هل تعلم يا جوناثان؟ هذا العالم يحتاج إلى الحالمين.
من فيلم «Bottle Rocket»

قرب نهاية فيلمه «The Royal Tenenbaums»يعود الصقر «موردكاي» بعد أن حرره «ريتشي» في بداية الفيلم. يتأمله ريتشي جيدًا ويقول: الآن هناك ريش أبيض حول رقبته. تسأل مارجو: أتعجب ماذا حدث له؟

فيجيبها ريتشي: لا أعرف، أحيانًا حين يمر شخص ما بتجربة صادمة يتحول شعره إلى الأبيض. تعلق مارجو في النهاية: حسنًا، أنا على يقين أنه سيتجاوز ذلك.

هذا المشهد يصلح كمدخل لسينما «ويس أندرسون»، فالرحلة التي قطعها الصقر منذ تحرره وحتى عودته هي رحلة يقطعها كل أبطال ويس أندرسون. هذا الريش الأبيض حول رقبة الصقر هو ثمن الوجود في العالم الحقيقي. أبطال أندرسون، مهما اختلفت أعمارهم، هم أطفال صغار يناضلون من أجل الحياة في العالم الحقيقي بعيدًا عن القفص الذهبي لأحلام الطفولة. هذه المغامرة التي يخوضها أبطال أندرسون بنزق الحالمين، مغامرة الوجود في العالم، هي مدار كل أفلامه.

في فيلم «Rushmore»الذي يبدأ بماكس فيشر مستغرقًا في فانتازيا أنه قام بحل أصعب مسألة رياضية ممكنة، وأنه نال إعجاب ومحبة كل زملائه، وينتهي بماكس وقد أنجز شيئًا من التحقق والنجاح . هذه المسافة بين تلك الفانتازيا الطفولية والواقع هي عالم ويس أندرسون عبر رحلة من الحزن والفقد وتقبل حقائق الحياة.

حين يسأل «هيرمان بلوم»عن السر، يجيبه ماكس: عليك أن تجد شيئًا تحبه وتستمر في عمله إلى الأبد، بالنسبة لي كان التحاقي برشمور. رشمور هي مجاز عن كل الأشياء التي نعتقد خطأ أنها وحدها التي تمنحنا السعادة، وأنه لا حياة لنا بعيدًا عنها، لذلك لا يريد ماكس أن يغادر رشمور أبدًا رغم استحالة ذلك، حتى حين يريد أن يصف حبه لروزميري كروس يقول إنها رشمور الخاصة به؛ «She Is My Rushmore».

نستطيع أيضًا أن نرى هذا التعلق الطفولي بالأشياء والأشخاص في علاقة روزميري بزوجها الميت. فالحياة قد توقفت عندها برحيله، مفضلة ذكراه على الدخول في علاقات جديدة، معتقدة أنه كان وحده كل سعادتها الممكنة. يتعلم أبطال أندرسون عبر منحنى الدراما كيف يتقبلون رحيل الأحبة، وأن الأشياء الطيبة في هذا العالم لا تدوم إلى الأبد وكذلك الأشياء السيئة، أو كما يقول السيد فوكس في فيلم Fantastic Mr.Fox: الأشياء السيئة تحدث، ونحن علينا تجاوزها، وأنهم جميعًا يستحقون السعادة التي يبحثون عنها.


العالم السينمائي واللغة السينمائية عند أندرسون

سينما ويس أندرسون تنتمي تمامًا إلى سينما المؤلف. فبالإضافة إلى مشاركته في كتابة جميع نصوص أفلامه، فقد مرر بهذه النصوص طرفًا من سيرته الذاتية. فشخصية ماكس فيشر في فيلم Rushmoreهي الأقرب لشخصية أندرسون. الفيلم الذي صوره في مدرسة «سانت جون» في هيوستن، والتي تمثل نسخته الخاصة من رشمور. كذلك علاقة الحب مع مدرسته.

نستطيع أن نرصد أيضًا جميع الأشياء التي شغف بها أندرسون وقد وجدت طريقها إلى سينماه. في أكثر من مناسبة أعرب أندرسون عن شغفه بالمسرح، ستجد دائمًا مسرحيات يتم تنفيذها في أفلامه، خاصة في Rushmore، حيث الفيلم نفسه مقسم إلى فصول، كل فصل يبدأ بفتح ستارة.

في The Royal Tenenbaums،تبدأ مارجو كتابة المسرحيات منذ طفولتها وتستمر في ذلك بعد فترة انقطاع طويلة. نجد المسرح حاضرًا أيضًا في فيلم «Moonrise Kingdom»،حيث يلتقي «سام شاكوسكي» محبوبته «سوزي بيشوب» أثناء أدائها عرضًا مسرحيًا.

