اجتهدت المخيلة البشرية كثيرًا في تصور نهاية العالم، مخلفة إرثًا طويلًا يتزايد باضطراد من سرديات الأبوكاليبس ونبوءات القيامة. أجرى الإنسان، المذعور من الموت واحتمالات الفناء النهائي، بروفات كثيرة لمشهد النهاية. ربما تخيل أنه بذلك سيكون أقل ذعرًا وأكثر ثباتًا حين يفاجئه ذات المشهد على مسرح الواقع.

نبوءات وتصورات لا تنتهي، من وحوش سفر الرؤيا وحتى غزو كائنات الفضاء للأرض، لكن هذا شأن المخيلة وحدها، أما الواقع فلم يكن قريبًا من هذه الحافة الحرجة مثل ذلك اليوم، 26 أبريل 1986، حين انفجر المفاعل الرابع داخل محطة تشرنوبل للطاقة النووية التابعة للاتحاد السوفيتي. هذه الكارثة الأسوأ من نوعها، والتي كان يمكن لتداعياتها أن تأتي على الحياة البشرية في قارة أوروبا بأكملها كانت أشبه ببروفة مصغرة للقيامة.

يستعيد المسلسل التليفزيوني القصير «تشرنوبل Chernobyl»، الذي كتبه «كريج مازن» وأخرجه «يوهان رينك»، الحادثة ضمن هذا المنظور الكارثي بكامل الرعب الكامن فيها، بواقعية شديدة مصحوبة بقدر لا ينكر من الإثارة والترقب ومن دون الوقوع في ابتذال الرعب.

في واحد من أجمل مشاهد هذا المسلسل، تخرج العائلات التي تسكن إلى جوار محطة تشرنوبل إلى جسر قريب لمشاهدة الحريق عن كثب بعد أن جذبهم الضوء الغريب للإشعاع، يشيع جو من المرح بينهم، تقول امرأة إن المنظر جميل، وبحركة كاميرا مبطأة نشاهد العائلات وهي تلهو داخل عاصفة من الغبار الذري.

المشهد أشبه برقصة مرحة مع الموت المقبل، هذا جزء من طبيعة الرعب الذي تتضمنه هذه الوثيقة الدرامية والتي تعد حتى الآن الأقرب إلى حقيقة هذه الكارثة والأكثر إبداعًا من بين الأعمال التي تناولت أو استلهمت حادثة تشرنوبل في السينما والتليفزيون. وهو ما يبرر حالة الاحتفاء النقدي والجماهيري المستحق الذي صاحب عرض هذا العمل. نحاول خلال هذا المقال الوقوف على بعض أسباب قوة وجاذبية هذا المسلسل.


السرد بأقصى إثارة ممكنة

يشير مفهوم «الحكاية» إلى ما يجري أو ما يصور، بينما يشير «السرد» إلى الطريقة التي تقدم بها الحكاية إلى المشاهد.

استطاع النص الاستثنائي الذي كتبه «كريج مازن» أن يسرد حكاية نعرف مسبقًا مآل مساراتها بقدر عظيم من الإثارة والترقب. تحديد لحظة البدء هي أحد العناصر المهمة في تقييم قوة أي نص، ونص «مازن» يبدأ من نقطة قصوى.

يبدأ السرد بذروتين متتاليتين ندخل إثرهما مباشرة إلى قلب الحكاية محملين بالكثير من الأسئلة التي أثارتها هاتان الذروتان. الذروة الأولى، هي انتحار عالم الفيزياء النووية السوفياتي «فاليري ليجاسوف/ جاريد هاريس» بعد أن سجل سرًا شهادته عما وقع في تشرنوبل، والذروة الثانية، هي الكارثة نفسها بكل غموضها ورعبها.

ينحاز النص إلى نوع من السرد يعرف بـ«السرد المقيد» وهو السرد المتبع في أفلام الجريمة والإثارة فهو عبارة عن حاجز لا يتيح للمشاهد سوى مدخل محدود لأحداث الحكاية، فنحن لا نعرف أكثر مما تعرف تلك الشخصيات في هذه اللحظة. يضع هذا الأسلوب السردي المشاهد في نفس وضع الضحايا وهم يختبرون دون فهم واضح هذه الكارثة التي تحدث للمرة الأولى على هذه الأرض وهو ما يحقق أيضًا قدرًا كبيرًا من التوحد معهم.


