العصافير تزقزق، وتبدأ الورش والمصانع الصغيرة في العمل، غابات كثيفة وجميلة وهادئة، شلالات ساحرة. هكذا تسير الحياة الرتيبة لسكان «twin peaks» المدينة الصغيرة التي تقع في ولاية واشنطن. ولكن يتغير كل شيء داخل المدينة الهادئة، حين يستيقظ سكانها صباحاً على خبر العثور على جثة طالبة الثانوي «لورا بالمر»، وتظهر عليها علامات تعذيب. ويتولى عميل المباحث الفيدرالية «كوبر» التحقيق برفقة شرطة المدينة.

هكذا حقق الجزءان الأول والثاني اللذان عرضا في مطلع التسعينات نجاحا مدويا. خصوصاً مع نهايته التي كانت مبتكرة آنذاك. ساهم المسلسل في تطور المسلسلات من حيث كتابة الشخصيات وتطور الأحداث. ومن ضمن النقاط العبقرية والتي لم يفهمها متابعو المسلسل آنذاك هى عندما أخبرت لورا بالمر العميل كوبر في «الهوة السوداء» (ولا داعي لشرح ما هي تلك الهوة الآن) أنهم سليتقون مرة أخرى بعد 25 عاما. وبالفعل عرضت الحلقة الأولى من الموسم الثالث بعد 25 عاما بالتمام والكمال من وعد لورا بالمر.

حقق المخرج السريالي «ديفيد لينش» هو وشركاؤه من كتاب الحلقات والمخرجين طفرة في كتابة المسلسلات آنذاك. فهل استطاع ديفيد لينش في الموسم الثالث تقديم طفرة جديدة، خصوصاً مع تطور كتابة وإخراج المسلسلات مؤخراً؟


حين استرد لينش وديعته

الضغوطات من منتج الجزءين الأول والثاني سببت في تقليل سيطرة لينش عليهم، مثل تغير مسار وإضافة أحداث، ومشاركة العديد من الكتاب والمخرجين في الحلقات. كانت النتيجة النهائية جيدة، ولكنها لا تشبه أعمال لينش الفنية سوى في الحلقات التي يكتبها ويخرجها بنفسه. وهذا ما دفعه لإخراج فيلم منفصل يعرض رؤيته بشكل أكثر تعقيدا وتحررا وهو «twin peaks: fire walk with me».

ولكن من الحلقتين الأولى والثانية في الموسم الثالث يعلن لينش سيطرته على كل شيء، سواء في طريقة السرد أو الرؤية البصرية. فطريقة السرد كعادة أعمال لينش، تبدو الخطوط الدرامية لا يجمعها رابط ما. وظهور شخصيات جديدة في مدن أخرى غير twin peaks. وحوادث قتل. والأغرب وجود نستخين من كوبر. وكلمات غامضة تقال في العالم الموازي. مشاهد جنسية ودموية وبالتالي يصبح المسلسل للكبار فقط.

وقد امتاز المسلسل سابقا بالكوميدية الشديدة. ولكن اختفت تماما في أول حلقتين. الرؤية البصرية يغلب عليها الطابع القاتم والألوان السوداء والبنية. وكثرة مشاهد الطريق المظلم التي تتكرر في كل أعمال لينش. والغرف المظلمة التي تبدو وكأنها تنتمي إلى عالم آخر. كذلك تظهر قلة النفقات على المسلسل من نوعية الكاميرات المستخدمة، وصناعة مؤثرات بصرية بشكل شديد البدائية.


الخير والشر:

لا يختلف المسلسل من موسمه الأول للثالث عن فلسفة بقية أعمال لينش، أنها أشكال مختلفة لتقديم الصراع الأبدي بين الخير والشر. حيث يحاول تقديم نماذج واضحة للخير والشر. الأمل وفقدانه، الظلام والنور. الحرية والهيمنة، بين هذه المفاهيم يحتار الإنسان ويقع في اختيارات مختلفة.

Twin peaks جسد الشر المطلق في الهوة السوداء، والتي يأتي منها «بوب» وهو كائن شرير يسيطر على أجساد البشر ويدفعهم لارتكاب المصائب. وأحيانًا يقتل كما حدث مع سارة بيكس، ولورا بالمر. وعلى جانب آخر تواجهه مجموعة «الوردة الزقاء» على الأرض. وكائنات الهوة البيضاء التي تمثل الخير المطلق. الخير المطلق والشر المطلق مُثل في الهوتين البيضاء والسوداء. تطلق الهوة السوداء نسخة من العميل كوبر مسيطر عليها من روح بوب في نهاية الجزء الثاني. وتطلق الهوة البيضاء العميل كوبر الحقيقي ليقتل نسخته الشريرة وينهي على مخططات بوب.

