لم تكن أحداث ليلة الخامس عشر من يوليو/تموز، المحاولة الأولى من قبل جماعة فتح الله كولن للاستحواذ على السلطة في تركيا، إذ سبقتها محاولة انقلاب قضائية في ديسمبر/كانون الأول 2013.

وقد شهدت تلك اللحظة العلامة الفارقة التي قادت إلى الطلاق البائن بين الجماعة وحزب العدالة والتنمية، بعد أكثر من عقد من التحالف وتبادل المكاسب بين الطرفين. ومنذ ذلك الحين، سعت الحكومة إلى الفصل بين مسمى «جماعة الخدمة» ذي الإيقاع الإيجابي الذي يشمل القاعدة الشعبية، وبين تسمية «الكيان الموازي» – للدولة – التي تشمل فئة المتنفذين والمخترقين لمؤسسات الدولة.

ركّز الخطاب الحكومي في حينه على استهداف فئة المتنفذين، عبر التأكيد على وجود 3 مستويات ضمن الجماعة، وهو ما ظهر في الرؤية التي تبناها أردوغان وتقول: «tabanı ibadet, ortası ticaret, tavanı ihanet» بمعنى أن الجماعة قاعدتها عبادة، ووسطها تجارة، وسقفها خيانة.

لم تقتصر ردة الفعل على محاولة انقلاب 15 يوليو/تموز على قطاعات الجيش والشرطة والقضاء، بل امتدت لآلاف الموظفين المدنيين المشتبه بانتمائهم لجماعة كولن.

لكنّ ردة الفعل على محاولة انقلاب 15 يوليو/تموز، التي اتهم الكيان الموازي بتنفيذها، كانت مختلفة من حيث المبدأ والشمول؛ إذ لم تقتصر حالات الاعتقال والفصل الوظيفي على العسكريين والشرطيين والقضاة المشتبه بتورطهم بالانقلاب، بل طالت أيضًا 46 ألف موظف مدني مشتبه بانتمائهم لجماعة كولن في قطاعات عامة كالإسكان والتعليم والصحة، كما تم إغلاق قرابة 2350 مؤسسة تعليمية وصحية وخيرية مشتبه بارتباطها بالجماعة.

وبدا هنا أن الإجراءات الحكومية جنحت نحو الممارسة الانتقامية من جماعة كولن، عبر استثمار الفرصة من أجل تجفيف منابع قوتها الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، وليس فقط معاقبة المتورطين بمحاولة الانقلاب، وهو الأمر الذي لم تنفِهِ الحكومة أو الرئيس أردوغان الذي اعتبر المحاولة الانقلابية الفاشلة «منحة من الله» لتطهير مؤسسات الدولة،ورأى فيها أمر الله إيشلار القيادي الرفيع بالحزب بأنها «الضارة النافعة».

هذا الانحراف الرسمي عن مسار معاقبة المتورطين، وتحصين مؤسسات الدولة عن ما يهدد موروثها الديمقراطي والمدني، والعبور نحو سكة الانتقام ومحاربة مؤيدي الجماعة في أقواتهم ومستقبلهم التعليمي والوظيفي، يبدو خيارًا خطيرًا على المستويين المتوسط والبعيد، إذ يهدد بإحداث شرخ لا يلتئم بين الدولة والحاضنة الشعبية لجماعة كولن، لا سيما أن هذه الشريحة في عمومها لم تكن قد وصلت إلى خانة العداء المطلق مع الدولة والحكومة، حتى بعد محاولة الانقلاب القضائية عام 2013.


الناظر والمُتعاطي مع القاعدة الشعبية للجماعة لا سيما فئة الطلاب والموظفين البسيطين والعامة من مريدي الجلسات الدينية «Sohbet» يجد أن هناك فجوة هائلة، بل ثقبًا أسودَ، بين هذه الفئة التي تعد مكونًا أصيلًا وصالحًا في الشعب التركي، وبين فئة المتنفذين من رجال أعمال وقضاة وأصحاب رتب عسكرية رفيعة، بل إن الفئة الأولى خرجت قطاعات وازنة منها عن توجيهات الجماعة بعدم إعطاء أصواتهم لحزب العدالة والتنمية أو أردوغان خلال 3 استحقاقات انتخابية ماضية.

