في العاشر من نوفمبر 2015، قلنا: قد حان الوقت أخيرًا.

بالأعوام الماضية، اكتشفنا الخريطة الوراثية الكاملة للبشر، استطعنا نقل الصفات، من وإلى الأجنة، قبل زراعتهم في الأرحام، تمكنّا من معالجة عددٍ هائلٍ من الأمراض، التشوهات، ومنحنا الآباءَ أملًا في مستقبلٍ أفضل لذرّيتهم، لم تكن هذه سوى البداية. منذ عشرون عامًا، قررنا اتخاذ الخطوة التالية.

برحمٍ صناعيّ داخل معمل أسفل رمال الصحراء الغربية، صنعنا جنينًا كاملًا من الصفر، وضعنا بجسده كافة الصفات التي اخترناها بعناية، سواء من البشر أو المخلوقات الاخرى، أعطيناه ذكاء الذئاب، سرعة الفهد، صمت الثعبان، وعين الصقر، اخترنا من جينات البشر أنقاها، حتى صار الجنينُ مكتملًا ، ثم بدأت مرحلة المراقبة.

داخل الرحم الزجاجيّ، بدأ الجسد في النمو، أمددناه بالدم، وقمنا بسحب الفضلات من السائل المحيط به، حتى أتم عامًا كامل داخل الرحم؛ لكنه لم يستيقظ ، ظلت إشارات نشاط مخه طبيعية، وكذلك نبض قلبه؛ لكنه بقي في حالة سباتٍ تام، حينها، قررنا البحث عن السبب.

بعد البحث، جئنا بطفلٍ له ذات العمر، الوزن، الصفات الظاهرية، قمنا بالمقارنة؛ فوجدنا الرضيع الطبيعي أثقل، تحديدًا 21 جرامًا، حين رأينا الرقم صحنا جميعًا:

– الروح!؛ ليس له روح.

وبهذا توقفت تجربتنا،

نفدت منا الأفكار، لم يكن بوسعنا عرض التجربة على اللجان العلمية أو نشر البحث حول العالم إن كنا عاجزين عن إيقاظ طفلنا المعجزة، بالطبع لم نترك شيئًا للصدفة، كررنا التجربة التي أجراها (دانكن ماكدوجال) عام 1901؛ قسنا أوزان المحتضرين قبل وبعد الموت، وتأكدنا أن الناقص 21 جرامًا، عرفنا كيف يخرج ال21 جرامًا من الجسد؛ لكننا بقينا عاجزين عن معرفة كيفية إيقاظه بعد الخروج. أصبحت المشكلة الآن هي:

«كيف نوقظ إنسانًا بلا روح ؟»

توقفت التجربة عشرون عامًا؛ لكننا لم نجهضها، تابعنا الجسد داخل الرحم الزجاجي وهو ينمو، حتى تاريخ العاشر من نوفمبر2015؛ أعلن أحدنا أنه توصل لفكرةٍ – أخيرًا – لإيقاظ الجسد النائم؛ لكن لتنفيذ الفكرة علينا ضمّ مجموعةٍ أخرى من العلماء إلى الفريق، من هم؟، ومن أين هم؟، لا أحد منا عرف؛ لكننا وافقنا، وكانت الفكرة كالتالي:

– إن كنا عاجزين عن تحريكه أو إيقاظه بلا روح؛ إذن علينا جلب الروح له.


– في الشهر الأول من التجربة، ديسمبر 2015،

أفرغ الفريق الجديد الحجرة حول الرحم الزجاجي من المعدات بالكامل، أبقَوْا معدات التنفس وقياس الإشارات الحيوية فقط؛ لكنهم أزالوا كل شيءٍ آخر، جلبوا ثلاثة أسِرّة ووضعوها بالتوازي أمام الرحم الزجاجي، ثم ثبتوا بقوائم الأسرّة أجهزة قياسٍ تشبه تلك التي استخدمناها لقياس وزن الروح .