جمع لينش أهم الممثلات اللائي عملن معه سابقا في أدوار مساندة مثل «نعاومي واتس»، و«لورا ديرن». بالإضافة لمشاركة النجمة الإيطالية «مونيكا بولوتشي» كضيفة شرف في إحدى الحلقات. كما شارك ديفيد لينش نفسه بتقديم إحدى الشخصيات الأساسية وهي رئيس مجموعة الوردة الزرقاء العميل «جوردن كول». تلك الأسماء بالإضافة لبعض ممثلي المواسم السابقة ساهموا في جودة تجسيد الشخصيات.


الحلقة الثامنة: lsd مجاني

من غير المحمود استخدام الكلمات التي على وزن أفعل في الكتابة الفنية، نظراً للرؤى المختلفة للفن وبالتالي اختلاف الأحكام والتقييمات. ولكن هل هناك شكا أن اللحقة الثامنة من هذا الموسم تعد الأغرب في تاريخ الدراما التلفزيونية؟ وعقب عرض الحلقة رأينا سيلا من فيديوهات اليوتيوب و المقالات النقدية التي تحاول تفسير الحلقة أو التحدث عن غرابتها.

هذه الحلقة من المفترض أنها تعرض مقاطع بصرية لدخول بوب مصدر الشرور الكرة الأرضية، تبدأ الأحداث بتفجير نووي مجهول عندها تدخل الكاميرا لعمق عش الغراب (الدخان الناتج عن الانفجار النووي). وداخل عش الغراب نرى رؤى بصرية غير محددة الزمن، وغير مفهومة طبيعتها. سحب ودخان وكرات نارية وسديم فضائي والكثير من الأشكال.

كما تختلف بعض المشاهد من حيث اللون، فبعضها مصور بالأبيض وأسود وبعضها بالألوان. ونعود للأرض لتنتهي الحلقة بمشهد التنويم المغناطيسي للقرية والرجل الغريب الذي تتسبب عباراته في تنويم كل من يسمعها، ودخول الضفدعة (والتي ربما تمثل بوب) في جسد المراهقة النائمة.

تقديم مشاهد فنية تتسبب في هلوسة للمشاهدين، حلم ظل يراود العديد من المخرجين وخصوصاً السريالين، حدثت العديد من المحاولات لم يتوج بعضها بالنجاح، كتجربة «جودورسكي» في الفيلم الذي لم يكتمل dune. هل حاول لينش في العمل الذي قد يكون الأخير في مسيرته تقديم تلك التجربة للمشاهدين؟ ربما وربما لم يقصد سوى تقديم حلقة سريالية خالصة. ولكن كان تأثير الحلقة غريبا ومختلفا على كل من شاهدها.


في رحاب رجل الجمارك غير اليقظ:

«نحن مثل الحالم الذي يحلم، ثم يعيش داخل الحلم.» تقول مونيكا بولتشي.

يقول كوبر؛ «نحن داخل الحلم.»

ويقول الرجل ذو الأيدي المبتورة: «هل هذا ماض أم مستقبل؟».

يتحدث لينش في كتابه «لينش عن لينش»، عن أفلامه التي لا يفرق المشاهد بين هل تحدث في الحلم أم الواقع، وكيف يفرق بينهم، بقوله إن الأمر يشبه التعامل مع رجل جمارك غير يقظ، فتتسلل مشاهد من العالمين دون ترتيب معين.

ويمكن أن نشبه كذلك نهايات أعمال ديفيد لينش بأنها فوضى كاملة حيث تتداخل عوالمم مختلفة. وفي twin peaks تبدأ الفوضي تقريباً مع جملة مونيكا بولتشي والتي عندها بدأ تسلسل النهاية. النهاية التي تداخل فيها أكثر من عالم، عالم الحلم، والحقيقة، والماضي، والمستقبل، والأرض، والهوة الفضائية.

هل يمثل twin peaks طفرة في صناعة المسلسلات؟ ربما لم يحقق الموسم الحالي نسب مشاهدة استثنائية، ولكن يمكن القول إن نسب مشاهدته جيدة، بالإضافة لترحيب نقدي كبير وشديد، فلن يكون المسلسل طي النسيان، وهذا يزيد من فرصه تأثيره المستقبلي.

ومع ذلك المسلسل شديد الغرابة وسرده شديد التعقيد الثورية، ولكن سمحت ظروف لينش باعتباره مخرجا له مكانة تاريخية، وقدرته على توفير طاقم تمثيل جيد بأقل الأمكانيات المادية. في أن يكون متحررا من القيود ويقوم بتجربته بالكامل. غالباً لن يتكرر الأمر مثله مع مخرجين وكتاب آخرين. ولكن قد يساهم المسلسل في تطور الصناعة، من خلال أخذ بعض الأفكار الجزئية وتطبيقها سواء في طريقة السرد أو تصميم بعض المشاهد إلخ.