تتسم المجتمعات الإنسانية بعدة سمات أساسية، أهمها تلك السمة التي تحدث عنها المؤرخ الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه «سيكولوجية الجماهير»، والتي سماها «روح الجماعات»، معرفًا إياها بأنها تلك الروح التي تتجه بالجماعات صوب هدف واحد، في ظل غياب الذات الفردية الشاعرة حيث تتولد صفة الجماعة المنظمة، ومن ثم تتجه الجماعات نحو سلوك إنساني مشترك أو اعتناق الأفكار المشتركة، وتصبح حينها رؤية الجماعات رؤية جماعية، حينها يمكننا أن نطلق على هؤلاء الأفراد مصطلح «الجماعة».

ولكننا قد نجد في بعض المجتمعات ظاهرة أخرى، وهي تولد مجتمعًا خاصًا داخل المجتمع العام، فالجماعة العامة تشكل جميع الأفراد الذين يعيشون على تلك البقعة الأرضية ذات الحدود الجغرافية التي تحكم بقوانين وأعراف مجتمعية تسري على جميع الأفراد، حيث الحياة في ظل عوامل اجتماعية وسياسية وفكرية وثقافية مشتركة.

وتتولد الجماعات الخاصة داخل المجتمع العام بفعل بعض العوامل الاجتماعية والسياسية والثقافية المختلفة والمنفصلة عن وحدة المجتمع العام، وتتخذ تلك الجماعات لنفسها نمطًا فكريًا وسلوكًا يشبه إلى حد كبير إعلان حالة العزلة عن المجتمع العام.

أحد تلك النماذج هو إحدى أكبر المؤسسات الدينية في مصر، الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، التي تحوّلت، بداية من سبعينيات القرن الماضي، من كونها مؤسسة دينية أو مؤسسة روحية كما توصف دائمًا، إلى أشبه ما يكون بمؤسسة اجتماعية في ظل بعض العوامل التي شكلتها على نحو جديد.

بزوغ نجم جديد

شهد المجتمع المصري في بداية سبعينيات القرن الماضي ظاهرة قد تبدو مألوفة، ولكنها برزت بشكل كبير في تلك الفترة التي أدت بالضرورة إلي تشكيل المجتمع حينها، وهي تحول العديد من الشخصيات والرموز الدينية إلى نجوم مسرح تُسلّط عليهم الأضواء، متخذين من مكانتهم الدينية بما تمنحه إياهم من رأس مال شعبوي، منبرًا لهم لإعلان آرائهم في العديد من القضايا السياسية والاجتماعية.

من أبرز تلك الشخصيات التي ظهرت في المجتمع حينها كان البابا شنودة الثالث الذي اختير بطريركًا للكنيسة القبطية الأرثوذكسية في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 1971، لتبدأ معه رحلة تحول جديدة في تاريخ الكنيسة.

حلم إحياء القومية القبطية

ظهرت بوادر لم شمل الكتلة الوطنية المصرية لأول مرة في تاريخ مصر مع اندلاع ثورة 1919، حيث كانت إحدى ركائزها الأساسية إدراك المصريين الاستغلال السياسي الاستعماري الذي تقوم به بريطانيا للخلاف الطائفي في مصر لتحقيق أطماعها، مما أدى إلى السعي لتأسيس القومية المصرية الحديثة، بعيدًا عن الخلافة العثمانية المهزومة في الحرب العالمية الأولي. من هنا، بدأ الدور القبطي في الثورة وبروز شخصيات قبطية في المجتمع تتمتع بمكانة وطنية.

في تلك المرحلة، برز أحد أشهر المفكرين الأقباط، وهو عميد مدرسة الإسكندرية اللاهوتية (قبل أن يتم تغيير اسمها إلى الكلية الأكلريكية)، حبيب جرجس، الذي تبنى العديد من الرؤى الإصلاحية، وكان أول من استخدم مصطلح «الأمة القبطية» في كتاباته [1].

يشير تعبير «الأمة» إلى مفهوم القومية بما له من دلالة سياسية واجتماعية، فالأمة هي جماعة ما يشترك أفرادها في الثقافة واللغة وأحيانًا في الدين. كان المصطلح غريبًا عن الوسط الكنسي طوال تاريخه، فالكنيسة دائمًا ما كانت تُعرَّف بالمؤسسة الروحية التي تهدف إلى الإرشاد والتعاليم الدينية، كما تعني كلمة كنيسة في أصلها اللغوي اليوناني «إكليسيا» وأيضًا بمفهومها الإنجيلي «جماعة المؤمنين».

كان مفهوم «الأمة القبطية» هو الإجابة التي قدمها جرجس على السؤال المثار في ذلك الوقت وهو مدى إمكانية اندماج الأقباط في المجتمع المصري الحديث كوحدة اجتماعية وطنية متكاملة مع المسلمين، ولكن ضمن إطار قومية قبطية.

