في المقال السابق تحدثنا عن سيكولوجيا النفاق، وأجرينا تعريفًا لزنادقة العصر، ومعظمهم من المثقفين الذين يعانون من ازدواجية في المفاهيم والمواقف، وفي هذا القسم (الثاني) والأخير نستكمل حديثنا عن سلوك بعض المثقفين الذين يدفعهم الخوف من السلطة، أو الحرص على مصالحهم الضيقة، إلى ممارسة نفاق احترازي، وسوف نحاول تقديم بعض المقاربات لتقليص هذه الظاهرة، إن لم نكن نستطيع القضاء عليها.


زندقة احترازية

بعض المثقفين يزندق وينافق بهدف كسب المال أو المنصب أو الجاه، والبعض الآخر يلجأ لها بغية تشكيل رصيد تراكمي يستخدمه في أوقات الضيق المستقبلية.

إن الزندقة والمداهنة رذيلة يمارسها المثقفون من كافة الاتجاهات والتيارات الفكرية والانتماءات الحزبية والولاءات السياسية، إذ يقدم بعض المثقفين الإسلاميين على هذا الدجل كي يطمئن الحاكم أن ليست لديه أي أطماع سياسية ولا طموحات في المنافسة، وأنه راض عن أداء السياسي وليس رافضًا لنظام الحكم، فقط حتى لا يقوم السياسي باعتقاله، أو التعرض له، وكأن حريته صدقة يستجديها من السلطان.

بعض المثقفين الليبراليين حالهم أقبح وفعلهم مذموم، إذ إنهم ينتقدون الفكر الإسلامي وينادون بالحرية الفكرية وحرية العقل، وإقصاء الوصاية اللاهوتية، ويدعون إلى التنوير والحداثة والديمقراطية، وبناء دولة المؤسسات، وحقوق المواطنة.

لكنهم سياسيًا وفي مواجهة الحاكم يصبحون عبيدًا خاضعين، يفعلون ما يؤمرون، بل يقدمون على ما لم يطلب منهم، ويتنافسون في الزندقة والنفاق وإظهار الولاء للحاكم ونظامه السياسي، ولا يفوتون مناسبة إلا ويحضرون مع زيفهم ومكرهم وتملقهم؛ لأنهم عبيد لا يعلمون عن الليبرالية شيئًا غير اسمها.

الكارثة حين يشتبك المثقف الليبرالي مع المثقف الإسلامي، يدّعي كل منهم أن السلطة السياسية تدعمه فيما يفعله، وأن الحاكم راضٍ عنه، بل يصل الأمر أحيانًا أن يقوم أحدهما بالاستقواء بأجهزة السلطة على الآخر، وربما يدس له ويحاول توريطه عند الحاكم.

الطامة الأكبر نراها في أن كلا الطرفين -المثقف الإسلامي والليبرالي- يساهمان بالاعتراك الفكري والمجتمعي والاقتصادي والثقافي مع بقية أفراد المجتمع، وقد يشتد هذا العراك، لكن يظل الجميع حريصًا على إبقائه ضمن الحراك الفكري والثقافي. ولكن ما إن يصل النقاش بثورة أو أخرى إلى منطقة الحاكم والسلطان، تسقط كافة المبادئ والقيم والمواقف التي كنا نعترك لأجلها منذ قليل، ويبدأ الطرفان بالنفاق والزندقة وإظهار الولاء.

إن المثقف الذي يمارس فعل التمجيد والزندقة والنفاق، أيًا كان سواء ليبراليًا أم إسلاميًا، يمينيًا أم يساريًا، حداثيًا أم محافظًا، هو جزء من منظومة الاستبداد، ولن يتمكن هكذا مثقفين من القيام ببناء مشروع ثقافي وفكري وإصلاحي نهضوي للأمة العربية. إن أمثال هؤلاء يعتبرون حالة مَرَضية وظاهرة تحتاج إلى علاج؛ لأنهم يخلقون بيئة مجتمعية ملوثة متناقضة مشوهة.

في معظم مجتمعاتنا العربية التي تحول فيها المواطن إلى تهمة متحركة، فهو إما إرهابي أو مأجور من السفارات الأجنبية، معارض سياسي أو عميل لدولة معادية، وصار المواطن العربي المسكين -بما فيهم المثقفين أنفسهم- متهمين في وطنيتهم وانتمائهم وولائهم حتى يتمكنوا من إثبات خلاف ذلك. ومن أجل دفع تهمة عدم الولاء وجد الناس الحل الناجع والأقل ثمنًا هو الزندقة والنفاق والتدليس والكذب والإطراء.

