إن خلق وصفة بصرية مناسبة شيء بالغ الصعوبة؛ لأن تلك الصنعة البصرية هي أكبر دليل على تفرُّدك داخل صناعة السينما. تناولك للأشياء بمنظور مُختلف، وإيجاد التكوين الصحيح بمثابة المفتاح الذي من خلاله تفتح الباب للمشاهد، وتخطف عينه من النظرة الأولى، تلك الصياغة للمعنى بشكل مختلف من خلال التكوين البصري الجمالي الذي أضحى ينطق من خلال الإطار هو ما يُميز المخرج وونغ كار واي، نغمٌ موسيقي رنان؛ يعمل على توحيد المتلقي مع العمل، هو ما يجعل (وونغ) متفرداً.

الصنعة البصرية – Visual Style

البعض يقول إن (وونغ) يصف (هونج كونج) في أفلامه، ولكنه يرد على تلك الأقاويل بأنه يصنع مدينته الخاصة كما يريدها، وكما ينبغي أن تكون في مخيلته هو؛ فتلك القصص هي نتاج انحلال لذكريات وتكثيف لموجودات وأنصاف حكايات في شكل قصصي غامض؛ لذلك وجب عليه إيجاد أسلوب بصري يناسب تلك القصص التي تعوِّل على الصورة في إيضاح المعنى. وهذا الاكتراث البالغ، والتدفق في التعاطي مع الصورة بشكل خاص؛ أنشأ منهجية بصرية أصبحت أفضل ما يُميز أفلام (وونغ)؛ فالصورة بما تتجلى به من سيماء تطبع في ذهن المشاهد العادي معالم الإجادة البصرية التامة بداية من حركة الكاميرا المحمولة باليد (Hand Held Camera) التي اعتمد عليها (وونغ)، مروراً بالمزاج اللوني وتصميم الأزياء أو زوايا التصوير التجريبية والديكور الاستثنائي.

تقوم الصنعة البصرية عند (وونغ) بالاعتماد على شخصين يقومان بالعمل معه منذ فترة كبيرة، وبينهم ما يُشبه التلازم، وهما المصور السينمائي (كريستوفر دويل) ومصمم الأزياء/الديكور ومدير التصوير/والمونتير (ويليام تشانج)، وهما يحملان النسق والأسلوب البصري على كتفيهما بشكل أسطوري بالمشاركة مع رؤية (وونغ) الفنية.

بدأ (كريستوفر) العمل مع (وونغ) في فيلم (Days Of Being Wild) عام 1990، ومنذ ذلك الوقت وهو ملازم له في كل أفلامه تقريباً، ما يُميز (دويل) هو أنه تقريباً يلعب في نفس منطقة (وونغ)، لهما نفس الرأس المجنونة، ونفس الحماس والشغف بالتجريب، بجانب حبهما الهائل لـ(هونج كونج)، رسخت السنوات الوثاق بينهما، ووطدت العلاقة، أصبحا يفهمان بعضهما من النظرات فقط، عندما يدخلان موقع التصوير يعرف كل منهما ما يريد الآخر فعله، وهذا يجعل التصوير يسير بشكل ممتاز وسلس.

من فيلم (Days Of Being Wild)
من فيلم (Days Of Being Wild)

أضواء النيون

وفي خضم الحديث عن الصنعة البصرية يجب أن يأخذنا الحديث عن جغرافية (هونج كونج) الداخلية، ومدى تأثيرها على سينما (وونغ)، فالشوارع الضيقة والأسواق الممتدة والخِلَق المنتفشة الهائفة في كل مكان، الزحام الممارس في أغلب المناطق الحيوية وانتشار الحانات وأخيراً، وأهمهم طبعاً، أضواء النيون المهيجة لشبق المخرج والمصور في أغلب الأفلام، وتعتبر أضواء النيون جزءاً أساسياً وتكويناً بصرياً صارخاً في أغلب أفلام (وونغ)، وهذا لانتثار الأضواء النيونية بشكل أصلي في ليل البلاد منذ زمن كبير، لتخلق ما يُشبه السماء النيونية التي تخلو من الظلام بشكل شبه نهائي بسبب انعكاس صارم لمشاعل النيون على واجهات المحلات والأبنية والإعلانات، كل شيء في (هونج كونج) عبارة عن أنبوب دقيق مُشع ينبهر له الناظر ويتحين له الرائي، ويقول المصور (كريستوفر دويل) الواقع في غرام النيون حد الأذنين:

