عندما ترى صورته ببدلته الأنيقة ووقاره وملامحه البريئة رغم كبر سنه، هدوء ووقار غير عادي لا يخرج سوى من أساتذة الجامعات، لا تنطبق عليه الرؤية الكلاسيكية للمخرج العصبي المتلعثم غريب الأطوار غريب الشكل غير المبالي بهيئته. هذا المخرج هو «مارتين سكورسيزي» الذي تحل اليوم ذكري ميلاده الرابعة والسبعين.

سكورسيزي مثال للشغف وحب السينما والتطور، فعبقريته لم تنحصر في عقد أو عقدين بل امتدت لأربعة عقود وما زال قادرا على العطاء، تبدلت في هذه العقود المتعاقبة أحوال السينما والإخراج، صعدت موجات واختفت موجات أخري، خفت بريق نجوم وبزغ ضوء آخرين، أجيال كثيرة وحوادث ومجتمع شهد الكثير من التغيرات، ومعها يتغير سكورسيزي ويواكب ما يحدث ويعبر عنه برؤيته النقدية، ولا يتخلى عن الحكاية الجميلة في كل أفلامه. فهو الذي جمع بين الشغف والجمال والإتقان والعزيمة والتطور.


البدايات والجذور

في حديثه الذي أجراه في «مكتبة الأسكندرية» عام 2009، ذكر سكورسيزي نشأته كطفل مريض بالربو، لم يسمح له والداه بلعب الرياضة، وكبديل عن الرياضة كانوا يذهبون به إلى السينما.

ثم التحق بمدرسة كاثوليكية وعاش وسط أقرانه من أبناء العائلات الصقلية، تربى وسط رجال دين متشددين ولكن على حسب وصفه حكماء في ذات الوقت، فبرغم تشددهم علموه استخدام عقله وأن يسعد الآخرين من خلال مهنته. فكما كان سكورسيزي شغوفًا بالدين، نقل شغفه مع الوقت للسينما.

يقول سكورسيزي أنه تعلم ممن حوله الكثير، فكانوا يتبادلون خبراتهم الموسيقية، فأحب «الجاز» و«الروك أند رول»، وكان ذلك وقت صعود «الموجه الفرنسية الجديدة» في السينما فتأثر بمخرجي هذه الموجه وخصوصًا «جان لوك جودار» والمخرج «فرانسوا تروفو»، وتأثر بالسينما الإيطالية وخصوصًا المخرج «فيسكونتي».


سكورسيزي وموضوعه السينمائي

يعد سكورسيزي من أكثر المتمسكين بالشكل الكلاسيكي للسرد، حيث البداية التي يتم فيها تقديم الشخصيات والعقدة الأولى للفيلم، والوسط ومرحلة الصراع وتفجر الأزمة، ثم النهاية وحل الأزمة. ولكن مع التمسك بأسلوب السرد الكلاسيكي ينقل سكورسيزي المسرود بثورية من حيث الصورة والعرض وتقديم الأبعاد النفسية والربط بين الزمان والمكان والشخصية في مزيج عبقري.

الموضوع الأكبر الذي شغل حيزًا كبيرًا في سينما سكورسيزي، هو الشباب الأمريكي المهمش، وطريقتهم المريضة والمتعفنة أحيانًا، والثورية في أحيان أخرى، سعيًا لاقتناص مكانة اجتماعية رغمًا عن المجتمع، نرى في أفلامه «أمريكا» التي يوجد على ضفافها الكثير من المهمشين، وفي نفس الوقت تعطي لهم مساحات مشروعة وغير مشروعة للفت الأنظار لهم، هي تغذي عقدهم وتقهرهم في الوقت نفسه.

«سائق التاكسي» الذي يعاني من الأرق والاكتئاب والوحدة المقيتة، أنه مجرد سائق تاكسي آخر لا يشعر المجتمع ولا من حوله بما يدور في خلده، يحب فتاة وتتجاوب معه أخيرًا ولكنها تتركه لغرابة أطواره، ثم يجد فتاة مهمشة أخرى تعمل في مجتمع الدعارة القاسي، حياة تشبه العبودية إن لم تكن أشد قسوة، يحبها رغم ما تمر به، في النهاية يتخذ سائق التاكسي حلًا ثوريًا، ينقله من مصاف المهمشين لمصاف الأبطال.

أما «هنري هيل» الذي يقول: «أن تصبح عضوًا في عصابة خير من أن تكون في البيت الأبيض» فهو من اللحظة الأولى يعلن عن خطته للفوز بمكانة اجتماعية والخروج من الهامش الأمريكي، في فيلم «GoodFellas»، أو «الأصدقاء الطيبون» يعرض سكورسيزي حياة رجال العصابات التي تعطي لأفرادها المهمشين سابقًا مكانه اجتماعية مميزة، ولكنه في النهاية يخسر كل شيء ويعود للهامش، حياة أبطال سكورسيزي كالدائرة المفرغة تبدأ من حيث تنتهي والعكس.

