طوال الأسبوع الماضي، لم يهدأ الجدل الذي خلّفه قرار نقابة الموسيقيين بالملاحقة القانونية والمنع من الغناء لمن يمكن وصفهم بمطربي المهرجانات الشعبية.

لا شك أن موسيقى المهرجانات قد فرضت سطوتها على الذائقة الغنائية في مصر في مناسبات مختلفة، وعلى الطبقات والثقافات المختلفة، رغم أن أغلب صانعي تلك المهرجانات يعملون ضمن إطار اجتماعي واقتصادي محدود، لكن ضمن بيئة كذلك تتمتع بحرية الحركة نسبيًا بعيدًا عن أعين السلطات وأذرعها النقابية.

إلا أن ذلك الجدل قد أثار عدة تساؤلات مصيرية حول طبيعة تلك الظاهرة الغنائية وجذورها في عالم الغناء العربي.. حول مفهوم الفن الشعبي.. حول تلك العلاقة الغامضة والملتبسة أحيانًا بين تطور الموسيقى العربية وانحدارها.

ربما لم تدر كل تلك التساؤلات في بال «نقيب الموسيقيين» الذي سارع إلى اتخاذ قراره النقابي بمنع مطربي المهرجانات دون استراتيجيات وأساليب دعائية مناسبة لدعم موقفه والإجابة عن تلك الأسئلة الهامة، التي للإجابة عنها أهمية فنية كبيرة بالنسبة إلى المشهد الفني والاجتماعي في مصر، بل ولتاريخ الحياة الموسيقية المصرية المعاصرة.

السؤال الأول: الجذور التاريخية لغناء الظل

لم تترك نهايات القرن التاسع أثر بسيطًا على الحياة الموسيقيّة في مصر، بل انعكست آثارها العميقة على أنواع الغناء وعلى دوره في المجتمع. وما بين بدايات الصحوة الفنية في عهد الخديويِ إسماعيل (1863- 1879) والنتائج الفنية الباهرة لثورة 1919، عرفَت القاهرة افتتاح أماكن جديدة للإنتاج والاستهلاك الموسيقيّ، اعتمدتْ بشكل أساسي على المسارح والملاهي الليلية.

انتشرت فئة الفنانات اللاتي عُرفن «بالعوالم» بعد أن احترفن الغناء، وظهرت «الطقطوقة» الغنائية، التي اتسمت أساسًا بالخلاعة، وتبارى فنانو ذلك العصر في تقديم ذلك القالب الغنائي الوافد على الغناء العربي خصوصًا مع حالة الكساد الاجتماعي والاقتصادي التي أعقبت قيام الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) وظهر ما يمكن تسميته بجماعات «غناء الظل»، وهى الجماعات التي نشأت على هامش دولة الغناء المصري المستقرة، حيث لم تلتزم تلك الجماعات بقواعد وقوانين الغناء والموسيقى العربية.

كانت جماعة «الصهجبية» هي أشهر تلك الجماعات، وهي مجموعة من المغنين يقدمون أغانيهم في المقاهي، ومعظمهم في حي «المغربلين» و«بولاق» بالقاهرة. لم يكن الغناء في مستهل ظهور تلك الجماعة ذا طابع خاص، بل كان ينشدون كلامًا غير موزون، لم تكن أغانيهم تحمل معنى أو وزنًا واضحًا. كان معظم مغني الصهبجية من طبقات دنيا تجهل القراءة والكتابة احترفوا الغناء عن طريق تعلمه السماعي من كبارهم، وكان على رأس هؤلاء سعد دبّل ومحمد الحصري.

لم يستمر هذا الطابع طويلاً، فالشباب الذين تعلموا على يد هؤلاء عادوا ينشدون الموشحات الموزونة في المقاهي بعدما أجادوا القراءة والكتابة وانتشروا في أرجاء البلاد، ومن هؤلاء محمد البوشي وعبد العزيز البولاقي وحسنين المكوجي والحاج شحاتة الحلواني وإبراهيم السطوحي ومحمد المغربي النقاش وعبد الحميد الجزمجي ويوسف كريم الخياط. وربما تكشف القراءة السريعة لأسماء هؤلاء وتواضع مهنهم وبعدهم عن فئة «المشايخ»، وهى الفئة التي سيطرت على الغناء حتى عشرينات القرن العشرين، عن ترابط حقيقي بين الصهبجية وبين مطربي المهرجانات الشعبية في العصر الحالي.