لا أعتقد أنه يمكن استبدال أضواء النيون، أخال أنها تطور نفسها، كونها استثنائية، لتعيش عمراً أطول، إنها استثنائية في الأساس لأنها مُجرد غاز، غاز داخل أنبوب، ربما نحن جميعاً مجرد غازات داخل أنبوب. أشعر أن جزءاً مني ينتمي لأضواء النيون، مجرد غاز داخل أنبوب.

تجتمع كل أضواء العالم البراقة في شوارع مدينة (هونج كونج)، لتلفظ الظلام والوحدة والألم، ولتُبين للناس أنها مدينة لا تنام، ليلها مشحون بطاقة كهربائية ماسة لشغاف القلوب، وهذا ما يستخدمه (وونغ) في أفلامه، فالأضواء النيونية هي خير أداة للتعبير عن أي نوع من المشاعر إذا توظفت بشكل صحيح في المساحة الشاسعة من الفراغ المغمية والمدوخة بطاقة إلكترونية كهربية، والتي تُستثمر في خلق التجاوز بين الحس المضطرب. بالنسبة لكريستوفر، فعالم أضواء النيون يُمثل عالماً خالياً، وفراغاً فسيحاً ووحدة، وقد نجح المخرج في استغلال هذا العامل السحري، خاصة في فيلمي (Fallen Angels) و(Chungking Express)، ليضع يديه على مشاعر غير مستقرة من الوحدة والاغتراب وكثافة الألم، ويُظهر من خلالها فراغ العالم بالنسبة للبطل وفقدانه الشعور بالمكان.

سينما وونج كار واي
سينما وونج كار واي

في كثير من الأحيان كانوا يصورون على أضواء النيون في الشوارع، ليُعطوا المشاهد هذا الشعور باللون الباهت الذي يُمثل الحالة المرضية لشخصية اللابطل التي يقدمها (وونغ)؛ لهذا فالنيون، هذا النوع من الإضاءة، عامل مُثير للاهتمام في الأفلام، ومدى تأثيره يعكس الدقة التي يُقاس بها الكم، بحيث يُعطي الشحوب المناسب أو الاشتعال المطلوب، ويوضح أيضاً مدى التلاحم الهندسي والفني من حيث البناء في كل مشهد عند (وونغ)؛ لأن كل ضوء يُعطي انطباعاً معيناً ويؤدي دوراً مهماً، بحيث يتناغم مع عناصر الديكور وثقافة المكان وخصوصية الموقف، دور النيون بالنسبة إلى (كريستوفر) هو احتواء كل هذه العناصر ليخرج بالانطباع المناسب حسب الحقبة التي يدور فيها الفيلم؛ لأن كل حقبة لها خصوصية فنية، لهذا تتم الاستعانة بالعبقري (ويليام تشانج) ليساعد في توظيف الديكور بحيث تصبح الإضاءة شيئاً ينطق به الأثاث والحوائط.

نظام الإضاءة في أفلام (وونغ) نظام صارم، فكريستوفر يعمل على توجيه الإضاءة بشكل مباشر للشيء المراد تصويره دون نشره Diffuse أو حتى العمل على خفت وهجه قليلاً عبر استخدام مجسمات لارتداد الضوء Bounce light، يترتب على هذا النوع من الإضاءة رفع سطوع الإضاءة على أجساد الممثلين مُخلفاً ظلالاً ثقيلة.

يستعمل (وونغ) الألوان بشكل عام كانعكاس للحالة الشعورية، ووصف لدخيلة الشخصيات وتدفق الخيالات في نفوسهم، أحياناً تغرق الشخصية بلون واحد، يوضح سطوة لون واحد من المشاعر بشكل يحتوي الشخصية بالكامل، وأحياناً تتباين الألوان، أو تظهر في شكل شرائط أو على الأثاث أو على الجدران بشكل حلقي متتابع يُظهر كينونة الشخصيات وما يقطن في بطونهم من أفعال يودون ممارستها. وإلى حد كبير تميز (وونغ) فيما يشبه الآن مقاطع فيديو الأغاني، بخصوصيتها التصويرية وممارستها بعض الألوان التي لم تكن موجودة قبل الألفية، والتي يمكن إرجاعها إلى أفلام المخرج (وونغ)، كنموذج مثير للاهتمام وملهم لمنهجيات جديدة وتطور ثوري في تلك الأحيان.

