بدأ الأمر بمشاهدة إحدى المباريات المحلية بين الأهلي وفريق آخر، وبالمصادفة كان يجلس بجانبي شخص غير مهتم كثيرًا بكرة القدم، لكنه لاحظ عدم تواجد أسماء لاعبي الأهلي على قمصان الفريق، ليقرر سؤالي عن السبب.

كانت الإجابة الأبسط تتمثل في الرد على السؤال بمثله، إذا عرضت عليك وضع اسم إحدى الشركات بدلاً من اسم اللاعب، نظير مقابل مادي، هل ستضع اسم اللاعب أم الشركة؟ بالطبع يبدو الاختيار المنطقي واضحًا. وبما أن رفيقي لم يلاحظ الصدفة الكونية التي وضعت اسم نفس الشركة على جميع قمصان فرق الدوري المصري -عدا الأهلي والزمالك وبيراميدز- فسننطلق من الملاحظة الأولى.

لطالما كانت علاقة المشجع براعي القميص علاقة شكلية، فالشركة تصبح جيدة كلما جعل شعارها القميص أكثر أناقة. وأحيانًا أخرى تتنقل العلاقة بين التفاؤل والتشاؤم. لكن مع تطور اللعبة، تدرجت رحلة الرعاية لتذهب إلى أبعد من ذلك.

معاناة الظهور

لنبدأ من نقطة الصفر، عندما كان المنطق المقبول هذه الأيام، غير منطقي. حيث كان وضع شعار شركة على قميص النادي محرمًا وفقًا للوائح، لذا تم الأمر للمرة الأولى عبر التحايل. كان ذلك في ألمانيا، عام 1973، حين قرر نادي «Eintracht Braunschweig» استبدال شعاره بشعار الشركة المعلنة، وكانت شركة «JAGERMEISTER» للمشروبات.

في العام التالي، حذا بايرن ميونيخ حذوهم، وحذف شعاره مقابل وضع شعار شركة «Adidas» في منتصف واجهة القميص. ثم أخذ الأمر بالانتشار في ألمانيا، وفرنسا، وظهر أيضًا في سباقات الفورمولا وان. أما في إنجلترا، فكانوا متمسكين بلوائحهم القديمة.

على غير المتوقع، لم تهب رياح التغيير في إنجلترا عبر أحد الفرق الكبرى، بل أتت بواسطة فريق في الدرجة الأدنى يدعى «Kettering Town» عام 1976، والذي قرر وضع شعار شركة «Kettering Tyres» المحلية لصناعة الإطارات. لكن الشعار استمر لمباراة واحدة فقط بسبب تعنت الاتحاد الإنجليزي. فقرر النادي التذاكي، وحذف آخر 3 حروف من كلمة «Town»، والاكتفاء بحرف «T» اختصارًا لكلمة «Tyres»، لكن الاتحاد هدد بتغريمه، فتراجع.

تقدم الفريق رفقة ناديي «بولتون واندرز» و«ديربي كاونتي» بطلب للاتحاد، للسماح لهم بوضع الرعاة، وتمت الموافقة عليه في يونيو 1977، لكن لم يضع أحد منهم أي شعارات. واكتفى «ديربي كاونتي» بوضع شعار شركة «Saab» في الفترة التحضيرية لموسم 1978/79، لكن لم يره أحد في المباريات الرسمية.

حتى أتى ليفربول وأبرم أول صفقة رعاية قميص في الدوري الممتاز، مع شركة الإلكترونيات اليابانية «Hitachi». لتتبقى خطوة أخيرة كي تنطلق رعاية القمصان بلا توقف، والتي تمثلت في إقناع القنوات الناقلة على رأسها ال«BBC» بقبول الأمر. بعدها وتحديدًا في عام 1982، سمح الاتحاد الأوروبي بذلك أيضًا، حتى وصلنا إلى الشكل الحالي.

غرائب وطرائف

في إطار هذه الرحلة، كان لابد من تقنين عدد ومساحة الإعلانات على القميص في معظم البلدان، حتى لا يتحول إلى لوحة إعلانية خالصة، كما فعل نادي «Mjallby AIF» السويدي في 2014، حين وضع على قميصه «13» إعلان!

يمكننا رؤية أبرز الأمثلة على هذه المحددات في البريميرليج. عندما أتاح الاتحاد الإنجليزي للأندية وضع إعلانات على كُم القميص بداية موسم 2017/18، حيث أُتيحت في مساحة لا تتجاوز 100 سنتيمترًا مربعًا. وبالطبع هنالك مساحة محددة أيضًا على واجهة القميص (250 سم2)، والجوارب (100 سم2)، ولا يجوز تخطيها.

لكن تحديد المساحة لم يمنعنا من رؤية عدد لا بأس به من الغرائب والطرائف فيما يخص المعلنين. ففي النهاية هي مسألة عرض وطلب، طالما سأدفع المقابل المطلوب، فمن حقي أن أضع اسم شركتي على القميص.

لنبدأ بنادي إيفرتون، الذي سيحضر معنا بلقطتين، الأخيرة كانت في موسم 2017/2018، حينما وضع على كُم قميصه إعلانًا للعبة «Angry Birds»، أما اللقطة الأولى فكانت في ثمانينيات القرن الماضي، حينما وضع إعلانًا لشركة «Hafnia» الدانماركية لمنتجات اللحوم. الغريب أن منتجات الشركة لم تكن تباع في إنجلترا من الأساس، كما أن النادي لم يكن يضم أي لاعب من الدانمارك حتى 1997!

