كان العالم الجديد الأول الذي اكتشفته آلة التصوير السينمائي زمن السينما الصامتة هو عالم الأشياء الصغيرة جدًا التي لا ترى إلا من مسافة قصيرة، هي الحياة الخفية للأشياء الصغيرة. لقد تمكنت الكاميرا بواسطة اللقطة القريبة من أن تكشف لنا عن الدوافع الخفية للحياة التي كنا نعتقد أننا نعرفها جيدًا من قبل. اللقطة القريبة لم توسع رؤيتنا للحياة فقط بل عمقت هذه الرؤية، لم تكشف لنا عن أشياء جديدة فحسب، لكنها قدمت لنا معنى الأشياء القديمة.
بيلا بلاش «نطرية السينما»

تنسب معظم المراجع السينمائية الاستعمال الأول للقطة القريبة للمخرج الأمريكي «ادوين اس بورتر» في فيلمه «سرقة القطار الكبري» عام 1903 حيث كان لها أثر مدو في ذلك الوقت عند مشاهدة رأس بذلك الحجم على الشاشة، حيث يوجه الممثل «جوستوس دي بارنز» مسدسه مطلقًا الرصاص تجاه الكاميرا والجمهور. ترتبط اللقطة القريبة عادة باسم المخرج الأمريكي «دي. دبليو. جريفيث» وهو أحد الآباء المؤسسين للغة السينمائية رغم أنه لم يكن أول من استخدمها، إذ كان جريفيث هو الذي زود اللقطة القريبة بقوتها التعبيرية وجعل منها تلك النافذة المدهشة المفتوحة على النفس البشرية.

لقطة Close Up، المنظر الكبير أو اللقطة القريبة تظهر القليل جدًا من موقع التصوير (المحيط) أو لا تظهر شيئًا تمامًا، وتركز على شيء صغير نسبيًا (غالبًا الوجه البشري). هناك عدة أنماط للقطة القريبة: «لقطة قريبة متوسطة» عادة ما تضم الرأس وجزءًا من الصدر، و«لقطة قريبة» تصور الرأس لإظهار ملامح أكثر من الوجه، و«اللقطة متناهية القرب» تركز على جزء من الرأس كالعين أو جزء من اليد كالخاتم.


الأهمية السينمائية للقطة القريبة

اللقطة القريبة هي إحدى الإضافات النوعية بالغة الأهمية للسينما. هي النهاية الطبيعية لحركة الكاميرا إلى الأمام، وهدفها الرئيسي تقوية وتدعيم المحتوى الدرامي، وتمتاز عن بقية اللقطات بوجود دلالة سيكولوجية محددة لا دورًا وصفيًا فحسب. يقول «جان لوك جودار»: إن القطع الأكثر طبيعية هو القطع عند نظرة الشخصية حيث النظرة هي الجزء الأكثر تعبيرًا في الجسد البشري فهي توحي بلا كلمات ما يتحول بالكلمات حشوًا مطولًا.

اللقطة القريبة هي اللقطة الأكثر حميمية عند مخرجين مثل «دراير»، أو «مورناو» وقد تكون الأكثر عدوانًا وقسوة عند مخرجين مثل «برجمان»، أو «هيتشكوك». تنزع اللقطة القريبة القناع عما تصوره، تعري روح الأشياء وتكشف لنا عن الحياة الصغيرة المخبأة في التفاصيل، وتمنحنا ما في الأشياء من شعر. في ما تبقى من مساحة هذا المقال سنستقصي إمكانات اللقطة القريبة ومداها ودلالاتها التعبيرية من خلال تحفتين سينمائيتين؛ فيلم «آلام جان دارك» لكارل دراير، وفيلم «Close Up» لعباس كيارستمي.


آلام جان دارك: في البدء كان وجه ماريا فالكونتي

ماريا فالكونتي هي بطلة فيلم «آلام جان دارك The Passion of Joan of Arc»، فيلم المخرج الدنماركي «كارل دراير »الذي حققه في فرنسا عام 1928 والتي يقول عنها الناقد الأمريكي «روجر ايبرت»: «لا يمكنك أن تعرف تاريخ السينما الصامتة ما لم تعرف وجه ماريا فالكونتي».

تقدم ماريا هنا واحدًا من أفضل الأداءات التمثيلية وأكثرها تأثيرًا في تاريخ السينما. يصور الفيلم الأيام الأخيرة في حياة «جان دارك» معتمدًا على وثيقة تحتوي تفاصيل المحاكمة التي انتهت بموتها. في بداية الفيلم يورد دراير أنه اكتشف عبر هذه الوثيقة جان دارك الحقيقية، جان البسيطة والإنسانة وليس المقاتلة والقديسة. أراد دراير أن ينفذ إلى جوهر حقيقتها وإلى صميم روحها. لذا يبتعد هنا عن أي منحى قصصي. يختفي المحيط أو يستحيل إلى خلفية بيضاء، فالفيلم يتكون في أغلبه من لقطات قريبة (الوجوه بشكل أساسي). يختزل حركات الجسد وأوضاعه إلى حدها الأدنى، بينما يطلق العنان في استعراض مهيب لمختلف أطياف العواطف والمشاعر التي تختلج عبر وجوه شخصياته.

