بعقل يكاد يغلي من الدهشة والحماس والغرور، انكفأ على أوراقه وحاسوبه ليراجع نتائج حساباته من جديد.. لقد نظر في هذه الحسابات مئات المرات، وأعادها كاملةً عشرات المرات منذ أن توصل إلى حل هذه المعضلة التي أرقته لسنوات؛ الآن فقط يمكنه أن يُحاكي السفر عبر الزمن، بنموذج رياضي صحيح ولا يتناقض مع نظريات وقواعد الكمومية والنسبية معًا! فكر أنه لابد أن يستحق «نوبل» على هذا الإنجاز الفذ، لكن وما نوبل! إنه أكبر بكثير من هذه الجائزة البالية ومن كل الذين حصلوا عليها من قبل.. هكذا ردد بزهو لنفسه، ثم بدأ يردد بصوت يعلو شيئًا فشيئًا، وترتسم على وجهه ابتسامة النصر: أنا أعظم من نوبل!

الآن يجب عليه أن يبدأ في تصميم البرنامج الذي سيحل المعادلات الحقلية التي صاغ بها نموذجه الرياضي، ومع قليل من التخمين وبعض الحسابات سيتمكن من وضع اشتراطات مبدئية تجعل هذا البرنامج يتنبأ بالمستقبل أو يؤكد الماضي… أجل… يجب أن يشرع في هذا فورًا..

أسابيع طويلة قضى لياليها بقدر زهيد من النوم وعمل في أيامها لساعات طويلة لا يقطعها إلا لقليل من الطعام والقهوة والتدخين… فقد كيلوجرامات كثيرة من جسده الهزيل، وبات أشبه ما يكون بلوحة كاريكاتورية لعالم مجنون لم يخطر في باله أبدًا أنه سينتهي به الحال ليشبهها.

أخيرًا انتهى من اختبار البرنامج الذي سيحل معادلاته ويقوم برحلات افتراضية للماضي والمستقبل… قرر أنه لابد أن يحصل على وجبة شهية وقسط لا بأس به من الراحة قبل أن يُطلق أول رحلة افتراضية لهذا البرنامج… وقد فعل هذا، ذهب إلى مطعمه المفضل الذي كان يرتاده دائمًا أثناء عكوفه على رسالة الدكتوراه، وطلب وجبته المفضلة: ستيك اللحم البقري المطهو جيدًا والبطاطس المشوية.. ونام على أريكته المفضلة في مختبره بالجامعة لست ساعات متواصلة، قبل أن يستيقظ بعقل منتبه وجسد يملؤه النشاط.

«حانت ساعة الحقيقة».. هكذا همس لنفسه وهو يشرع في وضع اشتراطات عمل البرنامج. لقد اختار نقطة لبداية الحل تبعد ثلاثمائة عام في الماضي، ووضع الكثير من الأحداث التاريخية الدقيقة التي جرت في مدينته لكي يقارن بها برنامج حل المعادلات حتى يتأكد من قدرته على التنبؤ بها، ثم اختار أن يستمر الحل حتى عشر سنوات في المستقبل، وبعد أن انتهى من وضع كل شيء فكر – على سبيل التسلية لا أكثر – أن يضع بعض الأحداث المتعلقة به هو شخصيًا ضمن الأحداث التي سيقارن بها البرنامج نتائجه.. وضع تاريخ حصوله على جائزة العلوم، وتاريخ تكريمه كأفضل باحث شاب، وبعض التواريخ الأخرى، ثم أطلق البرنامج للعمل.

أخذ يراقب في شغف الأرقام والمنحنيات التي تظهر على شاشة الحاسوب مؤذنة بنجاح برنامجه؛ كاد قلبه أن يتوقف من الفرحة، سيصبح أعظم عالم فيزياء في التاريخ الحديث، سيخلد اسمه بجوار اسم «آينشتين» و«شرودنجر» و«ماكس بورن».. بل ربما ستفوق شهرته شهرة هؤلاء العظام!

انتهى البرنامج من حل جميع المعادلات بعد ساعات طويلة قضاها في الزهو والفخر والأحلام المليئة بالمجد والخلود.. أخذ يراجع الأحداث التي تنبأ بها البرنامج بشغف ونهم شديدين: الحرب، أجل.. الإضرابات العمالية، بالضبط.. الحرب الثانية.. وأخذ يمر بسعادة متفجرة على كل الأحداث وبدأ يقفز للمستقبل.

العام القادم ستحدث ثورة؛ ممتاز.. الاقتصاد سينهار، لابد أن ينهار بسبب هؤلاء الاقتصاديين الحمقى.. وأخذ يقرأ بكل زهو الأرقام والحلول التي تتنبأ بالعشر السنوات القادمة.. ثم هوى على أريكته المفضلة بكل فخر صارخًا: الآن لا يوجد ما يسمى القدر المجهول، أنا أعرف القدر! أخذ يقلب أوراق الحل مرات ومرات زاهيًا بعمله ومعادلاته، وللغرابة الشديدة استوقفه شيء غامض.