في المؤسسات الحكومية، وفي المناسبات الوطنية -وما أكثرها- تتم تلاوة خطب الزعيم، وأشعار الوزير، ومقتبسات من كتاب القائد «كيف اكتشفنا زراعة الحمضيات» وعلى الجميع التصفيق، سواء فهموا أم لا.

لا يمكن لمدير مؤسسة تعليمية أن يقيم نشاطًا مدرسيًا دون المبالغة -حد الزندقة- في ذكر فضل الحاكم على الوطن، وعن ورعه وعلمه وزهده، حتى يخال لك أنه يتحدث عن شيخ الإسلام «مالك ابن أنس» أو الإمام «سفيان الثوري».


المثقف غير المزيف

هذا الوضع الراهن في العديد من الدول العربية يحتاج إلى نوع مختلف من مثقفي الزندقة، نحتاج إلى المثقف الأصيل والحقيقي والمنتج، مثقف مبصر وحر، يتحلى بالوعي والمسؤولية، ويمتلك أدوات تتناسب مع العصر، منفتح غير منغلق، صاحب فكر وموقف، مثقف شعبي غير منعزل.

في واقع عربي اختلطت فيه كثير من المفاهيم وتشابكت، وظهر علينا الآلاف من الكتّاب والخبراء والمحللين وحمَلة الشهادات الأكاديمية العالية على شاشات التلفزة، يخرجون لنا من الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية، يقدمون أنفسهم على أنهم مثقفون. لكنهم في الواقع معظمهم مجرد ثرثارين يتقاضون أجرًا من جهات تحرص على مطاردة المثقف الحقيقي.

فالمثقف الأصلي ليس بالضرورة أن يحمل شهادات عليا، على سبيل الذكر لا الحصر فإن «عباس محمود العقاد»، و«جبران خليل جبران» وسواهم، لم ينالوا أي شهادة جامعية.

الأمة تحتاج إلى المثقف صاحب العقل المنفتح الجدلي، ومن يمتلك صفة استخدام عقله بشكل حر، المثقف غير المتشدد والمتعصب لأي رأي ولا لأية فكرة، المثقف المحاور، المتفهم، الذي يقبل وجود الرأي الآخر، ليس لديه نظرة دونية لعامة الناس، لا يضيق صدره بالمخالفين، المثقف الذي لا يمدح ذاته ويتملق الحاكم.

المثقف الذي يتعامل مع العلم والحقائق وليس مع الخزعبلات والأوهام، يحلل الأفكار وينتقدها ولا ينتقد قائلها. المثقف الذي يكشف عورات المجتمع بهدف سترها وتصحيحها، مثقف لا ينافق ولا يهادن ولا يكون انتهازيًا ولا متسلقًا وصوليًا. المثقف الذي يحارب الفساد ولا يحابيه؛ مثقف لا يفرض رأيًا ولا فكرًا على أحد. لا يقدم نفسه على أنه أستاذ التاريخ والفلسفة وعلم التشريح، ولا أن يكون واعظًا فجًا، وألا يكون أنانيًا منغلقًا.


كيف السبيل؟

إن مواجهة النفاق ومكافحة الزندقة تقتضي بالضرورة تمزيق الأقنعة الفكرية والسياسية والاجتماعية والدينية التي يرتديها المتزندقون، وهذا يتطلب توفير أجواء من الحريات العامة، وحضّ البشر على الإفصاح بكل حرية عن أفكارهم وتحفيزهم على التعبير عن معتقداتهم وقناعاتهم، واحترام ما يقولون دون تدخل من أي طرف، ودون خشية من عقاب لاحق.

والقضاء على الزندقة والنفاق لا يتم إلا في بناء دولة المواطنة الحقيقية، دولة المؤسسات التي تضمن الحقوق الرئيسية للناس بشكل عادل دون تمييز، وبناء وتعليم ثقافة الاختلاف واحترامها لدى الشعوب العربية ومن ضمنهم المثقفون.

والنظر بجدية في المناهج والقوالب والأنماط التعليمية، بهدف ردم الفجوة الثقافية المجتمعية بين ما نفكر وما نقول ونفعل. ترى الأنظمة السياسية تعلم أبناءها الصدق وعدم الكذب، وامتلاك الشجاعة والوضوح والابتعاد عن النفاق، ثم يعلقون لهم المشانق، ويزجونهم في السجون إن فعلوا ما تعلموا.