نص عابر للنوع الفيلمي

أحد عناصر جاذبية مسلسل «تشرنوبل» يكمن في تجاوزه فكرة النوع الفيلمي، فهو نص مفتوح يحتوي بداخله على عدة أنماط فيلمية حيث ينتمي النص بحكم موضوعه إلى الدراما التاريخية، لكن يمكن اعتباره أيضًا ينتمي إلى نوع فيلم الكوارث (A disaster movie) مثلما يحتوي على عناصر من فيلم الرعب.

بإمكاننا أيضًا أن نرى في العمل أيضًا ملامح فيلم الإثارة السياسية (Political Thriller) فهو يقدم أيضًا قراءة سياسية للكارثة مقدمًا نقدًا لاذعًا لا يخلو من سخرية مرة للنظام السوفيتي آنذاك باعتباره المدان الأول في حدوث الكارثة، كما يقدم نقدًا لطريقة إدارة الأزمة عبر إخفاء الحقيقة ونشر الأكاذيب والتضحية بالمواطنين في مقابل مظهر النظام أمام العالم.

كذلك تعتبر الحلقة الخامسة من المسلسل مثالًا ناضجًا لدراما المحاكم (Courtroom Drama). النص أقرب إلى كولاج نوعي مثير تم تركيبه بقدر كبير من الحساسية والبراعة وهو ما حقق للمسلسل حيوية بالغة واتساعًا في المنظور الذي يتناول به الكارثة.


هاجس الحقيقة ومجازات السلطة

السذاجة من شيم العلماء، نصب كامل تركيزنا في البحث عن الحقيقة فيفوتنا النظر في قلة عدد من يريدنا أن نجدها، لكن الحقيقة موجودة دائمًا سواء شئنا أم أبينا، لا تهتم الحقيقة برغباتنا ولا احتياجاتنا، لا تهتم بحكوماتنا ولا بعقائدنا، ستبقى متربصة أبد الدهر، وهذه أخيرًا هي هدية تشرنوبل.
العالم الروسي فاليري ليجاسوف.

يبدو نص المسلسل ممسوسًا بفكرة الحقيقة، الحقيقة المخبأة خلف شبكة من الأكاذيب التي نسجتها يد السلطة. يتعامل النص مع الكارثة من البداية كنوع من الجريمة الغامضة التي يسعى للكشف عن حقيقة مرتكبيها، لكنه لا يكتفي فقط بالكشف عن المسؤولين المباشرين المتسببين في الكارثة بل يحاول إظهار الصورة كاملة.

أثناء اجراء اختبار الأمان الذي تسبب في كارثة تشرنوبل يضطر «أكيموف» بدافع من الخوف من رئيسه «دياتلوف» وتهديداته أن ينفذ ما هو مؤمن بخطئه وكارثية نتائجه. الأمر هنا يتجاوز الخطأ الفردي إلى إدانة نظام يحكم بالخوف والأكاذيب بحيث بدا أحيانًا أن خوف المسؤولين من رؤسائهم كان أكبر من الكارثة التي لا يعلم أحد مداها.

يعتبر المسلسل الكشف عن هذه الحقيقة المظلمة بشأن السلطة هدية تشرنوبل الوحيدة. هناك عدة مجازات يتضمنها النص لوصف بشاعة السلطة وتوحشها،أحدها ما تقوله «أولانا خوميوك/ اميلي واتسون» في حديثها مع الرفيق «بوريس/ ستيلان سكارسجارد» حين تخبره بحكاية زوجة الإطفائي التي نجت لأن جنينها تلقى بدلًا منها كامل الصدمة الإشعاعية، تقول له: «نحن في بلد تموت فيه الأطفال لإنقاذ أمهاتهم».

مجاز آخر نجده ممثلًا في لوحة إيفان الرهيب يقتل ابنه الرسام الروسي «إيليا ريبيبن» الموجودة بقاعة انتظار داخل الكرملين والتي تصور حزن وهلع إيفان الرهيب ممسكًا بابنه المصاب بجروح قاتلة، ويعتقد أن إيفان الرهيب نفسه هو من وجه له تلك الضربة القاتلة. هذا مدار هذه المجازات إذن، سلطة ممثلة في آباء وأمهات قتلة وضحايا أطفال كالقرابين على مائدة إله لا يرحم.

هذه العودة إلى تشرنوبل بعد ما يزيد على ثلاثة عقود من حدوثها ليست مجرد زيارة لكابوس قديم فهي لا تبدو منقطعة الصلة عما يثار عالميًا من أحاديث حول الاحتباس الحراري والتحولات المناخية العنيفة أو الجرائم التي يرتكبها الإنسان في حق الطبيعة. تشرنوبل في هذا السياق أيضًا تبدو أشبه بحكاية تحذيرية تثير الكثير من القلق حول مصير الإنسان والعالم.