بعد الانتهاء من الاستعدادات، جلب الفريق ثلاثة أجساد محتضرة، أحدها كان لرجلٍ طاعنٍ في السن، مصابٍ بالسلّ الرئويّ ، الثاني كان لطفلٍ مصابٍ بثقبٍ في القلب، والجسد الثالث لسيدةٍ في المراحل الأخيرة من السرطان.

عرفنا – أنا و بقية العلماء – أن انتظار موت الأجساد لن ينقل الروح إلى الرحم الزجاجي ، لكن خطة الفريق الجديد كانت مختلفةً عما توقعنا؛ أوصلوا الأجساد بأسلاك وغادروا الحجرة، قبل أن تبدأ أبشع عملية إعدام كهربيّ رأيتها طوال حياتي.

ضربت عاصفة الكهرباء الحجرة بالكامل، صرخ المحتضرون الثلاثة بألمٍ أسفل الأضواء الزرقاء والشرر المتصاعد من الأسلاك الموصلة برقابهم و صدورهم، استمر الوضع لساعات، تهدأ به الكهرباء ثم تعود من جديد، إلى أن انتهى كل شئ.

حين عدنا للحجرة رأينا الأجساد الثلاثة المتفحّمة فوق الفراش، لم يكن بوسعنا الاعتراض أو المغادرة، خوفًا أو فضولًا؛ لذا بقينا.

تقارير التجربة الأولى قالت أن الكهرباء تؤثر على مجالات الطاقة بالجسد، و أن تعذيب الأجساد الثلاثة أثناء الاحتضار قد يساعد على تحفيز الروح لتنتقل من المحتضرين إلى الجسد الوحيد السليم، لا أدري من أين أتتهم هذه الفكرة، أو كيف أقدموا على فعلٍ كهذا؛ لكنني أبقيت فمي مغلقًا وراقبت بصمتٍ الجسد الذي رفض الاستيقاظ.

بعدها بأيام، بدأت ذبذبات مخه الكهربائية تختلف، أسرعوا للمشاهدة، كانت الإبرة فوق الورقة البيانية تتحرك بجنون؛ لكن الرجل ظلّ ميتًا إكلينيكيًّا؛ بلا روح.

ثم جاءت المرحلة الثانية،

– الشهر الثاني من التجربة، يناير 2016.

بعد أن أزيلت الأسرة الثلاث، أحضروا فراشَيْن متقابليْن، أحدهما مزودٌ بمجسّات أربعة لإصدار الذبذبات الكهرومغناطيسية، وضعوا مثلها بكافة جوانب الحجرة، أرقدوا على هذا الفراش رجلًا عشرينيّا يحتضر، في ساعاته الأخيرة، التقرير الأوليّ للتجربة قال:

«الروح مثلها كمثل الآيات القرآنية، الملائكة، الشياطين، القوى الجسدية، وكل شيءٍ حولنا، تتأثر بالقوة الكهرومغناطيسية، سنحتجز الجميع بالداخل».

ثم جاءت الخطوة التي لزم علينا جميعًا الموافقة عليها، كان علينا تحرير رجلنا الصناعي من الرحم الزجاجي ووضعه بالفراش المقابل، بالطبع كانت مخاطرة كبيرة و صاح اثنان منا:

– بالطبع لا !!

قبل أن ينتهيا من الجملة تلقّى كلٌّ منهما رصاصةً في الرأس أردته ميتًا، لم تعد لدينا رفاهية الموافقة أو الرفض،أعلن الرجال بالفريق أننا جميعًا سجناء هذا المكان حتى تنتهي التجربة؛ فنخرج جميعًا أو نموت جميعًا هنا.

