في صحراء «كالاهاري» شعب يدعى «البوشمن». يقال إن لدى البوشمن نوعين من الجياع، الجائع الصغير والجائع العظيم. الجائع الصغير، هو من يعاني من الجوع الجسدي، أما الجائع العظيم، فهو الشخص الذي يعاني من الجوع للسبب الذي نعيش من أجله، لمعنى هذه الحياة.
من فيلم «Burning»

في أحد البارات، تجلس هاي مي مع صديقها جونج سو والذي التقته مصادفة بعد زمن طويل من الغياب. تخبره هاي مي أنها تدرس التمثيل الإيمائي «البانتومايم»، بينما تقشر وتلتهم بتلذذ برتقالة متخيلة. يخبرها جونج سو أنها موهوبة، بينما تخبره هي: «الأمر لا علاقة له بالموهبة، إنه هنا» وتشير إلى رأسها. «أنت لا تتخيل أن برتقالة موجودة بل تحتاج أن تنسى أنه لا برتقالة هنا».

تصطحب هاي مي صديقها إلى شقتها، لأنها تريده أن يطعم قطتها أثناء رحلتها إلى أفريقيا، إلا أنه خلال هذه الزيارة لن يرى قطتها أو يسمع صوتها، فيخبرها: «هل ينبغي عليّ أن أقطع كل هذه المسافة لأطعم قطًا خياليًا؟»

يؤسس المخرج الكوري لي تشونج دونج، عبر هذين المشهدين، لعالمه الفيلمي وهو عالم غسقي، يقع في تلك المنطقة الغامضة بين ما هو واقعي وما هو متخيل، بين ما هو حقيقي وما هو متوهم.

وجود فكرة الأكل، الإطعام في كلا المشهدين، هي أيضًا تؤسس لعالم قائم على تيمة الجوع، فشخصيات «لي» في فيلمه هنا، وحتى في أفلامه السابقة، تعاني من جوع إلى شيء ما، جوع يؤججه واقع محبط وقاس يحرم كائناته من أشياء يراها «لي» ضرورية وجوهرية لبقائها واستمرارها في الحياة. هنا يأخذ «لي» تيمة الجوع المتأصلة في أفلامه إلى حدودها القصوى.

في عمله السينمائي السادس، يقدم لنا لي تشانج دونج، بمشاركة «أو جونج مي»، واحدًا من أكثر نصوص العام ثراء وإلغازًا. نص يوحي بالكثير جدًا ولا يجزم بشيء، اعتمادًا على اقتباس حر لقصة قصيرة للأديب الياباني «هوراكي موراكامي» بعنوان «حرق حظيرة».

يعتبر النص الذي يحكي حكاية ثلاثة شخصيات تتقاطع مصائرها على نحو غامض، مثالًا مهمًا على الاقتباس المتميز للسينما من نصوص أدبية. الشخصيات الثلاث هم «يونج سو»،شاب يعمل في وظائف صغيرة مؤقتة ويطمح أن يصير كاتبًا، يضطر للعودة إلى القرية التي نشأ بها إثر تعرض والده للسجن، وهي نفس القرية التي نشأت بها «هاي مي» والتي تلتقي به بعد زمن طويل وتتجدد علاقتهما في ظروف جديدة، وشخصية «بين» والتي تعرفت عليها هاي مي أثناء رحلتها إلى أفريقيا.

يتعامل النص السينمائي بذكاء شديد مع الإمكانات المحتملة المتضمنة في قصة موراكامي بطابعها المينمالي والتجريدي. لا يجيب عن أسئلة أو يزيل الغموض بل يغذيه. يخلق جوًا غامضًا ومثيرًا للترقب، شخصيات شديدة الغموض من حيث طبيعتها أو الدوافع التي تحركها، عالم كامل الألغاز على غرار عرائس الماتريوشكا الروسية (التي تقوم على فكرة الشيء داخل الشيء داخل الشيء)، فكلما ظننا أننا اقتربنا من حل أحد الألغاز التي تكتنف عالم الفيلم، تكشف تحته لغزًا جديدًا.

