حكاية أولى: في إحدى مغارات حلوان كان يختبئ من سمته الصحافة المصرية آنذاك بالسفاح، لص وقاتل يسمى «محمود أمين سليمان» كان حديث الصحف كلها نهاية الخمسينات ومطلع الستينات، حولته المخيلة الشعبية إلى بطل وتابعت أخباره بشغف حتى نهايته المريرة.

ساعة ونصف الساعة هي زمن حصار الشرطة للمغارة التي يختبئ بها السفاح والذي كان يهدد خلالها بإطلاق الرصاص على نفسه إذا لم تستجب الشرطة لما يطلبه، طلب خلال زمن حصاره أن تحضر له الشرطة ورقاً أبيض لأنه يريد أن يكتب مذكراته، ثم طلب أن يحضروا له «محمد حسنين هيكل» رئيس تحرير الأهرام وقتها والذي كان بصحبة «عبدالناصر» في جولته الآسيوية. انتهى الحصار بتبادل إطلاق النار بين الطرفين، حين أدرك «محمود أمين سليمان» أنها النهاية، أطلق على نفسه آخر رصاصة بمسدسه ليكتب بيده نهاية حكايتة المثيرة.

حكاية ثانية: كان «نجيب محفوظ» قد توقف لسنوات عن كتابة الرواية بعد قيام ثورة يوليو 1952 ظنًا منه أن الثورة قادرة على مداواة العلل التي ألمت بالمجتمع المصري وجسدتها رواياته الواقعية. عام 1959 يعود عراب الواقعية برواية رمزية هي «أولاد حارتنا» تشعل الرأي العام وتثير جدلًا واسعًا في الأوساط الثقافية والصحفية بعد نشرها مسلسلة في الأهرام.

كانت رواية «محفوظ» تحمل نقدًا سياسيًا مبطنًا بعد أن لمح التناقض بين مبادئ الثورة وما يتحقق على أرض الواقع، بدا له آنذاك أن الثورة تسير في طريق آخر غير الذي بشرت به. لم يلتفت أحد لهذا البعد السياسي في روايته في خضم الجدل الديني الذي أثارته الرواية. لم يتابع محفوظ بشغف الجدل الدائر حول روايته، لأن عقله كان مشغولًا بحكاية أخرى، حكاية اللص الذي حولته المخيلة الشعبية إلى بطل أسطوري.

يسأله يحيى حقي في تلك الفترة عن قراءاته وعما يشغله؟ فيجيبه محفوظ: لا شغل ولا تفكير إلا في «محمود أمين سليمان»، والذي سيتحول على يد نجيب في روايته «اللص والكلاب» التي صدرت بعد شهور من مقتله إلى «سعيد مهران». في عام 1962 وبعد عام تقريبًا من صدور الرواية يجسد للشاشة الكبير «شكري سرحان» في كلاسيكية «كمال الشيخ» التي تحمل عنوان الرواية نفسه شخصية السفاح «محمود أمين سليمان» أو نسخته الروائية كما رآها محفوظ. الفيلم والرواية في نظري يمثلان المحاكمة الأولى للثورة أو لدولة يوليو في أوج مجدها.

حكايات مثيرة عديدة تكمن وراء «سعيد مهران»، يختلط فيها الخاص والعام،والواقع بالخيال الفني، سنحاول خلال ما تبقى من مساحة هذا المقال رسم الملامح العامة لواحدة من أكثر الشخصيات أيقونية في تراثنا الأدبي والسينمائي.


رصاصات «سعيد مهران» ضد دولة يوليو

كنت في ذلك الوقت أعاني من إحساس ضاغط ومستمر بأنني مطارد، كنت على قناعة بأن حياتنا في ظل النظام البوليسي الذي يحكمنا في تلك المرحلة بلا معنى.
«نجيب محفوظ» في حوار مع مجلة «باريس ريفيو»

في الحوار السابق يصف محفوظ حالته النفسية أثناء كتابته لرواية «اللص والكلاب». يسقط محفوظ كل قلقه وهواجسه على شخصية بطله «سعيد مهران». كان نجيب قد بدأ يسائل الثورة مستبصرًا مصيرها إذا استمرت في نفس الطريق الذي تسلكه الآن. يتأمل المسافة الشاسعة بين المبادئ الثورية وما يحدث فعليًا على أرض الواقع. تراجيديًا سعيد مهران هي تشكيك في شرعية دولة يوليو، هي صرخة احتجاجه الأولى.

