في روايتها «شمس بيضاء باردة» المرشّحة على القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) هذا العام، تقدّم الروائية الأردنية كفى الزعبي تصورًا فلسفيًا مغايرًا للعالم وعلاقة الفرد البسيطة به، من خلال الاستعانة بالأساطير الإغريقية القديمة («جلجامش» و«سيزيف» تحديدًا) وذلك في حكاية بطل الرواية «راعي» الذي يجد نفسه مضطرًا لمواجهة عالمٍ لا يرغب في الحياة به، ولكنه ما يلبث أن يتورط في علاقات ومشكلات مع أشخاصٍ من هذا العالم، يحيلون حياته إلى جحيم.

من غرفةٍ ضيقةٍ بلا نوافذ تبدأ حكاية «راعي»، وخلال 14 يومًا وليلة يتواصل سرده ليومياته الخاصة، التي يعبّر فيها، وعبر استخدام تقنية «تيار الوعي»، عن كل ما يدور حوله، وهي التقنية الأنسب في حالة بطل الرواية المشتت الذي تحيطه الهواجس والخيالات والكوابيس، ويجد نفسه وحيدًا وكأن العالم كله ضده، حيث لا عائلة يحتمي بها ولاحبيبة ولا أصدقاء.

والده يتنكّر له ويرفضه، وأمه مستسلمة لذلك الوالد القوي الباطش، علاقاته كلها مبتورة. يتورط في علاقة جنسية بفتاةٍ قاصر جاءت إليهم لتحتمي من الناس فإذا بها تقع فريسة لجشع والده من جهة ونزواته الجنسية من جهة أخرى.

كأن لي أنا أخرى عمياء ومتوحشة، كشفت عن نفسها فجأة، وها أنا أرتعد خوفًا منها، خوفًا عميقًا، يرافقه دوي انهيارات مريعة لطمأنينتي الداخلية وثقتي بنفسي، كأنني اكتشفت فجأة أن هذه الطمأنينة والثقة بالنفس كانتا دومًا بمثابة عمودين يسندان كياني، من دون أن أنتبه إليهما أو أفكّر فيهما، مثلما لم أفكر في صلابة عظامي وأنا أمشي، فجأة بتُّ أمشي بقوامٍ رخو يرنو إلى السقوط في كل لحظة. ها قد بت إنسانًا خائفًا. خاطبت نفسي: تمشي خائفًا، تنام خائفًا، تنتظر في الليل خائفًا من قدومها، ومن لا قدومها أيضًا. حين تدوي هذه الجملة في ذهني أنهض مذعورًا وأمشي بسرعةٍ هاربًا من طلقةٍ تلاحقني..

هكذا تدور الرواية كلها تقريبًا حول هذا البطل وصراعاته وأفكاره الشخصية، موقفه من أسرته ومن المجتمع، والمراوحة في ذلك بين الموقف الفلسفي الوجودي، والموقف العبثي السلبي فقط، رغم ذلك لا يبدو «راعي» غريبًا عن فكرة البطل المهزوم والمأزوم الذي يواجه المجتمع وأفكاره ومعتقداته بشكلٍ عام، والتي نجدها في عدد كبير من الروايات العربية بمعالجات وأبعاد مختلفة منذ «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ مثلاً، مرورًا بـ«تلك الرائحة» لصنع إبراهيم وغيرها.

لكنه عند كفى الزعبي يحمل بعدًا آخر، ربما جاء بشكلٍ مباشر من أسطورة «سيزيف» الذي يحمل الصخرة إلى الجبل، وكلما سقطت منه عاد وحملها وصعد بها مرة أخرى. هنا لدى «راعي» الكتب هي تلك الصخرة، وهو يسعى للتخلص منها، لكنه يعود بها للبيت مرة أخرى.

تبدو شخصيات الرواية الأخرى على قدرٍ كبيرٍ من الهامشية والسطحية، لا أبعاد نفسية أو اجتماعية حقيقية لهم، ولا مبررات لأفعالهم ولا أدوارهم التي يقومون بها في الرواية. وعلى الرغم من حضورهم، وتأثيرهم على بطل الرواية وتحولات حكايته، إلا أن السرد يوحي بأن الصراعات والأفكار كلها تنشأ داخليًا لدى البطل في الأساس، فحتى أصدقاء البطل لا يقومون بأي دورٍ عدا الرد على أسئلته المتعلقة بالجدوى من الحياة والهدف من الفسلفة والدين والفن على نحوٍ موجز. بل إن صديقه أحمد الذي يمثل نموذجًا صالحًا وناجحًا يموت منتحرًا لأنه لم يستطع أن يوفر حياة كريمة لأسرته، ليبقى وكأنما يطارده.