أحد أكبر المتأثرين بفكر حبيب جرجس الذي نشر مذكرته الإصلاحية الأساسية عام 1942 [2]، كان الشاب نظير جيد، الذي سيصبح لاحقًا «البابا شنودة الثالث». تبنى الطالب الجامعي الذي سيتخرج في قسم التاريخ بكلية الآداب عام 1947، نظير جيد، تطوير الكنيسة القبطية الأرثوذكسية على منهج حبيب جرجس الذي تضمن مثلًا تطوير المدرسة الأكلريكية المسئولة عن تعليم شباب الأقباط العلوم الدينية، وتحويلها إلى كلية، وإعادة إحياء اللغة القبطية داخل الكنائس ومدارس الأحد، بل طال التطوير حتى الأديرة القبطية التي كانت تتسم بطابعها القديم والبسيط البعيد كل البعد عن رفاهية الكهرباء والتكنولوجيا، كون المجتمع الرهباني يقوم على مبادئ الزهد والابتعاد عن سبل الرفاهية في الحياة.

في ذلك الوقت، كانت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تعيش عصرًا مختلفًا عن ذي قبل بفعل تطبيق بعض المناهج المكتسبة من الغرب، وكان هذا نتاجًا لتأثير الاحتلال في المجتمع المصري قبيل الجلاء، فبعض المناهج التي تبناها حبيب جرجس هي في الأصل كاثوليكية كانت تطبق في الغرب منذ وقت طويل، ومن ذلك تطوير المدرسة الأكلريكية وتحويلها إلى كلية لتدريس اللاهوت وعلوم اللغات والفلسفة، وأيضًا «مدارس الأحد» المعروفة داخل الأوساط المسيحية الأرثوذكسية حتى يومنا هذا. ساعدت تلك المناهج الإصلاحية على إعادة هيكلة الكنيسة القبطية من جديد، وتشكيلها في صورة مجتمع خاص، فكانت تلك الإصلاحات السبب الرئيسي لخلق مجتمع قبطي ذي سمات جديدة يجد نفسه من خلالها مميزًا بما هو خارج عن المجتمع العام.

لاح حلم الانفصال بالفعل في أذهان شباب الأقباط مبكرًا. ففي أواخر الأربعينيات، برزت حركة جديدة تحت اسم «جماعة الأمة القبطية» كانت توزع منشورات تطالب بالحكم الذاتي للأقباط. لم يتوقف الأمر عند ذلك، فقد حمل خمسة شباب السلاح وداهموا مقر البابا يوساب وهددوه، ثم أجبروه على توقيع وثيقة للتخلي عن الكرسي الباباوي، ثم نفوه إلى الدير حتى تدخلت السلطات عقب الحادث وقبضت على هؤلاء الشباب وأعادوا البطريرك إلى مقره من جديد [3].

نجم ذو طموح جامح

مع دخول البابا كيرلس السادس مرحلة الشيخوخة، وهو الذي تولى البطريركية عام 1959 بعد أزمة أدت إلى تنحية البابا يوساب، أخذت حقبة جديدة من تاريخ الكنيسة تبزغ رويدًا رويدًا. لطالما تجنّب البابا كيرلس السادس أن تتخذ الكنيسة شكل مجتمع خاص، وكانت رؤيته الروحية البسيطة للكنيسة بعيدة عن ذلك الطموح. أعطى البابا الثقة لجيل الشباب من الأساقفة الصاعدين الذين تولوا مناصب قيادية وتعليمية كبيرة داخل الكنيسة، وكان أبرزهم الأنبا شنودة، أسقف التعليم حينها، والذي حظي بشعبية كبيرة داخل أوساط الشاب القبطي، حيث امتلك مقومات شخصية شديدة الجاذبية في خطاباته، وتأثر به الشباب كثيرًا.

نشب خلاف بين الأنبا شنودة والبابا كيرلس السادس بسبب الطابع السياسي الممتزج في تعليمه من ناحية، ومعاداته لبعض الأساقفة والرهبان البارزين من خلال خطابه المثير للجدل من ناحية أخرى. وحينها، قرّر البابا نفي الأسقف الشاب للدير، لكن الغضب عمّ بين شباب الأقباط، وخشي البابا من الانقسامات الداخلية للكنيسة، فتراجع عن قراره[4].

حقبة جديدة ومزيد من الصراعات

دقت أجراس الكنيسة يوم 14 نوفمبر/تشرين الثاني 1971، معلنة عن اختيار البابا رقم 117 من تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ليجد البابا شنودة الثالث الطَموح نفسه أمام مسؤلية كبيرة، تتيح له السعي نحو تحقيق ما تبناه من رؤى إصلاحية.

