رئيس الدولة أقال وزير الصحة لأن الوزير نصح المواطنين بالتزام إجراءات التباعد الاجتماعي والبقاء في منازلهم للوقاية من الإصابة بكورونا. خبر غريب، لكن الأشد غرابةً أن الإقالة كانت في 26 أبريل/ نيسان 2020، أي منذ أقل من شهر، مما يعني أن منظمة الصحة العالمية كانت قد صنّفت كورونا كجائحة عالمية، وأن العالم أجمع تخطى مرحلة إنكار وجود كورونا إلى مرحلة التعامل مع الكارثة. لكن يبدو أن الرئيس البرازيلي جابير بولسونارو لم يقتنع بالأمر لهذا أقال وزير الصحة لويز هنريك مانديتا، بل انتقد بولسونارو الوزير علنًا بسبب تصريحاته السابقة.

أضاف بولسونارو على اعتراضه تشبيهًا لكورونا بأنها ليست سوى «أنفلونزا صغيرة». ولأنها مجرد أنفلونزا فقد نصح الرئيس شعبه ببعض الأدوية البسيطة والوصفات التقليدية، ولم ير وجود داع لقيام وزارة الصحة باتباع بروتوكلات التعامل مع الوباء التي تتبعها دول العالم. ولأنها أنفلونزا صغيرة انتقد بولسونارو حكام الأقاليم البرازيلية الذين فرضوا حظرًا عامًا في أقاليمهم. رغم أن تلك الأحداث المتلاحقة جرت في يوم كان عدد الوفيّات جراء كورونا في البرازيل 1764 شخصًا، وعدد الإصابات المؤكدة هي 29165 حالة.

تهوين بولسونارو من وطأة الفيروس لم يساعد البرازيل، بل وضع البلاد في معاناة شديدة. دائرة بولسونارو القريبة لم تكن في منأى عن الوباء فقد تأكدت إصابة مستشاره للأمن القومي، ووزير التعدين والطاقة، ورئيس مجلس الشيوخ. تلك الإصابات كانت قبل شهر من حدث إقالة وزير الصحة، 19 مارس/ آذار 2020، لكن صعد بولسونارو ليؤكد لشعبه أن كورونا مجرد خيال. الرد الشعبي على ذلك التصريح كان أصوات النقر على الأواني والقدور المعدنية. البرازيليون الذين رأوا العالم ينهار تحت وطأة كورونا التزموا بيوتهم وكانوا مدركين لحقيقة أن رئيسهم يكذب، لذا ارتفعت طرقاتهم على الأواني ونادوا برحيل بولسونارو.

اقرأ أيضًا: جايير بولسونارو: الرجل الذي يوشك أن يدمر العالم

ربما يؤمن بولسونارو أنه منيع ضد الفيروس، فقد صرح بأنه خضع للفحص مرتين، لكن كانت النتائج في المرتين سلبية. الفحص أُجري له ولـ10 آخرين كانوا معه في رحلة لولاية فلوريدا الأمريكية لمقابلة نظيره الأمريكي، التحاليل العشرة جاءت إيجابية إلا هو. كما أنه يبث رسائل طمأنة لعامة الشعب بأن الفيروس لن يفعل بالبرازيل كما فعل في الولايات المتحدة، لأن الشعب البرازيلي يمتلك مناعةً قويةً لا يملكها الأمريكيون، على حد وصفه.

لخص بولسونارو أدلته في جملة «ألا ترون البرازيلي يغوص في مياه الصرف الصحي ثم يخرج منها دون أن يصيبه شيء!». وليكتمل المشهد أضاف قائلًا: «سيرى الناس قريبًا أنهم وقعوا ضحية الخداع فيما يتعلق بخطورة فيروس كورونا المستجد».

الاقتصاد أولًا، الشعب عاشرًا

مظاهرات داعمة لبولسونارو ضد قرارات الإغلاق

«الناس سيموتون، أنا آسف، لكن لا يمكن إيقاف مصنع للسيارات بسبب وقوع حوادث مرورية» هكذا لخص بولسونارو منهجه في التعامل مع الوباء. السبب الرئيسي في نجاح بولسونارو في انتخابات عام 2018 كان الوعد بحياة اقتصادية أفضل، لكن لم يف الرجل بوعده في العام الماضي، وأتى الوباء ليقضي على أي احتمالية لفعل ذلك. ريو دي جانيرو ذات الشواطئ التي اعتادت الزحام أضحت فارغة، الشركات والمدارس والأماكن العامة والشوارع السياحية كل ذلك أُغلق في العديد من الولايات البرازيلية، بأمر حكام الولايات ورغم اعتراض بولسونارو.