هذا حال بعض المجتمعات العربية غير السوية، مجتمعات غريبة مريبة، يسيطر عليها الكذب والخداع والنفاق، وينتشر الذين يوظفون الدين والتاريخ ومقدرات البلاد لخدمة وحماية مصالحهم الشخصية.

نحتاج إلى مناخات ثقافية وسياسية يتنفس فيها الفكر حريته ويعبر عن نفسه دون خوف أو رهبة، لنرى مثقفًا حقيقيًا ناضجًا ونزيهًا وواعيًا وواثقًا من ذاته ومعتقداته، قادرًا على المساهمة بفعالية في إحداث تغيير جدي في هذا الواقع المشوه.

زنادقة العصر أخطر على الأمة العربية من زنادقة العصور السالفة على الخلافة الإسلامية، حيث الأقدمين لم يكن لهم أية سلطة في الدولة الإسلامية، وتأثيرهم على الناس كان لا يذكر. في حين أن الزنادقة الحاليين الذين يظهرون الوطنية والعروبة، ويجاهرون بقيم الحرية والعدالة والديمقراطية والتنوير، ويكتمون فكرًا رجعيًا وثقافة منغلقة، ونفسًا مريضة مثقلة بالأنانية والحسد، متجردة من الأخلاق، لا يتورعون عن فعل أي شيء في سبيل الحصول على مبتغاهم وتحقيق مصالحهم، ينتشرون كالفطر الفاسد السام في كثير من مفاصل الحياة، وتأثيرهم على المجتمع والبلاد والعباد غاية في الخطورة.


افعلوا شيئًا

كل مثقف في الأمتين العربية والإسلامية يقبل بوجود إسرائيل على أرض فلسطين، هو زنديق مهما كانت صفته وثقافته.

كل مثقف ليبرالي أو إسلامي كان يدعو إلى الليبرالية التحررية ووقف مع الطغاة والأنظمة الديكتاتورية هو زنديق بامتياز.

كل مثقف يتعامل بخطابه مع التحديات المصيرية للأمة العربية بانتهازية وانهزامية وأنانية، وتفضيل المصلحة الشخصية، وإيثار السلامة، واللجوء إلى المربع الآمن، ودعوى الحيادية، أو استخدام الجمل المائعة؛ هو زنديق.

كل مثقف يقوم بمداهنة الظلم والقهر والاستبداد والقتل والقمع وتكميم الأفواه، وتعليق المشانق للمخالفين بحجة الحفاظ على الأوطان، ومواجهة المؤامرات الخارجية؛ هو زنديق.

كل مثقف متقلّب متردد في الثوابت الوطنية والأخلاقية، وكل من يقوم بإيقاد نار حروب إعلامية وسياسية في غير الميادين التي تخدم أهداف الأمة العربية، المثقف الذي يحرض على خوض حروب بالوكالة، ويقوم بإقصاء شركاء له في النضال؛ هو زنديق.

كل مثقف يقوم بتحويل العمل المؤسسي الثقافي والمكانة الاجتماعية، والوظيفة العمومية إلى مشروع تجاري لجني الأرباح، وتسويق البضاعة الكاسدة، ويضع نفسه في مواجهة تنافسية غير متكافئة مع المبدعين الشباب؛ هو زنديق.

نحتاج أن نفعل شيئًا لنعيد الأشياء إلى فطرتها، لوقف سيل التزلف والتملق والنفاق والزندقة، والخروج من حالة الازدواجية «شيزوفرينيا» المواقف والخطابات، ومواجهة حالة الفصام الفكري والاجتماعي والسياسي الشائعة في المنطقة العربية.

لا تبنى الأوطان بالكذب والنفاق والخديعة وإظهار غير ما نكتم. الزندقة كفعل فكري ثقافي اجتماعي تدمر المجتمعات وتنحدر بها إلى قاع السقوط. ولا يمكن لمثقف منافق، أو عالم زنديق، أو مفكر مهادن، أن يساهموا في نهضة الأمة العربية ورسم ملامح مشروعها الإصلاحي، لأنهم هم أنفسهم مكون تالف يحتاج إلى إصلاح وترميم. المضحك المبكي في هذه المهزلة الفاجعة أن كشف الزنادقة المعاصرين ليس أمرًا شاقًا، إنما الصعوبة تكمن في إحصائهم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.