نجد أيضًا محبة أندرسون العميقة للكتب، والموجودة دائمًا في كل أعماله، نجد ذلك في The Royal Tenenbaums الذي يفتتحه أندرسون بلقطة لكتاب يحمل نفس اسم الفيلم، كما أن الفيلم مقسم إلى عشرة فصول ومقدمة ونهاية، كل فصل يبدأ بصفحة من كتاب تحمل عنوانًا.

كذلك وجود صوت الراوي الذي ينتمي للأدب أكثر من السينما. نجد ذلك أيضًا في فيلمه «The Grand Budapest Hotel»، حيث يبدأ الفيلم بلقطة لكتاب يحمل اسم الفيلم. أندرسون يحاول أن يحقق ذلك الحلم الطفولي بالعيش داخل كتاب خيالي مصور.

نجد أيضًا شغف أندرسون بالأوقيانوغرافيا (علم دراسة المحيطات) ولا سيما الأوقيانوغرافي الفرنسي. «جاك كوستو» الذي يظهر كتابه «الغوص من أجل كنز الأعماق» في فيلم Rushmore، كما شكلت شخصيته إلهامًا كبيرًا لأندرسون في كتابة شخصية عالم المحيطات ستيف زيسو في فيلم «The Life Aquatic with Steve Zissou».


أندرسون بين «التأثر» و«التفرد»

رغم أصالة عوالمه السينمائية فإن أندرسون من أكثر المخرجين الذين يحتوي منجزهم السينمائي على إحالات وإشارات لا تنتهي لأعمال أدبية مثل قصص ج.د.سالينجر، وهرمان ميلفل، وستيفان زفايج، وأعمال سينمائية مارست تأثيرًا كبيرًا على أندرسون كفنان على مستوى التيمات والأسلوب.

نستطيع أن نجد فيRushmoreالنسخة الأكثر خفة ومرحًا من فيلم «The 400 Blows» لتروفو، وكذلك نجد في علاقة الحب التي تجمع بين ماكس وروزميري وهارولد، صدى من مثلث الحب الفوضوي والغريب في فيلم «Jules and Jim»لتروفو أيضًا. كما نجد في The Royal Tenenbaumsصدى من فيلم «The Magnificent Ambersons»لأورسون ويلز، حيث تراجيديا السقوط والتفكك التدريجي لعائلة عظيمة.

يفتتح أندرسون فيلمه بعائلة من العباقرة الصغار، يستغرق ذلك الدقائق الأولى من الفيلم، بينما بقية أحداثه تدور على الجانب الآخر لمنحنى الحلم، حيث ذكريات النجاح التي يمحوها عقدان من الإحباط، الحزن، الفشل وفقدان الحب. يرصد أندرسون تراجيديا عائلة تتنباومز بخفته المعتادة. يكتب على شاهد قبر الأب رويال: «مات بطريقة تراجيدية في محاولة إنقاذ عائلته من حطام سفينة غارقة».

نجد أيضًا تأثرًا بالياباني «ياساجيرو أوزو» على مستوى التيمات. فنجد أن كلا المخرجين يصوران حياة العائلة، طبيعة العلاقات داخلها وخاصة العلاقات بين الآباء والأبناء. بينما على مستوى الأسلوب البصري نجد الهوس بسيمترية التكوين، تصوير الشخصيات في لقطات متوسطة تواجه الكاميرا تمامًا وكأنها تتحدث إلينا مباشرة.

ومن المستحيل أن نفهم أداءات أبطال أندرسون دون الإشارة إلى تأثره بالفرنسي «روبير بروسون»، حيث تظهر وجوه الشخصيات وأصواتها الحد الأدنى من الانفعال العاطفي، وحيث يبدو نطقهم للحوارات يتم كما لو كان بطريقة آلية. نستطيع أيضًا أن نرد ولع أندرسون بلقطات التراكنج والحركة البطيئة للكاميرا، التي لا يخلو منها فيلم من أفلامه، إلى سينما مارتن سكورسيزي الذي طالما رأى في ويس أندرسون امتدادًا طبيعيًا له.

يمزج أندرسون كل هذه التأثيرات من هنا وهناك ببراعة نادرة فيما يشبه الكولاج، خالقًا عالمه الخاص، عالم لا ينتمي إلا له، فعالم ويس أندرسون هو عالم ويس أندرسون. قرب نهاية فيلم Annie Hall لوودي آلن نجد «ألفي» يعيد كتابة قصة حياته في مسرحية. النهاية المسرحية تختلف عما حدث في الواقع، حيث يمنح ألفي بطليه المسرحيين ما حرمهما منه الواقع، بهجة العودة معًا بعد أن انتهت العلاقة بينهما.

يلتفت ألفي لنا معتذرًا عن النهاية السعيدة بقوله: هل تعلمون أننا دائمًا نحاول أن نجعل الأشياء مثالية في الفن لأنها صعبة حقًا في الحياة. أندرسون لا يعتذر عن نهاياته السعيدة، لأنه عاين في قلبه قسوة العالم، ولأنه يعرف أن في العالم ما يكفي من الحزن، يمنح أطفاله ما يستحقون من السعادة.