة معبرة عن مضمون القصة التي يقدمها الفيلم. في فيلم «Brimstone» كان السطر التعريفي يقول «الانتقام قادم»، وفي التتر الافتتاحي للفيلم ترى حرف T يتخذ شكل صليب مضيء في كلمة Brimstone، ثم يبدأ الفيلم في رواية المأساة وفي كل فصل يخيل لك أن هناك فكرة ما شريرة تحاول دخول عقلك وترفضها تمامًا، حتى تأتي النهاية التي ليس بإمكانك أمامها إلا أن تفسح للفكرة الشريرة مكانًا وتناقشها مع نفسك مرغمًا.

كل فصل من الأربعة ينتهي بمأساة ينتصر فيها القس الشرير على الابنة الطيبة، في كل مرحلة تنجح في الهروب ويخيل لك للحظة أنها ستبدأ من جديد وأن الخير سينتصر لأن هذه هي طبائع الأشياء، ولأن الشر هذه المرة خبيث جدًا ويلتحف بعباءة الدين الذي لابد وأن يتخلص من هذا الدنس، ثم تصدمك الحقيقة أن الشر هو الذي ينتصر، وأن الانتقام القادم ربما مقصود به انتقام القس من الابنة التي خالفت قواعده وأوامر الرب التي أمرها بها من خلاله، ثم تأتي النهاية وتتنفس الصعداء ويخيل لك أن كل شيء بخير وأنه رغم الخسائر إلا أن الخير استطاع أن ينجو بكثير من الخسائر والكثير جدًا مما يحتاج للترميم ثم تنقلب الأحداث فجأة في الدقيقة الأخيرة.

هل الأشرار على حق أم ماذا؟، هل الانتقام حقًا كان موجهًا في المقام الأول للابنة التي رفضت طاعة القس؟، هل طاعة القس والذي يمثل كلمة الرب كما كان يردد دائمًا طوال الفيلم كانت واجبًا؟ وأن رفضها والحياد عنها إثم يستوجب الانتقام؟، هل كل هذا الهذيان هو الحقيقة وأن الشذوذ الفكري والعقائدي حقًا أحق أن يتبع؟، هل الفيلم خبيث أم أن حقائق الأشياء هي الخبيثة منذ البداية ونحن ندمن التعامي عن ذلك؟.


ما الجميل في الشر؟

يقولون إنه لابد أن يكون الشيطان جميلاً ليستطيع غواية كل هؤلاء البشر، وكمثل هذه المقولة بالضبط جاء الفيلم، فحتى لو كان الفيلم يطرح أفكارًا ربما تكون شريرة إذا أمعنا التفكير فيها عن ماهية الخير والشر والقداسة والخطيئة والعقاب والنهايات السعيدة إلا أنه فعل ذلك بمنتهى الجمال والحرفية.

طريقة السرد في الفيلم أضافت له قيمة كبيرة ربما لم يكن ليحصل عليها بنفس الدرجة إذا كان سردًا عاديًا، فالفيلم يبدأ بحياة الابنة في حاضرها ثم يعود بك في فلاش باك لماضيها في الفصل الثاني، ثم فلاش باك أقدم في الفصل الثالث، ثم يعود للسرد التقليدي لينهي الحكاية في الفصل الرابع، هذا يجعلك متأهبًا لمدة ساعتين ونصف تقريبًا لا يرمش لك جفن بكامل تركيزك طوال أحداث الفيلم الذي يستولي عليك تمامًا رغم طوله، وقد ساهمت طريقة السرد تلك بالطبع في أن تمحو احتمالية أن يشعر المشاهد بالملل.

ثم التمثيل، فبغض النظر عن تمكن «داكوتا فانينج» الذي كان واضحًا جدًا في الفيلم فإن «جاي بيرس» أيضًا قام بدور رائع، يكفي مشهده الذي يبحث فيه عنها في أنحاء المنزل ثم يلوي رقبته ويطلق عقيرته عاويًا كالذئاب بعد أن يلقي آية من الكتاب المقدس، هذا مشهد مخيف ورائع، تمامًا كالشر.

الفيلم يعد من الأفلام الجيدة جدًا، وببعض التحيز يمكننا أن نطلق عليه ممتازًا، ولكن أهم ما يأتي به الفيلم هو التفكير الذي سيجبرك عليه لا محالة، فهو ليس من الأفلام التي تمر مرور الكرام وتنساها بعد تتر النهاية، بل يترك أثرًا في نفسك يستمر بعض الوقت إلى أن ينشغل عقلك بمعضلات وجودية أخرى، وما أكثرها.