لهذا لن ييأس بولسونارو من تصوير الوباء على أنه مسألة سياسية بحتة هدفها تدميره فحسب، لن يلتفت لأعداد الحالات التي تزداد بشكل مرعب بسبب تراخيه في التعامل مع الجائحة. ما قاله الرجل قاله ابنه أيضًا، إذ نشر مقطعًا مصورًا له يقول فيه إن الشعب عليه مواصلة العمل للحفاظ على نمو الاقتصاد، ودشّن وسمًا بالبرتغالية ترجمته «البرازيل لا تستطيع التوقف»، وبدأ معارضو إجراءات العزل في التدوين دعمًا له.

كان من الواضح أن تلك رسالة بولسونارو وحكومته بصورة غير مباشرة، لكن الحكومة نفت أن تكون وراء هذا الوسم أو مقطع ابن الرئيس. لذا صدر حكم فيدرالي بمنع الحكومة من القيام بإجراءات مضادة لإجراءات العزل أو لمنع الناس من الالتزام بها، وبموجب الحكم اضطرت الحكومة لحذف كل تغريدات لجانها الإلكترونية التي ذُكر فيها الوسم. توقف دور الحكومة طويلًا عند مجرد عدم معارضة الإجراءات الوقائية بدلًا من أن تكون طرفًا فيها.

موقف الحكومة، وعلى رأسها الرئيس، جاء مخافة خسارة تأييد قاعدة الرئيس الشعبية المعارضة لإغلاق الشركات. قاعدة مختلفة تلك التي تدعم بولسونارو، خرجت إلى الشوارع أفواجًا لتندد بالشركات التي استجابت لإجراءات الإغلاق. وقال بعضهم إنه إذا لم يكن الوباء سينتهي خلال أسبوعين، فإن الإجراءات الوقائية لن تؤدي إلا لانهيار الاقتصاد. لكن تلك القاعدة التي نزل إليها بولسوناور ليتلقط معهم عدة صور ويخبرهم أنهم على صواب ويُعيد على مسامعهم تشبيه «الأنفلونزا الصغيرة» لا تُظهر حقيقة رد الفعل الشعبي على بولسونارو وعناده.

الرئيس يمارس الرياضة

تهوين الرئيس البرازيلي من حجم الكارثة

استطلاعات الرأي تقول إن 30% من الشعب يوافقون الرئيس، لكن 53% من الشعب يعتبرون تعامل بولسوناور مع الأزمة سيئًا للغاية، كما يلومونه هو لا الوباء على انهيار الاقتصاد البرازيلي. مواقع التواصل الاجتماعي هى الأخرى توافق أكثر من نصف الشعب البرازيلي في رأيهم حول بولسوناور. فقد حذف موقع «إنستجرام» منشورًا للرئيس البرازيلي بسبب احتوائه معلومات مُضللة حول حقيقة أعداد الوفيات في البرازيل، حيث ذكر أن أعداد الوفيات انخفض عنه في الفترة السابقة.

إدارة «إنستجرام» ردّت على الرئيس تعقيبًا على حذف المنشور قائلةً، إن الواقع يقول إن الوفيات زادت بنسبة 33%. موقعا «فيسبوك» و«تويتر» فعلا المثل مع الرئيس بولسونارو في الأسابيع الماضية. خلافًا لإغضابه إدارات مواقع التواصل، فقد أغضب رواد مواقع التواصل أيضًا. عبارة من كلمتين فقط، وإن يكن، قالها الرئيس تعقيبًا على أن وفيات ارتفعت يوم 2 مايو/ آيار 2020 لـ5000 ضحية. هذا الرقم لا يبالي به بولسونارو ولا بأضعافه، فخبراء الإحصاء في البرازيل يتوقعون أن الأرقام الحقيقة تتجاوز 15 لـ20 ضعف الأرقام الرسمية المُعلنة.