فيلم «الثور الهائج» لا يخرج عن هذا الإطار، فالبطل يجد من الملاكمة والقسوة وسيلته الجبارة للفت الأنظار، أنه في صراع دائم لتفادي اللكمات، يقول سكورسيزي أنه قرر تصوير هذا الفيلم بعد أن شاهد مباراة لـ «محمد علي» وهو أثناء الاستراحه يسأل من حوله ما النتيجة وما عدد الجولات المتبقية، عندها تعجب سكورسيزي من الانفصال عن الزمان والمكان لدى الملاكمين وتركيزهم التام في تسديد اللكمات أو تفاديها.

ويربط في فيلم «Gangs of New York» بين جذور الفساد السياسي أثناء الحرب الأهلية الأمريكية، ونفس الرغبة لاقتناص مكانة اجتماعية لدي هذا الجزار الذي قرر المشاركة في كل المعارك، وقيادته لتزوير الانتخابات. انتقادات سكورسيزي للأوضاع المجتمعية والسياسية لا يتم عرضها صراحة بل تستشفها أنت من صراعات أبطاله النفسية، فوجودهم على الهامش في الأساس هو نتيجة هذه المنظومة السياسية. سواء الانضمام للعصابات أو قتل جميع القوادين كما في فيلم «Taxi Driver»، أو ترهيب المجتمع للسيطرة السياسية كما في عصابات نيويورك، دائمًا ما يحل أبطال سكورسيزي محل الدولة في حق استخدام العنف في مجتماعاتهم المهمِّشة لهم.


حين يتمرد سكورسيزي على ذاته

بعد فوزه بجائزة الأوسكار لأفضل مخرج عن فيلم «The Departed»، قرر سكورسيزي تغير قواعده التي اتبعها طوال حياته، وإخراج نوعيات أخرى من الأفلام، قرار يبدو متمردًا وغير مضمون، سيخشى الكثير اتخاذ مثل هذا القرار في هذا العمر، وبعد أن أصبح إحدى علامات السينما، من سيتخذ مثل هذه القرارات سوى سكورسيزي؟ ومن يستطيع النجاح فيها سوى سكورسيزي؟

في عام 2010 خاض سكورسيزي تجربة الأعمال النفسية والغامضة في فيلم «Shutter Island»، هي تجربة جديدة عليه تمامًا من حيث السرد والصورة، ولكنه نجح في تصوير حالة تصدير الفصام لدي البطل. وفي عام 2011 أخرج فيلمًا شديد الذاتية يسمى «Hugo»، ربما يمثل هذا الفيلم طفولة سكورسيزي ومرحلة شيبه في ذات الوقت، فهو الطفل الصغير المهمش الذي يرغب في تحدي ظروفه وحل لغز «الآلة» المتهالكة.

إن شغفه هذا يقوده لمعرفة الرجل العجوز غريب الأطوار الذي يكتشف أنه مخرج سينمائي كبير، أصابه الشيب وتضاءلت طموحاته فاعتزل الإخراج وعاد للهامش، ولكن هذا الطفل يرفع من عزيمة الرجل العجوز ليعود للأمجاد مرة أخرى، لعل هذا الفيلم هو محاولة من سكورسيزي لإنقاذ ذاته من احباطات الشيب والكبر، وإعادة الشغف، فهو يريد أن يقوده سكورسيزي الصغير لشغفه بالسينما مرة أخرى.

في عام 2013 أخرج سكورسيزي فيلم «the wolf of wallstreet»، وهو أول فيلم كوميدي لسكورسيزي، شهد هذا الفيلم تغييرًا في نموذج الإنسان المهمش الذكي الذي يساعده ذكائه وقسوته وإصراره على الوصول لمكانة ما، في هذا الفيلم يعرض سكورسيزي قصة حياة شاب تافه محدود الذكاء، ولكن عفن المنظومة الاقتصادية والمجتمعية تجعله من أبرز المضاربين في البورصة، هذه المرة لم يحصل البطل على مكانته على هامش المجتمع في العصابات، ولكنه هذه المرة حصل على مكانته في وسط المنظومة الرسمية السياسية، وهنا نرى تبدل رؤية سكورسيزي للوضع السياسي الأمريكي، الذي أصبح أكثر هشاشة وأكثر فساد والأهم من ذلك أكثر تفاهة وغباء.

في نهاية هذا العام سنرى فيلم سكورسيزي الجديد «the silence» وهو تجربة جديدة لسكورسيزي، يظهر فيها تأملاته الدينية ورؤيته للمسيح والبحث عن الإيمان الذاتي.