في كتابه «الموسيقى الشرقي»، وضمن فصل «التحذير عن الأخذ من أصحاب قهاوي الحشيش المعروفين بالصهجبية»، يكشف كامل الخلعي عن طريقة غناء هؤلاء؛ حيث كانت تعد للفرقة دكتان كل دكة مواجهة للأخرى، وتفصلهما منضدة توضع عليها الشموع وكؤوس الشراب، وتجلس الفرقة الموسيقية على الدكتين. أما الأغنياء، فكانوا يستأجرون أكثر من فرقة للغناء.

 

وكان لكل فرقة رئيس، فكانوا يشرعون في الغناء حينما يمسك الرئيس بالدف ويفتتح السهرة بغناءٍ لا يليق مع أصحابه من أفراد الفرقة، حتى إذا انتهى الرئيس من غناء الفاصل الأول، يرفع أحد الصبية من الفرقة صوته بغناء موال لا يتناسب إطلاقًا مع الجو العام، فكان موال «مهران المشنوق» يغنى في الأفراح في حين أنه يحكى قصة شاب حُكم عليه بالإعدام ويلاقى أهوال الحبس.

ورغم ما عرف عن الصهبجية من عدم احتراف أعضائها للغناء بالدرجة الأولى، إلا أنهم تركوا أثرًا كبيرًا في خروج الغناء المصري من دائرته المركزية التي ارتبطت بمطربي القرن التاسع عشر وعلى رأسهم عبده الحامولي المتوفّى عام 1901. وقد تعرضت تلك الجماعات للهجوم، حيث وُصفوا بالحشّاشين، واتهموا بأنهم غير مؤهلين للغناء والفن وبأن ما يقدمونه ليس سوى نوع مبتذل من الغناء لا يتفق مع الأسس الموسيقية. أتى الاتهام من كل جانب، لدرجة أن الملحن كامل الخلعي قد حاول أن يختبر بعضهم في المقامات العربية، ووجدهم لا يعرفون عنها شيئًا إطلاقًا في زمنٍ كانت الثقافة الموسيقية منتشرة حتى بين المستمعين.

وربما تكشف تلك المعلومات عن امتدادات تاريخية تجمع تلك الجماعة المعروفة بـ «الصهجبية» بمطربي المهرجانات الشعبية. فطبيعة الكلمة المغنّاة عند الاثنين تعتمد على حرية التعبير، بمعنى التحدث بلغة العصر؛ تلك اللغة البسيطة الغاضبة والبذيئة أحيانًا. فالمهرجانات التي تتحدث عن المخدرات والخمور تتوافق معها تلك الصورة السينمائية لمجالس الصهجبية في مطلع القرن العشرين. وذلك الضعف في معرفة أساليب وقواعد الغناء العربي عند الصهجبية لا يمكن فصله عن ذلك التغيب الموسيقي الذي يعانيه مطربو المهرجانات الشعبية حاليًا.

إلا أن أكثر أوجه التوافق بينهما هو أن معظم أغاني المهرجانات، كما أغاني الصهبجية، تدور حول معاني مفقودة مثل الصداقة والأمانة والوفاء، وبعضها يبعث بتلك الرسائل من خلال إيقاعات راقصة لا تتناغم بالكلية مع الموقف الذي تؤدّى فيه، تمامًا كما كان «الصهجبية» يقدمون موال «مهران المشنوق» في الأفراح والمناسبات السعيدة.

السؤال الثاني: المهرجان أغنية شعبية أم أغنية شائعة؟

إذا كانت الأغنية الشعبية بمفهومها وعوالمها جزءًا من التراث الشعبي المرتبط بالفلكلور أو بالثقافة المجتمعية التي تعبر عن الواقع الفعلي للشعوب، وتقدم بتلقائية مفردات المجتمع وأحلام البسطاء وعاداتهم وتقاليدهم، فإن ما تقدمه المهرجانات على عكس ما هو شائع يبتعد كثيرًا عن هذه المضامين.

فالتصورات التي اعتمدت عليها المهرجانات ليست شعبية بالمعنى الفلكلوري للكلمة، ولكنها تقترب من مضامين الغناء الشائع المتغير والمرتبط بمرحلة تاريخية معينة الذي غالبًا ما يتبخر بعد سنوات قليلة وتفرز الأجيال التالية صورًا أخرى منه، وهو ما يناقض مفهوم الغناء الشعبي الذي يمتلك القدرة على البقاء والتوغل في التاريخ الاجتماعي لعقود متعددة، لذلك نجد التراث الغنائي الفلكلوري المصري حاضرًا وبقوة في كل المدن والمحافظات على اختلاف تحضرها وتمدُنها، في حين قد لا تسعف ذاكرة مستمعي المهرجانات على تذكر الأعمال الأولى لتلك النوعية من الغناء التي لم يتجاوز عمرها 13 عامًا حتى الآن.