اللقطة ــ Frame

يستحدث (وونغ) أسلوباً جديداً في التصوير السينمائي حسب ما يريد قوله في الفيلم، وهذا بمساعدة الثنائي المذكور سابقاً. وهُناك بعض الأشياء التي تميز التصوير السينمائي عنده، أول شيء هو التشوه، أو الانحراف، وهذا يظهر بشكل واضح في فيلم (Fallen Angels) الذي صورت الكثير من اللقطات فيه بعدسة (Fishy eye) بغرض معين، وهو إظهار وجه آخر للعالم الخارجي والتأثير على نفسية المشاهد بشكل بصري أكثر منه كتابياً، وسنجد في نفس الفيلم الكثير من اللقطات المشوهة أو المائلة، حتى لو كانت من نوعية اللقطات القريبة (Close Up).

بجانب ذلك هناك النمط السائد في أغلب الأفلام، وهو الكاميرا المحمولة باليد التي تُصدر بعض الاهتزازات وتتبع لشخصية بشكل منحرف بعض الشيء، بحيث لا يستطيع المتلقي في بعض الأحيان تنبؤ حركة الكاميرا القادمة، ربما تشعر أنك في حلم أو كابوس، المنطق الذي يصور منه أفلامه منطق لا ينتمي لتقنية فنية مدروسة أو معترف بها، حتى إن (كريستوفر دويل) لم يتخرج من مدرسة أو جامعة للسينما. تعمل السينماتوجرافي على خدمة الفكرة الرئيسية في إبراز الجمال في الصورة في لحظة الآن وهذه التقنية السردية مذكورة سابقاً في المثال، وهذه الزوايا واللقطات تخدم تلك الفكرة.

تظهر الشخصيات في عين الكاميرا كشخصيات محاصرة أو محبوسة، وهذا يظهر بوضوح في كثير من اللقطات، وخاصة في فيلم (In the Mood For Love)، لقطات انعكاس وجوه الشخصيات في المرآة، كأرواح محبوسة، بجانب ظهور الوجوه أو الأجساد من خلف حاجز، وهذه نقطة أخرى مهمة، فأحياناً لا يظهر الوجه أو الجسد بشكل كامل، أو لا يظهر مطلقاً، بل تظهر الشخوص بشكل مقتطع من خلف حواجز أو قضبان، وتتكشف دواخلهم المكبوتة وأحلامهم المنهزمة، وأفواههم الخفاقة بما ليس في دواخلهم. كل تلك المنهجية تخدم فكرة التكثيف البصري وجمالية الاضطراب التي يستخدمها (وونغ).

من فيلم Chungking Express (1994)

تقنية Step Printing Effect

هي تقنية يتميز بها (وونغ) تظهر في أفلامه بشكل صريح، وتأخذ بعض الوقت، عبر التقاط المشهد بعدد أقل من الفريمات ثم تكرارها بالعدد الطبيعي، وهذا تقنية استخدمها (وونغ) كثيراً، لأنها تُعطي انطباعاً أن نسيج الحكاية نفسها يمر بسرعة عالية وعنفوان ورشاقة، بيد أن الصورة مكثفة وبطيئة في نفس الوقت، وهذه هي المفارقة. استخدمها (وونغ) بغرض تعميق الشعور بالشخصيات، استفحال الوحدة، الانفصال التام عن العالم، الإحساس بالمكان والزحام وحفظ جغرافية المشهد، أو التركيز التام على اللحظة الحاضرة بحيث يحدث نوع من التشبع باللحظة، إنه نوع من اللعب بالوقت، أو محاولة لتناول الزمن بطريقة مختلفة تجعل من التجربة أشبه بالحلم.

