لا تسعى «أسماء الشيخ» في مجموعتها القصصيّة الأولى إلى الكشف عن «كواليس المدينة» بشكلٍ مباشر كما قد يوحي التلقي الأوّل للعنوان، ولكن ما إن يبدأ القارئ في استكشاف قصص المجموعة حتى يدرك أن المقصود بتلك الكواليس كل العوالم الخفيّة التي تختبئ فيها المشاعر والأحاسيس، والتي قد تكون «المدينة» بكل تجلياتها المادية والمعنوية عاملًا أساسيًا ومؤثرًا من عواملها.

من خلال اثني عشر نصًا قصصيًا قصيرًا تمزج بين الحكايات الواقعية المستمدة من تجارب الحياة، وبين الفانتازيا الخيالية تنسج «أسماء الشيخ» خيوط عالمها بقدرةٍ خاصة على التكثيف، وتصوير المشاهد والأحداث بعينٍ راصدة دقيقة، إذ تنقلنا معها من نصٍ بالغ الحساسية والشاعرية ويحمل عنوان «مجسّات ناعمة» إلى نصٍ حيادي ولغة تقريرية واقعية في «البدايات الملعونة»، إلى عالم الفانتازيا والخيال كما نجد في قصة «لا قبور لساكني المستعمرة»، وغيرها من القصص، كما يبدو المزج بين الواقعي والخيالي حاضرًا كذلك في قصص مثل «زرع ملوك» أو القصة التي يتحدى فيها البطل عالمه حتى لو كان ذلك من خلال «الغضب الجميل».

أسير طويلاً وأتركني لحزن المدينة، المُخبّأ في شواعها الجانبية، لم أنخدع يومًا بحفلات الزفاف المبدورةِ بطول الكورنيش، إنه نفس الشخص يتزوّج كل وم لكنه بملامح وأسماء مختلفة يعيش نفس النمط، دون أن يعرف، رأيت حياتهم كقصةِ لعينة يكررها الجميع برتابةٍ ورضا، فالجميع يقابل عريسًا، ويقابل عروسة، والجميع يقول «أنا ما بيهمنيش الفلوس، ويهمني الأصل الطيب». يرسلون بعضهم لبعض «صباح الفل» في أول أسبوع من الخطبة ويأكلون أسبوعيًا قطعتي جاتوه في صالون العروسة، وبعدها ينجبون «ملك» و«جنة» ثم يموتون بثقة من عاش حياةً كاملة، كأنها عينة مجانية معدة لهم مسبقًا معلّبة، وأكبر اختيارٍ ملكوه يومًا ما كان لون ملابسهم.
من قصة «لأجل صديقي»

تبدو المجموعة محاولةً لكسر الرتابة والملل الذي تبثه المدينة في نفوس سكانها، وسعيًا في الوقت نفسه لرصد طرق تعامل الناس مع هذه الرتابة والملل الذي تفرضه سطوة المدينة وسكانها على أرواحٍ وأشخاصٍ تسعى للانطلاق، سواء كان ذلك الانطلاق واقعيًا أو حتى عن طريق الخيال.

فالسائق الذي يمضي عمره في طرق السفر الصحراوية خارج حدود المدينة يسعى لإقامة علاقة خاصة بالأحلام والخيالات التي يهرب بها من قسوة واقعة في «مجسّات ناعمة»، في الوقت الذي تحلم فيه العاملة البسيطة في محل الملابس باليوم الذي ترى فيه الجانب الآخر من العالم من خلال عبور البحر، وبلدة يحترف أهلها غزل «الخوص» ويسعى بناتها للتحقق وتقليد بنات «المدينة» من خلال «الزواج العرفي» الذي بدا أنه أحدث موضات الزواج في ذلك الوقت، ولكن الساردة تتشكك في تفاصيل الحكاية لتترك القارئ في حيرة بين ما حدث بالفعل وما يمكن أن يحدث في بلدة فقيرة كهذه، بل وقد يأتي كسر الرتابة والملل من خلال العنف الذي يترك أثرًا في نفس ساردة القصة لا يُنسى:

أنا من هناك، من أرض الحياد القبيح على الحدود بين الريف والمدينة، قضيت طفولتي في صمتِ لا يلائم الأطفال، صنعت أبطالي الخياليين وأشباحي المخيفين، لكن في ليلة من ليالي شهر مارس، متأرجحة بين الشتاء والربيع، كسرت المستعمرة حيث كنت أعيش أعوام طويلة من الملل والعادية، هاجمها العنف كفيروسٍ من الهواء، وتراكمت الصدف حتى صنعت ليلة لا تُنسى، عرفت فيها الشجن للمرة الأولى، واختبرت رهافة سمعي والأهم رأيت الموتى، لكن وأنا بعيدة عن كل هذا، ما الذي أعاد تلك الليلة إلى أحلامي؟
من قصة «لا قبور لسكاني المستعمرة»

تجيد «أسماء الشيخ» اللعب على أساليب القص المختلفة، وتمزج بين أكثر من طريقةٍ وتقنية في قصصها، فهي تقدًم لحكايتها بشكل موجزٍ أحيانًا كما في القصة السابقة لتجذب القارئ لعالم القصة بشكلٍ مفصِّل بعد ذلك، كما تسعى لكسر الإيهام في قصصٍ أخرى بطريقة مخاطبة القارئ ومشاركته في تفاصيل القصة والتشكيك في أحداثها تارة أخرى، أو تعرض الحكاية بشكلٍ حيادي عابر بدون استخدام أي تقنيات سردية أو قصصية كل ذلك بوعيٍ شديد بالحالة الخاصة التي تريد أن تنقلها للقارئ من خلال كل قصة.

تحضر المرأة وأحلامها وأفكارها وطموحاتها في المجموعة بشكلٍ واضح في أكثر من قصة، وقد استطاعت الكاتبة أن تكشف جزءًا من عالم المرأة برهافة وبساطة شديدين في قصة «غمضي عينيك» التي تتناول فكرة فرض الوصاية على البنت الصغيرة من مشاهد القبلات في الأفلام، وتم تحويل القصة إلى فيلم قصير حصل على الجائزة التشجيعية من مهرجان الإسكندرية الدولي عام 2015، كما نجد العالم السري المسكوت عنه للمرأة في قصة «البدايات الملعونة» ومحاولة التعبير عن رغابتها الجنسية وكيف أن البطلة لا تتمكن من مواصلة الحياة مع زوجٍ لا يهتم بمشاعرها ولا يقيم أي وزن لها أثناء علاقتهم الخاصة، كما تأتي محاولات الفتاة للحصول على حياتها وحريتها في قصة «قبل أن أرى البحر» التي صاغتها الكاتبة بشكلٍ مكثف وذكي.

وعلى الرغم من قصر قصص المجموعة التي لا تتجاوز كلها 75 صفحة فإن التكثيف الذي تحرص الكاتبة عليه في كل قصةٍ من قصصها يجعل من كل قصة عالمًا لوحده، بل ربما كانت كل قصة صالحة لأن تكون بذرة رواية مستقلة، لا سيما وأن كل قصةٍ منهم تحمل فكرة وموضوعًا مختلفًا عن الآخر، وإن اجتمعت في النهاية في إطار واحد يتأرجح بين عالم الريف والمدينة ويرصد ما بين العالمين من نقاط اتصال وانفصال وطرق تأثير وتأثر.

تجدر الإشارة إلى أن «أسماء الشيخ» روائية وكاتبة مصرية من مواليد الإسكندرية، حصلت روايتها الأولى «مقهى سيليني» على جائزة محترف الرواية الذي تعده الروائية «نجوى بركات» في لبنان، ونشرت الرواية عن دار الآداب عام 2014، كما حصلت قصتها «مجسّات ناعمة» على المركز الثالث في ورشة عمل قصص القاهرة القصيرة بمعهد جوتة عام 2014. «كواليس المدينة» هي مجموعتها القصصية الأولى صادرة، مؤخرًا، عن دار صفصافة.