أما مصطلح «الأغنية الشعبية» المعاصر والمختلف عن مفهوم الفلكلور القديم فلا يعبر بأي حال من الأحوال عن شكل غنائي مستقل أو قالب غنائي معروف في الأنماط الموسيقية العربية، فالأغنية الشعبية كمفهوم حديث يمكن وصفه بأنه لون غنائي يختلف عن باقي أنواع الغناء فقط في نمط الصناعة وطريقة الصياغة.

تتقاطع الأغنية الشعبية مع باقي أنواع الغناء العربي في خطوط عريضة ونقاط واضحة، فعناصر الأغنية ثابتة: الصوت، الكلمات، اللحن. وطريقة التنفيذ  واحدة، ولكن كيفية صياغة تلك العناصر الثلاث هي المتغيرات في تلك المعادلة الفنية.

وربما تقدم لنا بعض النماذج للأغنية الشعبية تفسيرًا واضحًا لهذا التقاطع الغنائي الذي يفتقده غناء المهرجانات، فأغنية «وله يا وله» 1944 التي قدمها عبد الغني السيد، من كلمات أبو السعود الأبياري وألحان محمود الشريف، يظللها منذ بدايتها إلى نهايتها أجواء مختلفة لمقام «النهاوند»، روح شعبية مناقضة لذلك النهاوند الحالم الموجود مثلاً في أغنية «ليالي الأنس في فيينا» التي قدمتها أسمهان في العام 1944 ذاته. ورغم ذلك التفاوت في الروح النغمية بين اللحنين، يظل المنبع اللحني واحد وإن اختلفت سُبل صياغة الموسيقى.

أغنية «يا وله يا وله»، 1944، غناء عبد الغني السيد، ألحان محمود الشريف، كلمات أبو السعود الإبياري

أما على مستوى المفردات والأداء الصوتي، تلتقي الأغنية الشعبية في تقاطعات حقيقية مع الغناء المصري بكل أشكاله في تلك الفترة، فالأداء الغنائي الذي قدمه عبد الغني السيد لا يختلف عن ذلك الأداء الغنائي الذي قدمه موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب في أغاني فيلمه السادس «رصاصة في القلب» عام 1944. جُل ما فعله صناعي «وله يا وله» أن  هبطوا بمعاني الحب من عليائها لتترجم أحلام وأحاسيس الطبقات الدنيا، وتتبعوا منابع الموسيقى العربية حتى لامست البعد الطبقي بالمعنى الفلكلوري.

على النقيض من هذا، تقف موسيقى المهرجانات. لا تمتلك المهرجانات أدوات الغناء الشعبي ولا ذلك التواصل الوثيق بعناصر الموسيقى العربية، فهي صورة إلكترونية جافة، ذات كلمات صادمة تتطرق إلى أفكار عابرة عن الحياة الجنسية ومشاكل شباب  من الطبقات الدنيا، من دون أن تخضع لرقابة ذاتية من ناحية ولا لمعايير الغناء الشعبي من ناحية أخرى، وهنا المحك والفارق الذي يميز بين الأغنية الشعبية والأغنية الرائجة أو الشائعة، فالأولى تحمل ملامحها الأصلية صفة التواصل مع الغناء العربي والاستمرارية لعقود، فيما تكون الأغنية الشائعة صنيعة ظروف عابرة وسرعان ما يطمرها النسيان.

السؤال الثالث: تطور الموسيقي أم تدهور الموسيقي؟

يرتبط الحديث عن موسيقى المهرجانات وانعكاساتها على الحياة الغنائية في مصر بالحديث عن ضرورة تطوير الموسيقى العربية لإخراجها من مأزقها الذي طال. ورغم الدور التنويري الذي قام به فرسان التجديد الثلاثة في موسيقانا المعاصرة: سيد درويش، محمد القصبجي، ومن بعدهم محمد عبد الوهاب، جاءت نكسة 1967 لتترك الأثر العميق على مجال الثقافة بعامة، وعلى مجال الموسيقى بخاصة؛ على أساليب التأليف الموسيقي ومناهجه، وعلىالكلمات التي تعتمد عليها الأغاني الشائعة. فكانت الخسائر فادحة بكل المعايير وصولا إلى التراجع التام عن إنجاز المهام الملحة لتطوير الموسيقى ومجاراتها للعصر.