رغم إغواء مثل هذه الحكايات بإيقاع لاهث ومتسارع، فإن المخرج لا يتعجل أي شيء، تاركًا فيلمه يتكشف على مهل، محافظًا على الإيقاع الهادئ والطابع التأملي الذي ميز أفلامه السابقة. الفيلم يبدأ بخيط من دخان يتصاعد من سيجارة يونج سو وينتهي بحريق، وما بينهما يتصاعد الإيقاع بطيئًا حتى نصل إلى ذروة النهاية الدامية.

فيما تبقى من مساحة هذه المقال نقترب أكثر من شخصيات الفيلم وعالمه الغامض في محاولة لتفكيك هذا الغموض الذي يكتنف الشخصيات وعالمها.


«هاي مي»: رقصة الجائع العظيم

«هاي مي» روح طبيعية هائمة دون هدف. بداخلها جوع حقيقي لتجد سببًا لوجودها، ومعنى لحياتها. ولأن العالم لا يمنحها ما يسد جوعها فإنها تطعم نفسها الوهم كي تستمر في الحياة، (تتعلم البانتومايم، تختلق حكايات عن نفسها) لكن في اللحظات التي يتلاشى فيها الوهم ندرك مدى وحدتها وضياعها، مثل اللحظة التي حكت عنها في أفريقيا حين تمنت أن تتلاشى مع الغروب كأن لم تكن من ثقل الحزن الذي شعرت به. «هاي مي» هي تمثيل لجيلنا الحالي الذي يعيش على مساحات الوهم والمتخيل أكثر بكثير مما هو واقعي.

كل من شاهد الفيلم سيتوقف عند هذا المشهد، حين تتعرى هاي مي وترقص رقصتها الأخيرة والتي ستختفي بعدها دون أثر. منذ بداية الفيلم وهي تتحدث عن رقصة الجائع العظيم والتي تتوسل العالم من أجل معنى، تحاول أن تؤديها لكن كل ذلك مجرد بروفة لهذا المشهد العظيم. ضوء الغروب وترومبيت «مايلز دايفيس»، وهاي مي محاطة بكل ما يمكن أن يصنع لحياتها معنى. تبدأ هاي مي الرقصة في حالة من النشوة من الخفة وتنتهي مثقلة بحزن لا نهائي يمكنك أن تراه في حركة جسدها وعينيها.

لكافكا قصة بعنوان «فنان الجوع»، يتمثل فنه في قدرته على الجوع لأيام عديدة، عاش حياته كلها في أضواء وهمية تمتع فيها بحب العالم حيث تحول فنه إلى عرض جماهيري، تتلاشى الأضواء ويجد نفسه وحيدًا أمام حقيقة أنه كان مجبرًا على الجوع، لأنه لم يجد الطعام الذي يشتهيه، يستمر في جوعه حتى يتلاشى دون أثر. أيًا كان السبب وراء اختفاء «هاي مي» فهي الأخرى قد تلاشت لأنها لم تجد ما تشتهيه روحها.


«بين»: باب براق لكابوس مرعب

في حوار مع المخرج لي تشانج دونج، تحدث عن أن شخصية بين تمثل نوع الحياة التي يرغب الجميع أن يحياها هذه الأيام، حياة الثراء والراحة وبلا عمل تقريبًا. لكن «لي» يشير عبر شخصية «بين» الي الجانب المظلم لهذا الحلم، لذلك نجد «جونج سو» يصفه بانه جاتسبي العظيم (ثري لكنه لا يعرف حتى ماذا يعمل) في إشارة لتحفة «جاتسبي العظيم» للروائي «سكوت فيتزجيرالد» التي تمثل التجسيد الإبداعي لنشوء وهم الحلم الأمريكي القائم على الامتلاك والرفاهية المادية، والكشف عن الكابوس الدامي الذي سكن تحت جلده الجميل.