تم اقتيادنا إلى حجراتٍ منفصلة داخل المعمل و حُبسنا هناك، سمعت صيحات زملائي و طرقاتهم فوق الأبواب المغلقة؛ لكن عقلي ظل يعمل: ماذا عنوا بــ«سنحتجز الجميع بالداخل ؟»، من المقصود بالجميع؟، وماذا لو فشلوا في احتجازهم ؟

ثم بدأت التجربة، في خلال ثوانٍ ضاعت صيحات زملائي وسط صرخات أخرى أكثر قوة وأشد غلظة، انفجرت كافة المصابيح، المرايا، والألواح الزجاجية، ثمّ ارتج المكان بالكامل حتى شعرت بالأرض تنهار أسفل قدميّ، صرخت وحاولت تحطيم الباب، لكن ما إن لمست المقبض حتى تراجعت صارخًا؛ كان ساخنًا كالجمر!

علت الصرخات أكثر، ثم بدأ الباب الحديدي ينصهر أمام عينيّ، انصهرت قوائم الكراسي، الأقلام، حامل المصابح، وشعرت بالاختناق؛ كان الأمر أكثر من ذبذباتٍ كهرومغناطيسية؛ شيءٌ آخر كان يدمر المكان بمن فيه.

انصهار الباب سمح لي بالعبور، الضوء خارج الحجرة كان أبيض ساطعًا، حميت عيناي وأنا أركض، تعثرتُ بدماء، أشلاء وأمعاء بين أوراقٍ و أسلحةٍ منصهرة، لم أعد أميز جسد مَن هذا أو بقايا من هذه، عجزت عن رؤية مصدر الضوء؛ لكنني عرفت أنه صادرٌ عن حجرة التجربة.

خفت أن أتجه إلى هناك؛ الكُل كانوا موتى أو يُحرقون أحياءًا، ليست (روحٌ) هي من تسببت في هذا؛ لكنه شيءٌ أكبر، اتجهتُ إلى المخرج وأنا أجرّ ساقيّ و أحاول باستماتةٍ التقاط أنفاسي، مادت الأرض أسفل قدمي، رأيت الرخام الأبيض ينهار إلى الأسفل، الرمال والأحجار تبرز ثم تعود إلى الأسفل كأنها تبتلع نفسها، صرخت، قاومت، وصلت إلى الباب، و قبل أن أخرج سمعت صوته!.

كان يعوي، يضحك ويعوي بصوتٍ زلزل كلّ ما هو حولي، استدرت، رأيت الجسد الممشوق يتآكل، رأيت عينًا واحدة لمعت كجمرةٍ داخل الوجه الذي نحتناه بعناية فيما مضى، استيقظ الرجل من الرحم، لكنه صار مسخًا، أسود الجسد، أعورًا.

كافحتُ كي أهرب؛ لكن جسدي خذلني، وقبل أن أستدير لأخرج، انفجرت عيناي من محجريْهما وسقطتُ أرضًا وسط التراب والدم.


بأوائل شهر فبراير لعام 2016، استيقظتُ بمستشفى لا أرى أمام عينيّ سوى الظلام، لا أشمّ سوى رائحة المطهّرات التي عرفتُ من خلالها مكاني، حين أحسست مذاق مادةٍ بلاستيكية بين شفتيّ واكتشفتُ عجزي التامّ عن الحركة، عرفت أنني سقطت في غيبوبةٍ حين سمعت الأحاديث حولي، وبمضيّ الوقت، وتناوب المرضى والممرضين على الحياة والموت حولي؛ أدركت أنني باقٍ قيد هذه الغيبوبة إلى أن تقوم الساعة، وانني سأحسد من ماتوا هذا اليوم إلى أن ألحق بهم.

بعد سنواتٍ بدأت صرخاتٍ مشابهة لما سمعته ليلة التجربة تعلو حول العالم، عرفت حينها أن الحجيم الذي دُفن تحت الرمال مع صانعيه لم ينتهِ ليلتها.

تأكدت أن الأعورَ مازال حيًا.