تبدو العلاقة بين العقل والأحاسيس أو المشاعر الإنسانية بصفةٍ عامة شديدة الالتباس والتعقيد، لا سيما إذا تعلّق الأمر بقرارات الحياة المصيرية مثل العمل والزواج والدراسة وغيرها، يحدث ذلك التعارض بشكل واضح وسريع في العلاقات العاطفية، وغالبًا ما تحسم العاطفة الأمر وتتغلّب على العقل فيها، ولكن ماذا يحدث حينما تتداخل المشاعر بين علاقات العمل والصداقة والتعلم؟ لا شك أن الأمر سيكون على قدرٍ من الفوضى والالتباس لا يسمح للمرء بتحديد موقفه من ذلك كله.

«ستيفان زفايج» كاتب نمساوي شهير، عرف برواياته التي تناقش المشاعر الإنسانية بشكلٍ فلسفي بسيط وعميق معًا، كما اشتهر بكتابة الروايات القصيرة التي يُجمل فيها الأفكار التي يود أن يعرضها دون الخوض في تفاصيل متشعبة كثيرة، تقوم رواياته في مجملها على بطلٍ أو بطلين بالأساس تدور حولهما الأحداث وتقوم عليهم فكرة الرواية، ويستطيع من خلال وصف عالمهم أن يقدم رؤيته للعالم والحياة بشكلٍ مفصّل وصادق.

في روايته «فوضى الأحاسيس» يتناول «زفايج» تجربة ثرية واستثنائية لأستاذٍ جامعي يراه تلاميذه وكل من حوله قدوة لهم ومثلاً أعلى، ولكنه يتذكَر في لحظة مجده تلك تاريخه السابق ورحلته التي أوصلته إلى المكانة المرموقة التي هو فيها الآن، فيكشف عن سرٍ خطيرٍ من أسرار حياته التي لا يعلم أحد من تفاصيلها شيئًا، ويكشف عن الرجل الذي كان السبب في تغيير مسار حياته كليةً

كنت أسعى وراء أي شكلٍ من أشكال التسلية الفكرية لا لشيءٍ إلا لأستفيد استفادةً كاملة من وقتي الذي صرت أشعر لأوّل مرة أن له هذه القيمة. غير أن أكثر ما أجج مثابرتي هو غروري ورغبتي أن أكون في مستوى توقعات أستاذي وألا أخيب ثقته، كنت أتوق إلى الفوز بابتسامة رضا منه، وكنت أريده أن يكون مدركًا لوجودي مثلمًا كنت أنا مدركًا لوجوده. كانت كل لحظةٍ بمثابة اختبار بالنسبة لي، وكنت لا أنقطع عن تنشيط قدراتي العقلية الخرقاء واستنهاضها حتى صارت موحيةً بشكل مثير للفضول.

لا شك أن القارئ سرعان ما ينجذب إلى عالم البطل مدفوعًا برغبة شديدة في التعرف على هذا السر الغامض وتفاصيل علاقة التلميذ بأستاذه التي يمكن أن توصله إلى هذه المكانة المرموقة، وبين تفاصيل تلك العلاقة يخوض «زفايج» في كل المشاعر والأحاسيس التي تنتاب ذلك الشاب الذي كان مدفوعًا لحياة اللهو والترف فإذا بهذا الأستاذ يغيّر مسار حياته وطريقة تفكيره، ويحوله إلى الاهتمام والشغف الحقيقي بالدراسة والعلم، لا سيما أنه يتناول دراسة الأدب وحياة الأدباء، ويسعى جاهدًا للكشف عن مواطن الجمال فيما يدرسه من كلاسيكيات الأدب الإنجليزي المعروفة.

يقوم السرد في الرواية على الاسترسال والتتابع، فالحكاية يتم سردها من خلال هذا الأستاذ الذي يستعرض تاريخه القديم بشكلٍ مجمل، والكشف عن حياته حينما كانت تحت إشراف ذلك الأستاذ الاستثنائي الذي كان بمثابة الملهم والمحفّز له على مواصله تعلمه ودراسته بشكلٍ كبير، بين ذلك يدور في ذهن القارئ ومن خلال تفاصيل تلك العلاقة كل الأفكار المتعلقة بالدراسة والحياة، وهو يضيف إلى ذلك علاقة ذلك الأستاذ بزوجته وبطلابه، مركزًا في تفاصيل هذه العلاقات بشكل موجز ومكثّف، ولكنه يترك القارئ في خضم عدد كبير من التساؤلات والتعليقات.