ويليام تشانج العبقري

عاصر مصمم الأزياء ومدير التصوير والمونتير (ويليام تشانج) كل مراحل (وونغ) تقريباً، منذ بدايته من فيلم (As Tears Go By) كمدير تصوير ومنسق فني برؤية ثاقبة وحضور فني هائل على المستوى البصري، ومع مرور الزمن ظهرت بصمة (تشانج) بشكل تراكمي صريح، ليصبح واحداً من الأعمدة الأساسية في جميع أفلام (وونغ). في بعض الأحيان كان يقوم بأكثر من عمل داخل نفس الفيلم، كمدير تصوير ومونتير ومصمم أزياء وديكور عبقري.

تكشفت بصمة (تشانج) في عوالم (وونغ) بشكل أكثر من أي عوالم فيلمية أخرى، وكأنه أعاد اكتشاف نفسه مرة أخرى، ولكن بلون مختلف، في فيلمي (Fallen Angels) و(Chungking Express) أظهر (تشانج) براعة منقطعة النظير، سواء في اختيار الديكور المناسب أو الإدارة الفنية الهائلة، وحتى على مستوى القطعات المونتاجية التي كان يحدثها في الفيلم، ليشارك في وضع المزاج اللوني الخارق الذي عرفه العالم بتقنية (وونغ) الساحرة. بيد أن فيلمه، الذي يصنف كتحفة فنية تصويرية على عديد المستويات النقدية، هو فيلم (The Grandmaster) الذي شارك فيه بثلاثة أدوار، كمونتير ومدير تصوير ومصمم أزياء خارق للعادة، ليصبغ العالم بنكهة فنية خالصة ممزوجة بتصوير عبقري؛ ليرشح للأوسكار عن هذا الفيلم كأفضل مصمم أزياء فنية.

الموسيقى في أفلام (وونغ)

تتسم الموسيقى في أفلام (وونغ) بالكونية نفسها التي تتسم بها ثقافة (هونج كونج)، إنها ليست موجودة بغرض المحافظة على الهوية، بل للتحرر من الهوية وللتشجيع على عبودية النغم المنتظم حتى لو اتسم توزيعه بالعشوائية. يُدخِل النغم تآلفاً بين الصورة والموسيقى، دمجاً غير هادئ بين أخلاط العناصر، بحيث يُشيِّد جسوراً بينه وبين المشاهد في جميع أنحاء العالم. الموسيقى هي دائماً الذراع الممدودة والنصوص المتقدمة بتأنٍ تجاه الأذن الشعبوية والعالمية، لتلقى القلوب وتلف الأجساد.

يقول (وونغ) عن الموسيقى:

لا نستطيع السيطرة على الموسيقى، نذهب للمطاعم فنسمع الموسيقى، إذا كانت مشهورة ستسمعها في كل الأنحاء، لذا فالموسيقى تُحرك داخلك مشاعر معينة، أو تعطيك انطباعاً معيناً.

في فيلم (In The Mood For Love) يستخدم عدة أنواع من الموسيقى بشكل عالمي، فقد استخدم عدة أغانٍ للمطرب العالمي (Nat King Cole) بجانب (Zhou Xuan – تشو شوان) المغنية والممثلة الصينية المعروفة، بالإضافة لاستخدامه عدداً من المقاطع الموسيقية التي تنتمي لعدد من أفلام مخرجين آخرين. وفي فيلمه (Happy Together) استخدم موسيقى التانغو الشعبية للموسيقار العبقري (Astor Piazzolla) لتضيف بُعداً آخر غير مرئي للصورة.

علاقة الشخصيات بالموسيقى في أفلام (وونغ) علاقة الاحتياج، في فيلم (Fallen Angels) كانت الأبطال دائماً تتجه إلى الملهى الليلي وتضع القطعة النقدية لتدور الأغنية التي تصل بهم في تلك اللحظات من الانشقاق والاغتراب إلى أبعد الأماكن عن الدنيا والصخب، كانت بمثابة الإجابة لسؤال العيون الواهنة الباحثة عن الحياة والحب. أيضاً في فيلم (Chungking Express) كانت الموسيقى بمثابة المحرك والطاقة التي ترفع من النسق، كانت الكاميرا تعوم وتحلق صعوداً وهبوطاً على أنغام الأغاني، بشكل مثير للمشاعر، ملأت الموسيقى الفراغ الذي تركه البشر، وصنعت من الخلاء نسيج حلم وأمنيات مجنونة.