يعود فيلم «كمال الشيخ» إلى بداية الحكاية، خيانة الزوجة والتابع لسعيد مهران، عكس الرواية التي تبدأ لحظة خروجه من السجن. يستطيع النص الفيلمي الذي أعده «كمال الشيخ» رفقة «صبري عزت» أن يؤسس لفكرة الخيانة التي تعرض لها «سعيد مهران» على مستوى أوسع عبر مشهدين:

أولهما؛ بعد سجن «سعيد مهران» يلتقي عليش ونبوية معًا، تعبر له نبوية عن قلقها على مصيرهما بعد ما فعلاه بسعيد فيجيبها عليش: دا القانون والقانون نغمة بياتي يا نبوية. ثم يسكران معًا في صحة القانون. هنا الخونة الحقيقيون ينامون في أحضان القانون، بينما سعيد مهران ينام خلف القضبان.

المشهد الثاني، في مكتبة السجن حيث يطالع «سعيد مهران» مقالًا لأستاذه «رؤوف علوان/كمال الشناوي» عن التفرقة العنصرية في أمريكا. هنا لمحة أولى عن خيانة الثوري القديم الذي لقن سعيد مبادئه عن العدل والمساواة، لم يعد يكتب عن علل الوطن، وكأن كل أفكاره قد تحققت في الواقع. بينما يتحدث عن علل وطن آخر.

هذه الخيانة ستتضح أكثر لسعيد بعد خروجه من السجن،حيث سيكون وقعها على سعيد أشد من خيانة زوجته وصبيه. فالعلاقة بينهما أشبه بعلاقة الخالق بصنيعته يوجزها محفوظ في روايته بقول سعيد حين يكتشف خيانة أستاذه: «تخلقني ثم ترتد»، بينما يصور النص الفيلمي لقاءهما كنقطة فاصلة في حياة «سعيد مهران»، بداية طريق سيسلكه وحده حتى النهاية.

في المشهد الذي يلي لقاء سعيد برؤوف علوان في بيت الطلبة، يصور «كمال الشيخ» سعيد وهو يسير بجوار شريط قطار وحيدًا عكس حركة القطار، وعكس حركة الناس.

يدخل النص الفيلمي مرحلة ثانية بعد خروج سعيد من السجن في أعياد الثورة، مرحلة تؤسس لتصور عن وطن يشبه سجنًا كبيرًا، وعن واقع عبثي تصبح حياة الأبرياء فيه بلا ثمن. منذ لحظة خروجه من السجن يصوره «كمال الشيخ» محاصرًا بقضبان حقيقية أو بما يشبه القضبان. يصوره في الأغلب على طرف الكادر أو في مكان هامشي داخل التكوين محاصرًا بالأجساد التي تشاركه التكوين.

في مشهد عودته للحارة بعد خروجه من السجن ليرى ابنته، نجده محاصرًا دائمًا داخل التكوين برجال الحارة الموالين لعليش، وكذلك المخبر/ممثل السلطة والذي نراه أيضًا يأخذ جانب صبيه الخائن عليش. تمامًا مثلما يقول لـ«نور/شادية»: «كان عليا سجان، دلوقتي بقوا ألف سجان».

بينما يتجسد العبث في الضحايا الأبرياء الذين يسقطون برصاصات سعيد الذي يتقمص الآن دور المخلص، يبحث بعزم نبي عن خلاص العالم محاولًا اجتثاث الشر من جذوره، بينما الخونة لا يمسهم السوء من قريب أو بعيد. يقول المعلم «طرزان/صلاح جاهين» بعد سقوط أحد الأبرياء برصاص سعيد الطائش: دنيا لها العجب، خردواتي لا له في الطور ولا في الطحين يموت عشان نبوية اتجوزت عليش.