إذا كانت الفلسفة والفنون والقصائد تقوى على مخاتلتنا وإسقاطنا في براثن الوهم، فإن الأديان تؤكد ما أقول على نحوٍ صارخ لا يبقي مجالاً للشك. ذلك بأنها تخاطب أجسادنا فقط، تغريها بالخلود، تغري أجسادنا ذاتها وليست أرواحنا ولا عقولنا. فحينما نموت نصبح مضطرين إلى أن ننتظر زمنًا طويلاً حتى تدق الساعة فنبعث من جديد في أجسادنا، أما أرواحنا فتظل هائمة حتى تلك الساعة، فلا أهمية لها، لو كانت مهمة لارتقت إلى السماء فورًا ولاتخذت شكلاً ما، ليس بالضرورة أن يكون جسدًا لكن الأمر ليس كذلك … والغريب في الأمر أن العقل ذاته، الذي رسم صورة هذه الجنة، استثنى وهو يرسم هذه الصورة أي متعٍ تخصه أو تخص الروح، استثنى الفكر والفلسفة والفنون والجمال، استثنى كل متعةٍ تمامًا كأنه يعترف أنه كان مجرد خادم لهذا الجسد.

هكذا يحاور «راعي» أصدقاءه ويفرض عليهم وجهة نظره التي تبدو فلسفية في الحياة.

تلك الفلسفة التي تتجه به قسرًا إلى العدمية، بل وإلى حافة الجنون. والمفاجأة الأخرى التي يلقاها القارئ في نهاية الرواية، أن ذلك البطل حامل شعلة الثقافة الحريص على القراءة والكتب، الذي يسعى لمواجهة العالم ويتحدى سلطة أبيه وسيطرة مدير المدرسة التي يعمل بها، ينتهي به المطاف إلى الهذيان والجنون، بل ولا نعلم في الواقع من الذي نقل الرواية من بدايتها إذا كان الراوي الوحيد لها قد انتهى أمره على هذا النحو مجنونًا، يرصد في الليالي الأخيرة كيف أصبحت حياته عبارة عن هواجس وأحلام وخيالات، بل إنه يرصد كيف بدأ الناس يتعجبون من مظهره، ويبدو لنا أنه في طريقه إلى مصحةٍ عقلية.

كان من الممكن في اعتقادي أن تكون الرواية بالفعل ملحمة فردية لشخصٍ يحمل قيمًا وأفكارًا ومعتقدات خاصة به، استقاها من هذه الكتب التي يحملها ويهتم بها طوال الوقت، ويسعى جاهدًا لأن يبثها أو ينشرها بين تلاميذه وبين الناس، ولكن الرواية آثرت أن يجيء هذا البطل انهزاميًا مستسلمًا بلا دوافع واضحة أو مبررات غير رفض المجتمع، وهو الأمر الطبيعي مع شخصٍ يحمل أفكاره ومعتقداته، ولكنه بدلاً من أن يحارب أو يسعى للنجاة ولو بمفرده، انتهت به الحياة تلك النهاية الغريبة.

ربما قصدت كفى الزعبي أن تصور مأساة ذلك البطل في مواجهة المجتمع، ولكن جاء ذلك التصوير مبتورًا، لاسيما وأن «راعي» بدا وحده، يكرر جملاً وحالاتٍ بعينها بشكلٍ يدعو للملل والرثاء، لا يوجد تطور في بنية شخصيته أو شخصية الأبطال من حوله، الذين بدوا في النهاية كأشباحٍ يتردد معها صدى صوته ولا تكون قادرة على الإنجاز أو القيام بدورٍ حقيقي وفعال.

في النهاية تمثل «شمس بيضاء باردة» حلقةً من عدد من روايات كفى الزعبي التي تهتم فيها بتصوير الحياة من خلال أبطالٍ مهزومين على هذا النحو، وتنقل من خلالهم رؤية تبدو سوداوية للواقع العربي الذي يحيا فيه العديد من الأفراد مهمشين غير قادرين على التعرف على ذواتهم فضلاً عن مواجهة المجتمع والعالم، وهي الصورة التي شاعت في عددٍ من الكتابات والروايات العربية مؤخرًا لا سيما بعد ثورات الربيع العربي وما جنته الشعوب من ورائها. تجدر الإشارة إلى أن رواية «شمس بيضاء باردة» تمت مصادرتها من الرقابة في بلدة الكاتبة الأردن، دون إبداء أي أسباب لذلك.

كفى الزعبي روائية أردنية، صدر لها عدد من الروايات التي لاقت نجاحًا وتقديرًا نقديًا مثل رواية «س»، و«ليلى والثلج ولوميدلا» وغيرها. تعد رواية «شمس بيضاء باردة» أول رواية لها تصل إلى القائمة القصيرة في جائزة بوكر العريية، والتي من المنتظر أن تعلن عن الفائز بها آخر إبريل القادم في أبو ظبي.