لم يمضِ وقت طويل على تولي البابا شنودة رئاسة الكنيسة حتى نشبت الخلافات بينه وبين الرئيس محمد أنور السادات بسبب قضية بناء الكنائس دون ترخيص. تحول الخلاف إلى تحدٍ قائمٍ بين طرفي النزاع. ربما لا نستطيع القول بشكل دقيق إن قطبي النزاع هنا كان الطائفتين بشكل عام، فقد كان الخلاف أكثر بين شخصيتين تتسمان كلتاهما بالعناد والطموح، إحداهما كانت شخصية رأس الدولة، والأخرى لرأس الكنيسة.

توالت الأحداث الطائفية واحد تلو الآخر، وتزامن ذلك مع صعود التيار الإسلامي حينها، وهو الذي لعب دورًا بارزًا في تأجيج المشاكل الطائفية. هنا، اندفع المجتمع نحو الانقسام بين حلم إقامة المجتمع الإسلامي وطموح القومية القبطية. تعمق الخلاف بفعل موقف البابا من اتفاقية السلام مع إسرائيل؛ الموقف الذي أغضب السادات حينها، وبالأخص عندما منع البابا أقباط مصر من الحج إلى الأراضي المقدسة؛ فقد رأى السادات أن الأمر هنا أصبح تحديًا سياسيًا يقع بينه وبين البطريرك.

أتت القشة التي قصمت ظهر البعير حينما اعترض جماعة من أقباط المهجر موكب السادات نحو البيت الأبيض، متظاهرين ضده احتجاجًا على أحداث الزاوية الحمراء الطائفية. اعتبر السادات أن المظاهرات تمت بتحريض من بابا الكنيسة شخصيًا. ومع تصاعد الأحداث الطائفية، قرّر الرئيس نفي البابا إلى الدير مع اعتقال كثير من الشخصيات العامة والمثقفين والشخصيات الدينية من الطرفين ضمن قرارات سبتمبر 1981[6].

العودة إلى الكرسي وتكوين مجتمع داخلي

لذلك كان حب بعضهم للإصلاحات الكلية من أسوأ المؤثرات في الجماعات مهما دل على حسنها، لأنها لا تكون مفيدة إلا إذا كان في الإمكان تغيير روح الجماعة تغييرًا فجائيًا.

لم يمضِ وقت طويل على اغتيال الرئيس السادات حتى تولى نائبه محمد حسني مبارك رئاسة الجمهورية في 14 أكتوبر/تشرين الأول 1981، ليقرر الإفراج عن المعتقلين والسماح للبابا بالعودة إلى كرسيه مرة أخرى. وكان قرار نفي البابا شنودة إلى الدير بمثابة الصدمة التي تركت أثرًا عميقًا في نفوس جموع الأقباط حينها، مما حفّز بشكل كبير تشكيل المجتمع الكنسي الحديث عقب عودة البابا إلى الكرسي من جديد، فقد رأى الأقباط أن النزاع السابق هو اضطهاد قائم على الهوية الدينية.

ومع اندلاع أحداث طائفية من وقت لآخر، تملّكت مشاعر الخوف من الأقباط، وكانت الكنيسة مهيّأة تمامًا لتكوين مجتمع بديل عن المجتمع العام داخل الكنائس، فتحوّلت الكنائس خصوصًا حديثة المنشأ منها، والتي تضم مساحات جانبية بجانب مبنى الكنيسة المخصص للصلاة، إلى ما يشبه الساحات العامة التي تضم كافيتريات وملاعب رياضية ومكتبة وعيادات طبية ومنافذ بيع تضم كثيرًا من مستلزمات البيت والأطعمة من منتجات الأديرة والكنائس.

أدى هذا التشكل الحديث للكنيسة على هذا النحو إلى تقوقع الأقباط داخل المجتمع الكنسي. وبمرور الوقت، كانت الفجوة بين شقي الوطن تكبر يومًا بعد يوم. وسادت التساؤلات وتشتت الرؤى من كلا الطرفين حول ماهية الآخر وطبيعة تفكيره، ونُسجت أساطير وأفكار خطأ في أذهان بعضهم عن البعض نتيجة تلك الفجوة.

المراجع
  1. هيكل، محمد حسنين: خريف الغضب.. قصة بداية ونهاية عصر أنور السادات. القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، ص275.
  2. حبيب جرجس، الوسائل العملية للإصلاحات القبطية.. آمال وأحلام يمكن تحقيقها في عشرة أعوام. بيت مدارس الأحد القبطي، الطبعة الثانية، 1993.
  3. هيكل، مصدر سابق، ص282.
  4. هيكل، مصدر سابق، ص290.
  5. هيكل، مصدر سابق، ص293.
  6. الإكليريكي منير عطية شحاتة، السيرة الذاتية للأنبا غريغوريوس.. الأنبا غريغوريوس منذ اللجنة الخماسية حتى نياحته. جمعية الأنبا غريغوريوس.