البحث عن خلاص/البحث عن معنى

قرب نهاية الفيلم يجسد «كمال الشيخ» مأساة «سعيد مهران» في لقطة واحدة أيقونية. يخرج سعيد من خلوة الشيخ هاربًا مطاردًا من الشرطة يتجه نحو منطقة صحراوية وعرة لا تحوي غير الخرائب. يسقط سعيد لاهثًا في مقدمة الكادر منكس الرأس وفي الخلفية مئذنتان مهدمتان. هنا انتهت رحلة بحثه عن المعنى.

أزمة «سعيد مهران» هي أزمة البحث عن معنى لحياته بعد أن سقطت كل المرجعيات التي شيدت معنى حياته من قبل. العائلة: تخونه الزوجة وتنكره ابنته. خلوة الشيخ التي كانت جنة طفولته لم تعد كسابق عهدها، وكلمات الشيخ صارت بلا معنى. في المشاهد التي تجمع الشيخ مع «سعيد مهران» هناك مسافة دائمًا تفصل بينهما أو يتم تصويرهما في كادرات منفصلة كدليل على أنه لا توجد نقطة التقاء بينهما، كما يأتي صوت الشيخ بأداء «فاخر فاخر» محايد وبارد لا يمكن أن يعيه من يحترق داخله بنار الغضب.

أما «روؤف علوان» الذي خلقه خلقًا يرتد عنه، وحتى نور لم يدرك محبتها في قلبه إلا متأخرًا جدًا بعد أن انطلقت الرصاصة وسكنت القلب. يمكننا أن نتأمل دلالة المكان في مسكن نور الذي تطل نافذته على مشهد المقابر والذي يعطي مجالًا لسعيد مهران ليطرح بعضًا من تأملاته الفلسفية التي تتعلق بالحياة والموت مثلما يضيء أيضًا شخصية نور، فنور هي محبة صافية لا تعكرها الأيام ولا تغيرها الخطوب.

ضوء يختلج على التخوم الفاصلة بين الحياة والموت لا يبصره المرء إلا قرب نهايته في المسافة بين سقوطه وهاويته، تشعل الحنين في قلبه الفارغ إلى حياته التي توشك أن تنطفئ.

هذه اللقطة التي افتتحنا بها هذه الفقرة هي مجاز رحلته، رحلة البحث عن معنى في قلب واقع عبثي، رحلة الرصاصات الطائشة، رحلة إفلات الخونة وسقوط الأبرياء. لا شيء إذن في صحراء السؤال غير يقين العطش.


لقطات أشبه بطلقات رصاص

الفن كما أراه هو ضبط الانفعال لا إطلاقه
المخرج «كمال الشيخ»

بعد سقوط «سعيد مهران» مضرجًا برصاص الشرطة يختم «كمال الشيخ» فيلمه بتتابع من اللقطات الصامتة بليغة المعنى، مع قطعات مونتاجية سريعة: لقطة مقربة لوجه سعيد المدمي مع مسدسه – لقطة كاميرات الصحفيين مصوبة نحو المشاهد – وجه «نور/ شادية» المفجوع – كاميرا تتابع جثمان سعيد إلى عربة الإسعاف – عودة لوجه نور تحت هول الصدمة – رؤوف علوان والشرطي يتبادلان إشعال السجائر – يعود رؤوف إلى سيارته – لقطة عامة للجموع تخلي المكان كاشفة في عمق الكادر عن نور – لقطة متوسطة لنور وهي لا تزال تحت تعبير الصدمة – لقطة عامة لنور وحيدة في هذا المكان الخرب والمهجور.

تتابع اللقطات الذي ينهي به كمال الشيخ فيلمه من أجمل تتابعات النهاية في السينما المصرية وأكثرها إتقانًا. لقطات سريعة وصامتة تغزل معًا روح المأساة في أجلى معانيها. سعيد مهران هو نزيف أسئلة بلا إجابة، ابن الحلم الذي اختتم به محفوظ روايته «أولاد حارتنا»: «وكانو كلما أضر بهم العسف قالوا لابد للظلم من آخر ولليل من نهار، ولترين حارتنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب». لكنه فيما يبدو حلمًا مستحيلًا.