بولسونارو رد على أحد الصحفيين الذي سأله عن الأعداد المتزايدة قائلًا، وإن يكن. ثم أضاف متسائلًا عما يريد منه الصحفي أن يقوم به، وأردف ساخرًا أنه رغم احتواء اسمه الأوسط على ميساياس، تعني مسيح، فإنه، أي بولسونارو، لا يصنع المعجزات. عاصفة من الغضب تلت تلك التعليقات، حتى أن «ويلسون ويتزل» حاكم ولاية ريو دي جانيرو غردّ قائلًا: «قم بعملك، كن قائدًا».

جواو دوريا، حاكم ولاية ساو باولو، غرّد هو الآخر داعيًا الرئيس للخروج من فقاعته في العاصمة برازيليا، ليزور المستشفيات ويرى حقيقة الأوضاع.  إلا أن بولسونارو لم يبال بكل هذا وذهب ليتدرب على الرماية بعيدًا عن صخب الشعب، تاركًا وراءه حصيلة قدرها 177 ألف مصاب وقرابة الـ 14 ألف وفاة.

وحين عاد استمر في رأيه، وحتى تاريخ نشر هذا التقرير، يصر على انتقاد الإجراءات التي يتبعها حكام الولايات ويُعلن مرارًا أن العودة للعمل أولوية. ما لا يدركه بولسونارو أن وضع المصالح الاقتصادية للنخب السياسية لن يؤدي إلا لكارثة إنسانية بشعة، التي بدورها سوف تؤدي إلى كارثة اقتصادية أعتى وأسوأ من التي ستدخلها الدولة حال تغليب حياة مواطنها.

«ترامب الاستوائي»

لقاء بولسونارو مع الرئيس الأمريكي، في ظل أزمة كورونا

نهج بولسونارو في التعامل مع الأزمة يكاد يتطابق مع كبيره الذي علمه الحكم، دونالد ترامب. ليس ذلك استنتاجًا أو تخمينًا، بل تصريحًا مباشرًا يؤكده بولسونارو دائمًا، بأن قدوته في الحكم هو ترامب. لكن يمكن القول إن دور ترامب في حياة بولسونارو يتعدى مجرد دور القدوة إلى دور العقل المُحرك لبولسونارو. كما أن تردي الأوضاع في البرازيل لا يحمله بولسونارو وحده، بل الولايات المتحدة أيضًا.

دائمًا ما تتدخل الولايات المتحدة في البرازيل، سجلات أرشيف الأمن القومي التي رُفعت عنها السرية تؤكد ذلك. تروي السجلات اعترافًا من وكالة الاستخبارات المركزية بأنها من مولت الجيش البرازيلي بالوقود والسلاح ليحسم الأمر. الأمر المقصود هو «خواو جولارت»، إذ أطاح به انقلاب عسكري عام 1963 قام به رئيس أركان الجيش البرازيلي أومبرتو برانكو، خوفًا من أن تتحول البرازيل لـ«صين الستينيّات» على حد قول السفير الأمريكي لينكولن جوردن. لأن جولارات كان شيوعيًا صريحًا، على حد  وصف المخابرات الأمريكية.

ثم في في 17 أبريل/ نيسان عام 2016 ظهر الدور الأمريكي في عزل الرئيسة البرازيلية ديلما روسيف. إذ قرر مجلس الشيوخ البرازيلي عزل روسيف، ليُنهي بذلك حكم حزب العمال اليساري المُسيطر على الحكم منذ 13 عامًا، الحملة مُولّت من «الصندوق الوطني للديموقراطية» الأمريكي، ومن «الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية».

ما بين جولارات وروسيف كانت المحاولات الأمريكية قائمة أيضًا حتى أطاحت بحكم لولا دا سيلفا، ولم تتوقف إلا بسجنه بتهم فساد واهية. وآلت مقاليد الحكم بعد روسيف إلى ميشال تامر ثم  بولسونارو، وكلاهما يدين بالولاء للولايات المتحدة، وبالأخص بولسونارو. إذن فمعاناة البرازيل تصنعها سياسة بولسونارو، وتلعب الولايات المتحدة الدور الرئيسي فيها أيضًا.

اقرأ أيضًا: التجربة البرازيلية: ديمقراطية اغتالها انقلاب ناعم