يعود مهرجان كان في دورته الـ75، بطاقة كاملة بعد دورتين إحداهما افتراضية، والأخرى هجينة لم تخلق للمهرجان وهجه المعتاد.  هذا العام،  الإجراءات الاحترازية أصبحت شيئًا من الماضي، لا تضييق على ارتداء الأقنعة داخل الصالات ولا في أي من قاعات المهرجان، ليصبح قناع الوجه منظرًا نادرًا وسط الجماهير، حسنًا اختفى الوباء بشكل كبير أو على الأقل الذعر منه، ما يسمح للمهرجان الأكبر في عالم السينما بالعودة بكامل تألقه. 

هذه الدورة الأولى لي بعد محاولات لحضور باءت بالفشل نتيجة لوباء أثر كثيرًا على مشهد صناعة السينما ومهرجاناتها. تجربة غامرة لا يمكنك التوقف فيها للحظة، مقابلات مهنية وودية، أفلام تعرض في جميع الأوقات في قاعات كثيرة، بعضها يشبه المسارح وأخرى سينمائية، وحفلات تستمر إلى وقت متأخر، وعرض أزياء حي على طول شاطئ المدينة، اختصارًا كان هي الميكروكوزم الخاص بجماهير الأفلام من محبي السينما المخلصين الذين لا يهتمون إلا لحضور أكبر عدد ممكن من الأفلام، النقاد والصحفيون، صناع الأفلام وموزعوها، والنجوم أو أولئك الطامحون للحصول على صورة على السجادة الحمراء أو أخرى لتوم كروز بينما يغادر فندقه.  

جماهير وفنادق وسجادة حمراء    

أجواء صيفية مشمسة، رطوبة عالية تجعل التنفس صعبًا بعض الأوقات، وجماهير كثيرة تجعل من مسافة المشي من بيتي إلى المهرجان مهمة صعبة. المهرجان منقسم إلى عدة مساحات يقع معظمها في شارع الكروازيت الشاطئي- المغلق جزئيًا من أجل المهرجان- المكتظ بالشرطة والحراس والجماهير في هذا الشارع تظهر معظم أشكال المبالغات، سيارات فيراري ولامبورجيني فارهة، وسيارات كلاسيكية عتيقة ذات أسقف مفتوحة، بذلات سوداء وأخرى تتبع موضات أكثر غرابة، وفساتين، وآخرين يرتدون ملابس أكثر عملية يتنقلون بدراجة أو سكوتر كهربائي. في المدينة أيضًا يمكنك أن ترى سينمائيين عظامًا يتنقلون، تشاهد إيليا سليمان بينما يتمشى أو أريان لابيد (بطلة “سن الكلب” للانثيموس) تنتظر عرضًا ضمن مهامها كعضو في لجنة التحكيم. بينما يبدأ الشارع في العمل منذ السابعة صباحًا لمحترفي الصحافة والصناعة يستمر السهر في المدينة حتى الرابعة صباحًا. النوم عملة نادرة في كان، لكن لا أحد يأبه في تلك الأيام المخصصة للاحتفال بالسينما.

أمام مقر نصف شهر المخرجين إعلان ضخم لفيلم توم كروز الأحدث «توب جان»، الذي منحه المهرجان سعفة ذهبية مفاجئة أثناء حضوره، وخصص له درسًا للحديث عن مسيرته. على امتداد الشارع يقف موزعو مجلات الصناعة الشهيرة فارايتي وهولييوود ريبورتر، أمام السجادة الحمراء أيضًا حشود ضخمة تشاهد ما يحدث، وآخرين يقفون حاملين يافطات تطلب تذكرة لفيلم معين، موزعون مشهورون يضعون يافطاتهم على مكاتبهم المؤقتة أمام القصر في شقق قد يصل إيجارها إلى 50 ألف دولار مقابل فترة المهرجان، بينما يصل إيجار مساحة في السوق إلى 6 آلاف دولار على الأقل. في السوق الموزعة بين قصر المهرجانات والقرية الدولية أجنحة لدول وشركات، دولتان عربيتيان فقط يمتلكان جناحين وطنيين هما تونس والسعودية. أجواء لا مثيل لها في أي مكان من العالم، هوس بالسينما في كل أنحاء المدينة الصغيرة. 

على الجانب الآخر للمدينة، يظهر الوجه الطبيعي للمدينة المتوسطية الصغيرة، حيث يختفي الصخب شيئًا فشيئًا، لكن بالطبع المدينة بأكملها مكرسة للمهرجان طول أيامه، إنها احتفالية لا تشبه غيرها، وسواء كنت من المحترفين أو من جماهير المهرجان أو حتى المصيفين فالتجربة بأكملها لا تشبه إلا نفسها، مُلخصًا يمكن اعتبار تلك المدينة كوجهة حج لمحبي السينما في جميع أنحاء العالم.

بطاقات وتذاكر وطوابير

بوستر مهرجان كان في دورة عام 2014
بوستر مهرجان كان في دورة عام 2014

أول ما تفعله عند الوصول إلى كان هو التوجه للحصول على بطاقتك التي يحدد نوعها أي الأماكن ستدخل، وأولوية دخولك إلى قاعة السينما، وعلى كم المزايا المتاحة لك. إضافة يمنحك المهرجان هذا العام عند حصولك على بطاقتك على بوستر خاص بعام من أعوام المهرجان، حصلت على بوستر عام 2014، الذي يضع مارشيللو ماستورياني في لقطته الشهيرة في «8 ونصف» وعلى تلك الصورة اسم المهرجان. 