وطالما استخدم المتنفذون في الجماعة، سلطتي الدين واستغلال الحاجة، من أجل النفاذ إلى عقول أتباعهم وأسر نفوسهم، عبر 4 مبادئ رئيسية:

أولًا: استغلال الحاجة

تقوم فلسفة الجماعة على «تربية» أتباعها في أعمار صغيرة، من أجل تهيئتهم لأدوار كبيرة في المستقبل، وتبدأ تبنّيها للطلبة من المراحل الدراسية المبكرة، عبر توفير البيئة التعليمية الاحترافية في معاهد التدريس الخاصة «Dershane».

تقدم الجماعة المنح المالية للطلاب المحتاجين، وتستقطبهم عبر استضافتهم في مساكنها، ضمن برامج التربية التي أعدتها لهم.

تقدم الجماعة المنح المالية للطلاب المحتاجين، ثم تركز بصورة مكثفة على متابعة الطلاب الجامعيين عبر استضافتهم في منازل ومساكن الجماعة، في بلد يضطر أكثر من ثلثي طلابه إلى السفر نحو مدن أخرى للدراسة، وهناك تمنح الجماعة للطلاب فرص إقامة رخيصة ونظيفة وآمنة تتفوق على ما تمنحه المساكن الحكومية أو التجارية مرتفعة التكاليف، كما تمنح الطلاب المتفوقين والمحتاجين فرصة الإقامة المجانية، وتلزم المقيمين بالانخراط ببرامج التربية الإيمانية والحركية التي تختارها.

خلال وجود الطلاب تحت أعين مسؤولي الجماعة، تستطيع أن تستقطب المتفوق منهم في كل مجال من أجل تأهيله عبر منح الدراسات العليا والتدريب، وأحيانًا تسريب الامتحانات الوظيفية، ليحتل موقعًا مهمًا في المستقبل، بعد أن تكون قد ضمنت أو «اشترت» ولاءه بخدماتها، أما الطلاب الذين تجد فيهم مواصفات قيادية مميزة، تمارس عليهم ضغوطًا لتفريغهم للعمل الداخلي على حساب الدراسة، مقابل ضمانات بتوفير فرص عمل في مؤسسات الجماعة برواتب مجزية.

ثانيًا: تسخير الدين

في بيئة أعجمية لا تتوحد على مدرسة فقهية معاصرة، أو تيار ديني يحقق الإجماع، سهلت مهمة الجماعة في تسخير الدين بطريقة انتهازية لتحقيق مصالحها، ولعل أهم مظاهر هذا التسخير هو مبدأ السرية أو التقية، عبر توجيه الأستاذ مريديه نحو إخفاء التزامهم الديني ونفي أي شبهة تربطهم بالتدين بغرض الوصول إلى مناصب ومكاسب وظيفية وتعليمية.

توجه الجماعة أتباعها في المناصب الحساسة لتجنب ارتداء الحجاب والصلاة في الأماكن العامة مبررة ذلك بأن السرية «التقية» هي «الجهاد الأكبر».

ويبدو مألوفًا في مساكن الجماعة، أن تجد الفتيات المحجبات يتوجهن صباح كل يوم كاشفات الرأس إلى الجامعة والعمل، فيما يلتزمن بالحجاب الكامل في مشاوريهن الأخرى، كما تجدهن يقرأن صحيفة «زمان» التابعة للجماعة داخل المنزل، بينما يحرصن على حمل صحف «حريت» أو «مليت» العلمانيتين داخل الجامعة. وكذلك الحال بالنسبة للشبان الذين يطلب منهم ألا يصلوا في الجامعة أو مكان العمل، وقد يصل الأمر إلى إباحة شرب الكحوليات والمشاركة في الحفلات الليلية دفعًا للشبهات كلما ترقى الشخص منهم نحو منصب حساس، لا سيما في المؤسسة العسكرية.

وعلى سبيل المثال، فقد أشار أحد الضباط الذين تم التحقيق معه على خلفية الانقلاب إلى أن الجماعة أشارت عليهم بترك الصلاة والاقتصار على أدائها بالعيون وداخل القلب!

وترتكز فكرة الجماعة في تبرير هذه التجاوزات بأن السرية والاختفاء «التقية» هي «الجهاد الأكبر»، وأن ما دونه من مخالفات دينية هي فروع يمكن تجاوزها في سبيل الغاية الكبرى.

