هكذا، وبكل بساطة، إليك الخبر اليقين: «نحن نحتقر العامية المصرية»، ولأن الأمر لا يحتاج أن يصبح جللًا، ولا يحتاج لإحصائيات واستبيانات فيكفيك الآن أن تسأل نفسك أنت وتسعة من رفاقك عن رأيكم لو وضعت في مناهج اللغة العربية للمرحلة الثانوية نصوص شعرية للأبنودي وأحمد فؤاد نجم إلى جانب نصوص للمتنبي وأبي تمام.

بصورة واسعة فنحن كمجتمع نقلل من شأن الفنون والآداب كـ «مهن» يتكسب منها الناس قوتهم، بل إن الرجل يوافق أن يزوّج ابنته إلى موظف عادي تقليدي كما الملايين في حين لا يوافق أن يجلس حتى مع شخص يتقدم للزواج ويعرف له نفسه على أنه شاعر أو مؤلف.

ما علينا من كل هذا، المراد بأننا ونحن نحتقر مهن الفن عمومًا ولكن على الأقل نعترف بها فنًا يحترمه الكثير منا كفن، أما العامية المصرية فلا تزال أكبر مشكلاتها أننا نحتقرها ولا نعترف بكونها فنًا أصلًا علاوةً على احتقار من يكتبون بها.

لا أقصد بالعامية المصرية شعر العامية، الغرض أكبر من ذلك، أقصد أي نتاج أدبي مكتوب بالعامية المصرية وإن كان الشعر هو السيد الأكبر فليكن الرمز على أي حال.

يهمني أن تعرف أن هذه المساحة ليست لعرض صراع ما بين الفصحى والعامية، بل على العكس الهدف الذي أرجوه ألا نتحدث أصلًا بصيغة التقييم على أساس العامية أو الفصحى، لكن الوصول إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، أن الأدب إما جيد وإما لا، فصحى كان أو عامية.

يقول «أحمد عبد المعطي حجازي» في مقال له بعنوان «مصر والشعر»:

إن مصر نفسها شاعرة وما أنتجه الكثير من شعرائها ليس مجرد نظم كلامي وإنما كان تمصيرًا للشعر العربي والوصول فيه إلى لغة نقرأها فنجدها مصرية وهي مع ذلك عربية فصحى.

هذا ما أصبو إليه، أن نُنحي هذا القالب اللغوي جانبًا، أعلم كما الجميع أن العامية ما زالت ابن شهرين يحبو خلف الفصحى، هذا فقط بالمقياس الزمني والمقياس الكمي، لكن المقياس الحقيقي هو هذا المجرد الذي يسمو ولا ينظر تحته: الفن.

معًا لرشفة من بحر الثالوث؛ بيرم، حداد، وجاهين. ثم نكمل.


بيرم التونسي.. صاحب الروضة

بيرم الذي يتمثل تمامًا باستغراقك لكل حرف من كلمة «فطرة»، فالفطرة هي بيرم، هو صاحب الروضة البيرمية التي ما مر عليها شخص إلا واشتم أريجها وتسلل وما درى بنفسه إلا وفي يده زهرة منها، بيرم الذي كتب الشعر كما يجلس مع أصحابه يتحدث عن أي شيء في أي شيء.

بيرم يكتب عن الحب والكره والوطنية والاستعمار والانتخابات والرياضة والغلاء، عن الطربوش والبدلة والخضار والفاكهة والإدمان والحشيش، كتب عن كل شيء بفطرته فوجد نفسه يضع حجرًا مؤسسًا في بناء «الأدب العامي»، فما كان منه إلا أن زاد عن كونه شاعرًا وتسلل بالعامية فكتب المقال ممررًا من خلاله بعض القصص القصيرة، وزاد وأراد التوسع ودق أبواب الفنون العربية الخاصة جدًا إلى أن كتب بالعامية فن المقامات مثل المقامة الباريسية مثلًا، وفي كل هذا هو بيرم الفطري الذي لا يحسب الحسابات وإنما هكذا يريد التعبير عن مرارة الحياة بلا حب فيعلنها بكل عفوية:

كل الأحبة اتنين اتنين … وانت يا قلبي حبيبك فين؟


فؤاد حداد.. الوالد

هو الوالد ولا أجد تعبيرًا أشمل منه، هو هذا الوالد المتلفح بالعباءة السمراء يؤرجحها يمينًا ويسارًا كلما فتحها خرج منها شعراء، يقف دوما على البر الآخر معلمًا إيانا أن الحياة لا تساوي شيئًا فافعل ما يرضيك واتركها، هو الذي تقلب بين الجميع وابن كل الثقافات، مصري شامي فرنسي مسلم مسيحي شيوعي، مئات الأفكار تنتج مئات القصائد من شعر حداد ليضع بها معجم العامية المصرية، فتبقى ويبقى فؤاد لا يموت:

الشمس صنعتها تشمس

والقلب صنعته يتحمس

والآه لا صنعة ولا مجهود

باغنّي زي ما باتنفس!