بالطبع ﻻ تسير العلاقة على خط واحد ثابت، بل ينتابها ما ينتاب أي علاقة بين اثنين من فترات تباعد وتقارب، وما قد يعترض حياتهما معًا من شد وجذب، والحقيقة أن «زفايج» يعرض لحالة بطليه «التلميذ»، و«الأستاذ» بشكلٍ بالغ الحساسية والدقة، يجعل القارئ مندمجًا ومتفاعلًا مع كل خطوة وكلمة وتعليق يطلقه أحدهما على الآخر، مما يحفزه على مواصلة قراءة الرواية، لا سيما أنها رواية قصيرة لا تتجاوز 140 صفحة.

كان الأستاذ كلما اقترب مني يزداد بعدًا، إذ لم تكن شخصيته لتكشف عن أسرارها أبدًا ولم يكن من خلال محادثاتنا العميقة ليحقق لي الرضاء الذي كنت أبحث عنه، وحتى في الأوقات التي يتجرد فيها من انطوائه وتحفظه، صرت أعلم أنه في اللحظة الموالية سيوجه لي حركة أو كلمة لاذعة يقطع بها حميميتنا. وكثيرًا ما كان هذا التقلب يربك مشاعري، ولا أبالغ إذا قلت إنني في أوقات كثيرة حين يغمرني الحماس أكون على وشك ارتكاب حماقة ما لا لشيءٍ إلا لأنه بحركة لا مبالية بيديه قد صرف كتابًا حاولت لفت انتباهه إليه!

استطاع «ستيفان زفايج» في هذه الرواية أن يعلي من فكرة الحرية الفردية، وقيمة الاختيارات الشخصية وأثرها على الفرد والمجتمع، لذلك يعدها الكثيرون رواية جريئة لما تحتوي عليه من أفكار ربما كانت غريبة حتى على المجتمع الغربي أثناء نشر الرواية في ثلاثينيات القرن الماضي، إلا أن ذلك ما كان عليه «زفايج» في عدد من روايته، فقد عرف عنه جرأته واقتحامه لكثير من القضايا الاجتماعية الشائكة بشجاعة، حتى إنه وإن كان ذا أصول يهودية إلا أنه سرعان ما صرح بعداوته للمشروع الصهيوني الذي كان في بداياته، بل واعتبر رغبة «هرتزل» إقامة وطن قومي لليهود أنه «كلام فارغ لا قيمة له» .

حظيت رواية «فوضى الأحاسيس» بأكثر من ترجمة، كان أقدمها ترجمة «ميشيل واكيم» عن دار طلاس السورية عام 1988 وكانت بعنوان «فوضى المشاعر»، كما ترجمها «أنطون رزق الله» بعنوان «العواطف الحائرة» وصدرت عام 1993، مؤخرًا صدرت طبعة المركز الثقافي العربي بعنوان «التباس الأحاسيس» بترجمة «محمد بنعبود». وبغض النظر عن الاختلافات الكثيرة التي تظهر في كل ترجمة للرواية إلا أنه في الفروق بين العناوين يظهر جليًا اختلاف فهم كل مترجم للعنوان ومحاولته البحث عن اللفظ الأقرب للمعنى الذي يقصده الكاتب، وإن كان المعنى سيظل غامضًا حتى يكتشفه القارئ بنفسه في تفاصيل الرواية وسطورها.

ستيفان زفايج روائي وكاتب نمساوي، عُرف بدايةً بترجماته الأدبية شديدة الثراء، فكتب «بناة العالم» في جزأين تناول فيه سيرة وحياة تولستوي، وديستوفسكي، وبلزاك، ورومان رولان وغيرهم، كما كتب عن «ماري أنطوانيت»، وكتب عددًا من الروايات الهامة التي حازت على إعجاب القراء والنقاد ولعل أشهر أعماله رواية «لاعب الشطرنج» التي ترجمها الأديب المصري الكبير يحيى حقي أواخر 1972، وكتب عنه يقول إنه أحد الكتاب الغربيين الملهمين الذين لا يستطيع أي قارئ له أن يتخلص من أسر حكاياته وأنه كتب روايته الشهيرة «البوسطجي» متأثرًا بطريقته في السرد.

مع نهايات الحرب العالمية الثانية، تحديدًا في 1942 قرر «ستيفان زفايج» أن ينهي حياته بنفسه، بعد أن كان قد شاهد ويلات الحروب في أوروبا وعانى بنفسه من كثيرٍ منها، وشاهد بنفسه مظاهر انهيار الحضارة الأوربية التي كان يطمح أن يكون فيها نجاة البشرية. إلا أنه قرر أخيرًا أن ينتحر مصطحبًا معه زوجته في مشهد درامي قل أن يحدث في تاريخ الأدباء، بل يذكر المقربون أنه أعطى كلبه جرعة كبيرة من الأقراص المنومة كذلك كي لا يعاني من هذه الحياة بعد وفاته!