لدينا أيضًا أتلتيكو مدريد الذي تعاقد في عام 2003 مع شركة «Columbia Pictures» للإنتاج السينمائي. ولمدة عامين، كانت الشركة تعلن عن أفلامها على قميص الروخي بلانكوس، مثل: bad boys 2, SWAT, Anacondas وغيرها.

كل ما يخطر ببالك كان يمكن الإعلان عنه على القميص، بداية من الحلوى المغلفة «Chupa Chups» على قميص شيفيلد في عام 1999، وصولاً بالإعلان الغريب الذي قام به نادي «Voukefalas» اليوناني لأحد بيوت الدعارة بالمدينة في عام 2012. في النهاية، قد يعتبر أحدهم ذلك في إطار المنطق، طالما الإعلان يخبرنا عن سلعة أو خدمة، لكن ما الذي قد يجعلك تعلن عن شيء، لا يمكن للجماهير الحصول عليه؟

القوة الناعمة

قبل أن تسرح بخيالك محاولاً توقع هذا الشيء، فسنخبرك أنه الغاز الطبيعي، وتحديدًا شركة «Gazprom» الروسية، التي تملك الحكومة الروسية نسبة 50.23% من أسهمها. لعلك رأيت اسمها صدفة، فهي الراعي الرئيسي لقمصان أندية: زينيت سان بطرسبرج الروسي، شالكه الألماني، ريد ستار بلجراد الصربي، فضلاً عن كونها واحدة من رعاة دوري أبطال أوروبا.

خريطة تعاقدات الرعاية لشركة Gazprom
خريطة تعاقدات الرعاية لشركة Gazprom
/ Youtube

لماذا تنفق شركة تقدم منتجًا لا يستطيع الجمهور الحصول عليه كل هذه الأموال في كرة القدم؟ الإجابة تبدأ من المنتج نفسه. حيث تمتلك روسيا أكبر مخزون من الغاز الطبيعي العالمي، جعل مبيعاته تمثل 40% من ميزانية الدب الروسي، وبالطبع فإن معظم الحقول مملوكة لشركة «Gazprom»، التي تدار بواسطة حلفاء الرئيس «بوتين»، وبالتبعية أصبحت الشركة واحدة من أدواته.

بواسطة هذه الأداة، تمكنت روسيا من إمداد معظم بلدان أوروبا الشرقية (بولندا، لاتفيا، بلغاريا،…) بالغاز الطبيعي، وبدرجة أقل كلما اتجهت غربًا ناحية ألمانيا وفرنسا، حتى حانت اللحظة الأهم في عام 1999، حينما أعلنت ألمانيا عن حاجتها للغاز الطبيعي، لتبدأ روسيا برسم المخطط.

إلى الآن يبدو وكأنك -بدون قصد- ضغطت على زر ما لتنتقل من قسم رياضة إلى سياسة، لكن في الحقيقة أنت ما زلت معنا، وستدرك في النهاية من تسبب بهذا الخلط؟ والآن لنكمل المخطط. قررت روسيا بناء خط أنابيب يصل بينها وبين ألمانيا عبر بحر البلطيق، تحت اسم «Nord Stream».

أثناء الانتهاء من التفاصيل المادية الأخيرة للإنشاء في آخر عام 2005، حلت «أنجيلا ميركل» محل المستشار «جيرهارد شرودر»، المسئول عن المفاوضات في ذلك الوقت. وكي تكتمل العقبة، بمجرد خروجه من منصبه، رأس «شرودر» لجنة مساهمين للشركة التي تشرف عليها «جازبروم» لتوصيل «Nord Stream». لتخرج الاتهامات بموافقته على تمويل الشركة الروسية بقرض سري، لتمويل المشروع.

وبذلك تحولت القصة إلى قضية فساد، لم تجد الشركة الروسية مفرًا منها سوى عبر كرة القدم. ففي عام 2006، كان نادي شالكه غارقًا بالديون، حتى تدخلت «جازبروم» لتلعب دور المنقذ، بتقديم عقد رعاية للفريق الألماني. صرح رئيس الشركة عن سبب هذا التحرك، مؤكدًا حدوثه بسبب أهمية مدينة «غلزنكيرشن» واتصالاتها بقطاع الطاقة، فضلاً عن شعبية النادي الكبيرة.

وفجأة تحول اسم «جازبروم» من قضية الفساد إلى تصدر عناوين فاعل الخير الذي أنقذ واحدًا من أعرق أندية ألمانيا، وتدريجيًا تغلغل الشعار ليصبح جزءًا من الجمهور، التميمة، وكل شيء له علاقة بالنادي. وبحلول عام 2011، بدأ ضخ الغاز إلى ألمانيا.

تجربة «جازبروم» في غسيل السمعة، كانت رائدة لتجارب عديدة تالية، مثل طيران الإمارات، طيران الاتحاد، خطوط طيران قطر. لتأخذ عملية رعاية القمصان وشراء النوادي أبعادًا سياسية، أكثر ذكاءً ونعومة.

قد تسأل نفسك الآن «ماذا سنفعل بعد علمنا بكل هذه الخطط والمؤامرات؟ هل ذلك يفيد؟» قد لا يكون بيدنا شيء، لذا على الأقل أنت الآن تعلم، والمعرفة لا تضر.

اقرأ أيضًا: الوجه القبيح لكرة القدم: أن تتناسى مبادئك بحجة الانتماء