صلاح جاهين.. الطفل الشائب

مُحقق المعادلة التي تستوجب الحسد، أن يعبر بأسهل وأوضح الكلمات عن أعمق وأصعب المعاني، أن تراه في كل سطر طفلاً يثب ويجري لا يكف عن المزاح ثم يتوقف لحظة يضرب فيها الشيب رأسه يبكيك فيها ثم يكمل الضحك كأن شيئًا لم يكن.

صلاح جاهين من الظلم أن يُصنف كشاعر، فالحق أن تصنيفه أبسط وأكبر من هذا؛ جاهين إنسان، يموت حين يفقد روح الدعابة، حين يفقد إنسانيته، يموت حين يكتب:

يا حزين يا قمقم تحت بحر الضياع حزين أنا زيك وإيه مستطاع الحزن ما بقالهوش جلال يا جدع الحزن زي البرد.. زي الصداع

هذه وغيرها هي العامية؛ العامية التي نلوكها في مجالسنا، نتغنى بها في أسمارنا، نبكي بها في أحزاننا، لكن لا نعترف بها كلغة أدب، نظن وبكل ثقة أن هذه الكلمات التي نتغنى بها هي كلامنا العادي الذي يمكن لأي شخص كتابته، فننزع حتى من صاحبها الاعتراف به كأديب.

ورغم أنه زمنيًا مثلًا سبقت العامية الشامية نظيرتها المصرية في الإنتاج الأدبي، إلا أن الأخيرة تحمل ما لا تحمله غيرها، آلاف المصطلحات من مختلف الحضارات والأزمنة صُهرت جمعاء في إناء واحد لتخرج هذا الشكل، حتى وإن لم يكن لغة معتمدة بقواعد منفصلة إلا أن كل المعايير الأخرى غير الأكاديمية تعلن العامية المصرية لغة ليست مجرد لكنة لَحَنَ بها اللسان، العامية لديها من كل المقومات ما يجعلها لغة أدب مستقلة، ابنًا شرعيًا للفصحى يحمل جيناتها ويحمل سماته الخاصة التي اكتسبها من حياته.

اللفظ بنطقه العامي الذي يضيف له المعاني فيزيد من مكانته، مثلًا كلمة «بئر» في الفصحى، وهذا النطق بالباء والهمزة والراء الموقوفة يعطي معنى مكان تجمُع الماء، تراها في العامية المصرية تصبح «بير» مع مد الياء الهادئ الذي يضيف للمعنى مفهوم الاختباء والسر وهو رمز البئر في العامية المصرية. إنها القدرة الفائقة للعامية على تشكيل اللفظ بحرية ليكتسب معناه الأصلي ومعنى من طريقة كتابته ومعنى من طريقة نطقه، لغة تحوي بداخلها العديد والعديد من اللكنات.

يجب أن ننطلق من هنا لا من تصغيرها والجلوس انتظارًا لها حتى تبلغ عمر الفصحى.

رديت كأني من بعيد مش سامع يا لابسة من تحت الودع تنورة يا معسلة زي القمر في الشمس يا أم الليالي الهاطلة المشمورة يا ريتني أعمى أشربك باللمس!
فؤاد حداد

والله أدبٌ خالص

مرة أخرى الأمر ليس صراعًا بل محاولة لفتح شباك العامية «المتوارب»، لتنتج شعرًا وروايةً وقصصًا ومسرحًا لا ينحسر في ركن البساطة والنصوص المكتوبة بلغة سهلة تداعب عوام الناس، بل إنتاج أدبي شامل يتم مناقشة أفكاره وقضاياه وتصاويره وشخوصه، لا مناقشة لغته التي زادت أو نقصت فلن تعلو عن مكانها كـقالب عرض.

أذكر في المرحلة الابتدائية ذلك الدرس الذي كان يتحدث عن نماذج من شخصيات مصر العظيمة، وكان من ضمنهم أم كلثوم، وحين أوردوا مجموعة من أسماء أغانيها كانت كلها من الأغاني الفصحى، تقريبًا رأوه عيبًا أن يقولوا لأطفال أننا نحتفي بامرأةٍ تغني: «زرعت في ضل ودادي غصن الأمل وانت رويته».

عذرًا، أنا نفسي لم أقدر على كتابة هذا المقال بالعامية، خوفًا من عدم نشره!

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.