 

وخلال السنوات الخمسين الماضية، بات من الصعب تحديد معالم واضحة لذلك التغير الحاد في طبيعة  الموسيقى العربية، وأصبح من غير الممكن استعادة السيطرة على عالم صناعة الموسيقي وتحديد وجهته واتجاهه. فالتأثيرات الغربية غير المدروسة والعشوائية التي اقتحمت عالم الموسيقى العربية أضعفت هيكل الموسيقى الشرقية التي تحولت بسبب من تلك التأثيرات إلى فن هجين وغريب.

صحيح أن تكنولوجيا صناعة الآلات وتكنولوجيا التسجيل وتكنولوجيا انتشار التسجيلات قد وضعت البيئات الموسيقية المختلفة والمتنوعة بين أيدي أكبر عدد ممكن من الناس، لكن مجال الخلق الموسيقي نضب لدرجة مرعبة، وتوارت الآلة الموسيقية خلف الموسيقى الإلكترونية الجافة وهو أمر يستحق منا التأمل.

وربما بلغ ذلك الجدل ذروته الأولى في عقد الثمانينيات، حين هاجم الملحنون المصريون ذلك التيار الجديد الداعي لتثوير صناعة الموسيقي العربية الذي قاده حميد الشاعري، إذ أدخل للموسيقى العربية تقنيات حديثة حينها متمثلة في الإيقاعات الإلكترونية، كما أسهم في دخول أنماط موسيقية غربية إلي الغناء العربي مثل الروك.

آنذاك، اندفع ملحن محدود الإمكانيات هو حلمي بكر ليتصدر مشهد مقاومة تلك الأغاني الجديدة، واستخدم سلطته ليصدر قرارًا نقابيًا سنة 1992 بوقف الشاعري عن مزاولة عمله الموسيقي؛ القرار ذاته الذي اتخذه نقيب الموسيقيين خلال الأيام الماضية حين منع مجموعة من صانعي المهرجانات من القيام بأي نشاط غنائي.

 

بعيدًا عن الجدل حول فعالية سلطة المنع من عدمها، يبقي التساؤل الأهم والأكثر إلحاحًا عن احتمالات التجديد المطروحة حاليًا أمام الأغنية العربية؟ 

إن الاعتراف بفشل معظم التجارب السابقة في تطوير الموسيقى العربية وتحديدًا خلال السنوات الخمسين الماضية، يساعد كثيرًا، ليس فقط في العثور على نقطة الانطلاق، بل في فهم المعيار الذي يتم على أساسه اختيار الأساليب الصحيحة والمناسبة لتطوير الأغنية العربية وتجنب المنزلقات الخطرة مثل منزلق المهرجانات. فالجديد لا يصبح مطلبًا وضرورة إلا بعدما يستوفي القديم كل ما في جعبته، وهنا يتولد شرط معرفة القديم ليس فقط من قبل المؤلفين والملحنين بل أيضًا من قبل المستمعين، فتقل حدة ذلك الصدام بين القديم والجديد؛ ذلك الصدام الذي أدى في النهاية إلي ما يمكن تعريفه باغتراب الموسيقى العربية وضياع هويتها.

فالمشكلة الرئيسية التي تسببت في فقدان الموسيقى العربية لهويتها نجمت عن أن التطوير الموسيقي العربي، الذي لا بد منه، لم يقترن بالوعي الكافي بهوية الموسيقى العربية، ولم ينهل من تراثها، ولم يبنِ أسسه على رؤية مستقرة لماضٍ عظيم مثل ماضي الموسيقى العربية.

إذا كانت موسيقى المهرجانات منذ البداية غير واضحة المعالم ولا يمكن ربطها بأي حال من الأحوال بميراث الأغنية الشعبية التي لم تذهب بعيدًا عن ذلك البناء التكويني للأغنية العربية الأم، فإن ذلك وحده كافٍ للحكم على ذلك النوع من الأداء بالموت التدريجي مع مرور الوقت وظهور أنماط مختلفة من نوعية ذلك الأداء غير المنفصل عن الواقع المتدهور للمجتمع المصري.

لا يتوقف مستقبل ذلك الأداء الغنائي المسمّى «المهرجانات» على قرار منع أو توقيف، بقدر ما يتوقف علي ضرورة فهم جذور الموسيقى العربية وكيفية إعادة صياغتها بصورة تتقارب مع العصر وتتوافق مع أذواق.