«بين» مثال على المادية المتطرفة أنه شخصية بلا روح تمامًا، لم يبك أبدًا ولم يعرف الحزن. إنه مقلوب الوحش في حكاية «الجميلة والوحش»، إنه يخبئ وحشًا تحت قناع الأمير الوسيم. «بين» شخصية مرعبة وذات طابع كانيبالي، يتحدث عن الطعام فيقول «أنا أخترع تضحية لنفسي وألتهمها». يوحي الفيلم بأنه قتل «هاي مي»، والتي قالت عن «بين» إنه قال لها إنه يحب أمثالها من الناس. «بين» هنا يبدو كذئب يلتهم الوحيدين والضائعين.


جونج سو: مخيلة فنان غاضب

في أحد حوارات «لي تشانج دونج»، يتحدث عن أن ما جذبه لقصة موراكامي كان تيمة الغضب الدفين التي تتجلى في القصة. «جونج سو» هو تجسيد ذلك الغضب. متوحد وانطوائي ولا يجيد التعبير عن حقيقة عواطفه. يبدو طيلة الفيلم شخصية سلبية تمامًا تشاهد العالم من بعيد دون قدرة على الفعل. لا يؤمن «لي» بقانون العلّية (أن لكل نتيجة سببًا محددًا) لذلك ورغم كل الأسباب التي تبرر انفجار «جونج سو» الدامي في نهاية الفيلم يظل صادمًا وغامضًا. نحن هنا أمام ميلاد جديد للبطل كوحش مشوش.

يسأله بين عن نوع الرواية التي يكتبها؟ فيجيبه بأنه لا يعرف بعد، لكن العالم بالنسبة له لغز غامض. يمكننا أن نرى في المشهد الختامي انفجارًا يائسًا في وجه عالم غامض وزائف وشرير وهو ما يمثله بين. يمكن قراءة المشهد الأخير أيضًا كمشهد في رواية «جون سو». فقبل هذا المشهد نجد جون سو وللمرة جالسًا منهمكًا في كتابة رواية، ثم تتحرك الكاميرا نحو العالم الخارجي، ربما كإشارة لأن ما سيأتي هو جزء مما يكتبه.

في أفلام لي تشانج دونج السابقة،كان يمنح أبطاله الذين يعيشون واقعًا محبطًا، هامشًا يسمح لهم أن يعيشوا أحلامهم، هواجسهم ورغباتهم المكبوته، كايماءة لطف من إله رحيم.

في فيلمه «Oasis» تجد بطلة فيلمه المصابة بشلل دماغي، المحبوسة حرفيًا داخل حدود جسدها وعالمها الضيق، لكن يد «لي» تدفعها في حكاية حب فتنبت لها أجنحة، وإن كانت هشة كأجنحة الفراشات.

في فيلمه «Poetry»، تسعى عجوز ستينية رغم إصابتها بمرض الزهايمر ورغم ظروف حياتها الصعبة التي تعلم كتابة الشعر، وهو ما يفتح لها رؤى جديدة لحياتها التي تقف على خط الزوال، محاولة كتابة قصيدة وحيدة تضئ خطواتها الأخيرة قبل أن يبتلعها النسيان.

هنا في «احتراق Burning» نحن أمام أكثر رؤاه ظلامًا، يمكنك أن ترى ذلك بوضوح في مصير شخصياته، وفي كادرات الفيلم التي يغلب عليها الأزرق البارد الذي يعزز وحدة واغتراب أبطاله، باستثناء المشاهد المرتبطة بشخصية «بين» يغلب عليها لون أصفر لامع، والأصفر هنا لا يعبر عن أي دفء أو حميمية بقدر ما يعبر عن البريق الخادع للحلم المتمثل في بين. هناك شيء متوحش في قلب هذا العالم الذي يلتهم كائناته أو يحولهم إلى وحوش.