يسعى دراير دائمًا لخلق مدى ملموس فيما وراء إدراكنا الحسي كما لو كان يحملنا بأجنحة خفية من طبقات الوعي إلى طبقات أخرى أكثر غورًا في الذات. هذه الأجنحة الخفية هي اللقطات القريبة التي تنقلنا إلى بعد آخر، فكاميرا دراير هنا تتحرك في بعد روحي خالص وإيقاع الصور ليس إيقاع الحياة اليومية بل إيقاع الروح. تنتمي جماليات دراير إلى فن البورتريه، فكادراته بورتريهات نابضة بالحياة. ماريا فالكونتي تريق روحها في بورتريهات دارير، حقيقة لا مجازًا. يصف الناقد الفرنسي «أندريه بازان» فيلم دراير بأنه كفاح نقي للنفوس، حيث كل الحركة في هذه المأساة الروحية هي حركة داخلية تجد تعبيرها الكامل والعميق عبر الوجوه.


فيلم «Close Up»: في كل منا شيء من سابزيان

لمائة عام كانت السينما تنسب إلى صانع الفيلم، دعونا نأمل أن يحين الوقت لنا كي نشرك الجمهور في قرنها الثاني.
المخرج الإيراني «عباس كيارستمي».

يختار كيارستمي اسم «لقطة قريبة» عنوانًا لفيلمه، فهي اللقطة الأنسب لهذا الفيلم الذي حقق أمل كيارستمي في أن ينسب الفيلم لجمهوره لا لمخرجه. هنا يصير «سابزيان» هو البطل في قلب الكادر، هو الفيلم نفسه، ويصير كيارستمي متفرجًا. إنه فيلم خادع جدًا على بساطته الظاهرة.

يتلاعب كيارستمي بنا، فالفيلم المبني على تحقيق صحفي عن أحد الأشخاص العاطلين عن العمل «حسين سابزيان» الذي يقوم بانتحال شخصية أحد المخرجين «محسن مخملباف» حيث استطاع إقناع عائلة ميسورة الحال بذلك، وأنه يريد تصويرهم وتصوير منزلهم في أحد أفلامه. شخصية كهذه في لقطة عامة سيبدو كما لو كان شخصًا مخادعًا أو لصا. لكن في لقطة قريبة ستراه بالتأكيد على نحو مختلف، إذن ففيلم كيارستمي قائم بأكمله على فلسفة اللقطة القريبة في الكشف عن حقيقة سابزيان، عن حقيقة الفن وعن حقيقتنا أيضًا.

مع ذلك، أول لقطة قريبة لسابزيان تأتي بعد ربع زمن الفيلم تقريبًا. اللقطة القريبة هي النهاية الطبيعية لحركة الكاميرا للأمام، لذا يمكننا اعتبار الربع الأول للفيلم كحركة واحدة للكاميرا باتجاه موضوعها الرئيسي ينتهي بلقطة قريبة له. كيارستمي يتلاعب بالسرد، حيث تتحرك كاميراه في البداية مع شخصيات هامشية، فحين يتم إلقاء القبض علي سابزيان داخل المنزل تظل الكاميرا في الخارج مع السائق، ثم تتحرك الكاميرا بعيدًا عن السائق مع علبة فارغة تتدحرج بعيدًا حتى نهاية اللقطة. هذا التلاعب يملأ المتفرج برغبة عارمة لمشاهدة سابزيان، للاقتراب منه ومحاولة فهمه بديلًا عن البعد المفروض عليه من السارد.

في لقطة من فوق الكتف يسأل كيارستمي سابزيان لقد اعترفت أنك قمت بالاحتيال، فيجيبه؛ «نعم لأنني أبدو في الظاهر كذلك»، فيسأله كيارستمي؛ «لكن ما الحقيقة؟» هنا اللقطة القريبة الأولى لسابزيان، وهي لقطة تجمعه وكيارستمي معًا، كيارستمي هنا هو أيضًا في وضع المتفرج بينما سابزيان في قلب اللقطة. تبدو إذن هذه اللقطة القريبة كما لوكانت تجمعنا مع كيارستمي وسابزيان في لقطة قريبة واحدة، وتجعلنا نفكر في أن موضوع سابزيان هو ذريعة للاقتراب من طبيعة الإنسان عمومًا ولاقتراب من السينما أيضا كفن. المخرج الألماني «فرنر هيرزوج »يتحدث عن الفيلم قائلًا هذا أفضل وثائقي شاهدته عن السينما.

ألسنا جميعًا نفعل ما فعله سابزيان؟ نعيش حياتنا كلها كذلك تحت أقنعة مختلقة نخفي تحتها إحباطنا من ذاتنا ومن العالم مدعين أننا آخرون، ثم نمزقها في لحظات صدق نادرة، أو هكذا نوهم أنفسنا. أليس ذلك هو جوهر الفن عمومًا والسينما خصوصًا؟

يمنح كيارستمي سابزيان لقطته القريبة، يحقق حلمه القديم أن يصنع فيلمًا عن معاناته، يمنحه ويمنحنا معه مرآة نرى فيها أنفسنا عن قرب. سابزيان الذي يقول: سألت ملهمتي لماذا أنت محتجبة فأجابتني بل أنت المحتجب. نحن عبيد لقناع يخفي وجهنا الحقيقي، وإذا استطعنا أن نحرر أنفسنا، فجمال الحقيقة سيكون من نصيبنا.

ألسنا جميعًا بنا شيء من سابزيان؟