إن الأحداث الخاصة به لم تظهر في تنبؤات البرنامج! لابد أن هناك ورقة لم تطبع.. وضع عويناته بجدية واعتدل أمام الحاسوب وأخذ يستعرض النتائج؛ إن كل النتائج قد طبعت، خالية من أي حدث يتعلق به.. كما لو كان ليس موجودًا! كما لو لم يوجد قط!

هذا البرنامج يهذي.. هكذا حدثته نفسه، أخذ يضع اشتراطات ابتدائية أكثر دقة، وأخذ يغذي الحاسوب بالمزيد والمزيد من المعلومات التي قد تحسن من دقة التنبؤات.. أخذ يجري المزيد من الحلول لمعادلاته، وفي كل مرة كان البرنامج يتنبأ بكل شيء بدقة مذهلة.

مضى عليه أسبوع وهو يعمل بشكل متواصل في مختبره، وبدأ يرى أن تنبؤات البرنامج المستقبلية بدأ بعضها في التحقق على مدى الأيام.. كل شيء يعمل بدقة إلا أن البرنامج كان يرفض بإصرار إخراج أي معلومة تدل على وجوده في الماضي أو الواقع.. إن نسيج الزمان-المكان الذي يعمل فيه نطاقه البرنامج على حل المعادلات الحقلية المعقدة يخلو تمامًا من وجوده!

أخذ يعتصر ذهنه في كل تفاصيل المعادلات والبرنامج، وأخذ يراجع كل شيء للمرة الألف.. ليس ثمة أي أخطاء! يبدو أنه ليس موجودًا بالفعل! ترددت هذه الفكرة في عقله حتى بدأت ترسم على وجهه ابتسامة مخبولة.. «يبدو أن الجنون قد بدأ يزحف إلى عقلي».. هكذا فكر ببقايا المنطق البشري الذي كاد أن يذوي تمامًا في عقله.

حسنًا، سأجري تجربة بسيطة، وقرر أن يتحدث إلى بعض زملائه مجريًا هذه التجربة التي استقر عقله عليها.. خرج مسرعًا إلى الردهة الرئيسية للمبنى الذي يعمل به، أخذ ينظر في وجوه المارين؛ وجدته!

هرع مسرعًا للحاق بأحد زملائه واستوقفه: «هل يمكن أن آخذ من وقتك دقيقة يا دكتور؟».. لم يكن يحب هذا الرجل المغرور لكنه سيفي بالغرض على أية حال: «لا بأس، ماذا تريد؟».. أجابه زميله دون أن يتوقف، سأله: «هل أنا موجود؟»؛ توقف زميله بشكل مفاجئ ونظر إليه بحدة قائلًا: «هل تمزح يا رجل؟ أجننت؟»، بادره بالسؤال مرة أخرى: «فقط أخبرني: هل أنا موجود؟».. بنظرات تمتلئ بالشك والتهكم والاستهزاء أجابه زميله قائلًا: «أجل، أنت موجود، هل يمكنني أن أذهب الآن؟».. لكن صاحبنا لم يكن موجودًا ليجيبه، فقد هرع عائدًا إلى مختبره ليغذي برنامجه بمعلومات وحوادث عن هذا الزميل، وأخذ الحاسوب يجري عملياته المعقدة وصاحبنا قد أوشك عقله على الانفجار.. وفور أن انتهى الحاسوب أخذ ينظر بلهفة يملؤها الخوف إلى صفحات النتائج.

لم يخرج البرنامج أي معلومات عن هذا الشخص أيضًا! في الأيام التالية قام بعشرات المحاولات لإيجاد كل من يعرفهم أو قابلهم في حياته؛ بلا جدوى.. إن المعادلات الحقلية التي تصف الماضي والمستقبل خالية تمامًا من أي دليل ذاتي أو موضوعي يمكنه أن يؤكد وجوده في هذا العالم!

اقرأ أيضًا:المجذوب – قصة قصيرة

ثلاثة أيام مرت عليه وهو جالس يحدق في أكوام الأوراق وشاشة الحاسوب دون أن يرمش له جفن أو يتحرك له طرف.. لقد صار حبيسًا داخل معادلاته التي قضى من عمره أعوامًا يعمل على صياغتها بهذه الدقة.. لم يبق له في هذه اللحظة سوى اختيار واحد، إما أن يمحو كل هذه المعادلات والبرنامج ويعتبره كأنه لم يوجد، وإما أن ينهي حياته برصاصة من ذلك المسدس الذي اشتراه منذ أعوام ولم يستخدمه قط.. أخرج المسدس من خزانته ووضعه أمامه وأخذ يفكر.