قبل بدء المهرجان بأربعة أيام، فتح نظام حجز التذاكر، وبالتالي أصبح الاستيقاظ في السابعة صباحًا أمرًا ضروريًا لحجز أهم أفلام الأيام الأربعة المقبلة. نظام حجز التذاكر الإلكتروني هو ميزة ألغت طوابير الانتظار الطويلة، وبالتالي تستطيع الوصول إلى عدد أكبر من العروض كل يوم، لكن نظام الحجز ظل متذبذبًا طوال الوقت، وهو الأمر الذي أصلحه المهرجان للصحافة من ثاني أيام المهرجان بينما استمر حجز الصناعة في العمل بشكل سيئ لأيام أطول، لكن تذاكر الدقائق الأخيرة وعروض السوق منحت حاملي بطاقات الصناعة تعويضًا كافيًا. 

يمتلك المهرجان مجموعة من القواعد الأخرى التي تشكل جزءًا من هويته، إذا أردت حضور عروض المساء في قصر المهرجان فلا بد من ربطة عنق وبدلة توكسيدو أو سوداء على أقل تقدير، أيضًا إذا قمت بحجز فيلم ولم تحضره يوجه إليك إنذار، وفي الفيلم الثاني الذي لا تحضره يتم إيقاف بطاقتك، لكن في اعتقادي لم يحدث ذلك هذا العام، لأن نظام حجز التذاكر وإلغائها ظل متذبذبًا خصوصًا لحضور الصناعة. كل حضور المهرجان يرتدون بطاقات المهرجان 

الصوابية السياسية في مرمى النقد

شواطئ كان - تصوير محمد طارق
شواطئ كان – تصوير محمد طارق

فيلم (اقطع – Final Cut) لميشيل هازانافيسيوس افتتح كان هذا العام، وهو فيلم كوميدي عن مخرج يقوم بإخراج فيلم زومبي، وبينما يقومون بالتصوير يُهاجم طاقم التصوير من قِبل مجموعة من الزومبي بالفعل، لا داعي لحرق أحداث الفيلم، لكن يمكننا الإشارة إلى أن الفيلم المختار لافتتاح الدورة الـ75 هو فيلم بسيط لا يحمل كثيرًا من الفلسفة، بل يحكي قصة بسيطة مع كثير من التحيات للسينما ذاتها، وبخاصة سينما تارانتينو، وسخرية من الصوابية السياسية ونظم العيش الحديثة، من دون خسارة جماهيرية الفيلم. 

على الناحية الأخرى، وفي ما يخص الكوميديا السوداء الساخرة بشكل أكثر فلسفية من الصوابية السياسية، يأتي فيلم روبن أوستلاند الأحدث «مثلث الحزن – Triangle of Sadness» والمتوج بالسعفة الذهبية لهذا العام.

الفيلم يبدأ بمشهد لعارضي أزياء يحاورهم مذيع مبالغ في أدائه، يسأل أحدهم ماذا يتطلب من المرء ليصير عارض أزياء، فيجيبه الآخر أن يمتلك جسدًا رياضيًا، بعدها يدخل بطل الفيلم كارل إلى تجربة أداء، فيخبره أحد المقيمين ألا يعقد حاجبيه ليقلل من «مثلث الحزن» خاصته. تشي تلك البداية بكل ما يود أوستلاند قوله خلال الفيلم عن عالمنا المعاصر في نقد ساخر عنيف، هذا عالم مبني على المظاهر، ولا يأبه لأي شيء آخر. 

ينقسم الفيلم إلى ثلاثة أجزاء، أولها واقعي، وثانيها كوميديا فارص، وثالثها ديستوبي، يأخذنا المخرج في رحلة من خلال بطليه كارل وحبيبته يايا مؤثرة مواقع التواصل الاجتماعي، إذ يهتم في بداية الفيلم بعرض ديناميكيات علاقتهما، ثم ينتقل إلى الرحلة السياحية الفاخرة التي حصلت عليها يايا مجانًا، تلك الرحلة التي تحدث على متن باخرة يركبها أثرى أثرياء العالم، رجل أعمال روسي يعمل في الزراعة يبيع «الخراء» كما يقول، تاجر أسلحة إنجليزي وغيرهم. هكذا تتحول تلك الباخرة إلى ميكروكوزم لعالم يوضح بشكل مبالغ فيه الفروقات الطبقية وطرق الحصول على الثروة. خلاصة فيلم أوستلاند هو بشكل ما استكمال لفيلمه السابق “المربع”، وإن كان هنا أكثر تواصلًا مع العالم بشكل أكبر من سابقه، لكنه يحافظ على تلك السخرية السوداء من كل مظاهر العيش الحديث، ولكن يبقى السؤال الأكثر أهمية: هل يوجد مثلث الحزن على وجه البطل أم أن تلك الفصول الثلاثة للفيلم تشكله؟