ثالثًا: الطاعة العمياء

إزاء هذه الآراء الشاذة، كان لا بد من التركيز على مبدأ الطاعة العمياء داخل هرمية الجماعة، وهو مبدأ استمده أتباع كولن من الصوفية التقليدية، وينسجم إلى حد ما مع تكوين الشخصية التركية التي تميل إلى الطاعة كعلامة على احترام التفوق العلمي أو العمري.

وقد ظهرت جرأة الجماعة على التحكم في خيارات أتباعها خلال الاستحقاقات الانتخابية الماضية «لا سيما انتخابات البلديات والرئاسة عام 2014»، حين موّلت تذاكر السفر لأنصارها من أجل العودة إلى المدن التي يحق لهم الاقتراع فيها، وإعطاء صوتهم ضد أردوغان حزب العدالة والتنمية سعيًا لضرب شعبيتهم بعد أول مواجهة بين الكيان الموازي والدولة.

ومما تستثمر به الجماعة لأجل ضمان الطاعة العمياء لأنصارها، هو اللعب على وتر المظلومية لدى أفرادها، وخلق العزلة الشعورية بينهم وبين «الآخر»، فهم يرون أن علمانيي الدولة متأهبون للقضاء عليهم، وأن إسلامييها لا يفهمون أو يحترمون الدين كما ينبغي.

رابعًا: البعد عن السياسة

تركز الجماعة داخل بنيتها الهرمية على مبدأ الطاعة العمياء، وهو مبدأ استمدته الجماعة من الصوفية التقليدية.

يتربع على قائمة المحظورات في مساكن وبيوت الجماعة، لا سيما لفئة الطلبة الصغار، الدخول إلى الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، أو الحديث في السياسة! ويعبّأ الطلبة بتحريم هذه التصرفات أو على الأقل كراهتها الدينية.

ويمكنك هنا أن تلاحظ أن غالبية أتباع الجماعة الذين يتفوقون دراسيًا ويمتلكون ثقافة دينية عميقة، يمتلكون إدراكًا سياسيًا ضحلًا وسطحيًا. وإن كان المجتمع التركي بصفة عامة غير مثقف أو مهتم بالسياسة خارج الإطار المحلي مقارنة بنظيره الأوروبي أو الشرق أوسطي، إلا أن هذا الشيء يُلمس بشكل أوضح لدى الشباب الذين تربوا في محاضن الجماعة منذ الصغر، وحوصرت أذهانهم بالمعارف الدينية والثقافية التابعة حصرًا للجماعة.


من الحكمة أن تتحلى الحكومة التركية بالتأني في التعامل مع الحاضنة الشعبية للجماعة، التي يبدو أنها كانت هي الأخرى ضحية لانتهازية وإرهاب «الكيان الموازي».

ختامًا، لا شك أن جماعة كولن انتهجت على مدى العقود الماضية وسائل سرية وغير شريفة بالضرورة، للتضليل واستغلال حاجة أتباعها وميلهم الفطري نحو الدين والممارسات المحافظة، مما خلق هوة كبيرة في الوعي بالجماعة وتعريفها الذاتي بين الحاضنة الشعبية، وبين متنفذي الجماعة والمتغلغلين في مؤسسات الدولة.

ويبدو من الحكمة هنا، فصلنا بين تسميتي «جماعة كولن أو جماعة الخدمة» التي تعكس واقع الفئة الأكبر من أتباع الجماعة الذين يغلب عليهم العاطفة الدينية والتربية الصوفية الصارمة وتواضع الثقافة السياسية، وبين تسمية «الكيان الموازي» التي تمثّل الفئة الأضيق التي خططت وعملت على اختراق مؤسسات القضاء والجيش والشرطة، وتقويض عمل الجهات المنتخبة ديموقراطيًا وصولًا إلى الانقلاب عليها.

هذه حقيقة تدركها الجهات الرسمية التركية، لكنها في الوقت ذاته، لا تبدو حتى الآن قد نجحت في تحييد الحاضنة الشعبية عن مرمى عملياتها الاستئصالية والانتقامية من الكيان الموازي، وإن كانت الحكومة لا تأبه اليوم بالانتقادات الغربية لعملية التطهير، فالجدير أن تتحلى بالتأني وضبط النفس حفاظًا على السلم المجتمعي وكسبًا لولاء هذه الحاضنة، التي يبدو أنها كانت كما الديمقراطية التركية، ضحية أخرى لانتهازية وإرهاب الكيان الموازي.