بعد غياب قصير على غير المعتاد منه، مؤخرًا، خرج أيمن الظواهري، خلال الشهر الماضي، في 3 إصدارات مرئية متتالية ضمن سلسلة «صفقة القرن أم حملات القرون»، التي استهلها في سبتمبر/أيلول 2020، متحدثًا عن ملامح الإطار العام الجديد لمنهج وإستراتيجيات القاعدة، بعد تلميحه، سابقًا، إلى ضرورة إجراء مراجعات لأسلوب العمل والحركة الذي يتبعه التنظيم وأفرعه الخارجية.

وتضمنت الأجزاء الثلاثة الجديدة من السلسلة المرئية التي بثتها مؤسسة السحاب، ذراع القاعدة الإعلامية، لأمير التنظيم، حديثًا عن رؤيته لمراحل الصراع الممتد مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها- بعد الانتكاسات التي منيت بها الحركة الجهادية المعولمة، على مدار العقد الماضي- والتي قسمها الظواهري إلى مرحلتين رئيسيتين هما: (جهاد البيان والدعوة والتوعية، وجهاد القتال والنكاية والإثخان)، على حد وصفه، لكنه ركز في مجمل حديثه على مهاجمة دول وأنظمة حكم دول عربية ومسلمة، وكذلك مهاجمة جماعات الإسلام السياسي الأخرى وتحديدًا جماعة الإخوان المسلمين، و«تنظيم الدولة الإسلامية» المعروف إعلاميًا بـ«داعش».

وخصص الظواهري الجزء الثاني من سلسلته لمهاجمة فضائية «الجزيرة» ودولة قطر، معتبرًا أن لها دورًا في محاربة تنظيم القاعدة بالتعاون مع الولايات المتحدة، كما تطرق في هجومه إلى دول أخرى من بينها السودان، وباكستان، وتركيا، وغيرها من الدول التي دعمت بعض مشاريع جماعات الإسلام السياسي، قائلًا إن جميعها عملت من أجل مصالحها الخاصة وباعت «الجهاديين» في نهاية المطاف، وهو ما حدث في السودان عندما أخرج نظام الرئيس (السابق) عمر البشير، أسامة بن لادن منه وعرض- بصورة سرية- تسليمه للأمريكان، وكذلك حدث في باكستان التي تعاون فيها نظام الرئيس برويز مشرف مع واشنطن للإطاحة بنظام حركة طالبان، عام 2001.

الظواهري: الرجل الذي فقد حلفاءه

وبدا أمير القاعدة وكأنما يُناقض نفسه، ففي الوقت الذي جعل الوصول إلى «الوحدة» مع التيارات الإسلامية الأخرى ضمن أحد الأهداف الرئيسية من سلسلته الدعائية «صفقة القرن أم حملات القرون»، خاض أيمن الظواهري صراعًا ضد كل حلفائه (السابقين)، مستدعيًا جميع الخلافات التي حدثت خلال السنوات الماضية، وبخاصة في العقد الذي تلى اندلاع ما عُرف بـ«ثورات الربيع العربي».

ومن ذكرياته مع رحيل تنظيم القاعدة من السودان، إبان حكم الرئيس السابق عمر البشير، إلى موقفه من مراجعات الجهاديين التي قامت بها الجماعة الإسلامية المصرية وتنظيم الجهاد المصري، في عامي 2002، و2007، على التوالي، وصولًا إلى فشل الثورات العربية التي كانت بلا قيادة- على حد تعبيره- استعاد أيمن الظواهري، لحظات عمره الضائعة، مركزًا على دعوة الإسلاميين للبحث عن قيادة وتحالفات جديدة، لخوض معركة واحدة ضد النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة.

ومع أن أمير القاعدة ساق كلماته للترويج للمشروع الجديد للقاعدة الذي يتراجع فيه العمل القتالي خطوة، ليقف خلف العمل الدعوي،  وفق ترتيب الظواهري في كلماته وكتاباته الأخيرة التي من بينها مؤلفه الأخير «الكتاب والسلطان.. اتفاق وافتراق»، إلا أن الدعايا المتواصلة لهذا المشروع والتي يتولاها الظواهري بنفسه، إلى جانب مؤسسات التنظيم الدعائية (كمؤسسة السحاب)، تؤكد فشل المشروع الأساسي للقاعدة القائم على التغير الراديكالي/الجذري عن طريق العمل المسلح، وذلك بعد أكثر من ثلاثة عقود على تأسيس «قاعدة الجهاد».

ويدلل على الطرح السابق، إقرار أيمن الظواهري بفشله في قيادة تنظيم القاعدة المركزي (قاعدة خراسان)، ودعوته للبحث عن قيادة تصلح لأن تكون طليعةً جهادية تمضي في خضم حالة التيه الإستراتيجي التي تمر بتيار الإسلام السياسي وفي القلب منه الحركة الجهادية المعولمة، وهو ما يعني أن الدعوى التي قام عليها التنظيم باعتباره مقدمة وطليعة لتحريض الشعوب الإسلامية على الجهاد ضد «العدو البعيد» (الولايات المتحدة) وقيادتها في هذا الجهاد، قد تبددت وباءت بالفشل، تحت مطارق الواقع والانتكاسات التي مني بها التنظيم.

وفاقم فقد وغياب الحلفاء من حالة التيه التي تعتري أيمن الظواهري وتنظيمه، فمع أن التنظيم المركزي ما زال يُعبر، من الناحية الشكلية والتنسيقية، عن شبكة أوسع من التنظيمات الجهادية المتحالفة معه والتي تُعرف بأفرع القاعدة الخارجية كـ«تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، وجماعة «نصرة الإسلام والمسلمين» في مالي، وحركة «شباب المجاهدين» في الصومال، وتنظيم «أنصار الشريعة» في اليمن (القاعدة في شبه الجزيرة العربية)، وتنظيم «حراس الدين» (فرع القاعدة السوري)، إلا أن حضوره الفعلي وسيطرته على تلك الأفرع يبقى محاطًا بالشكوك ولا يمكن اعتباره تحالفًا إستراتيجيًا قائمًا على تطابق المواقف والتزام الأفرع الخارجية بموقف التنظيم المركزي، باعتراف الظواهري نفسه الذي قال، في سلسلة (صفقة القرن أم حملات القرون) أنه ليس بين تنظيمه وأفرعه الخارجية إلا «العهد والميثاق».

وتشير الخبرة المكتسبة من التعامل مع تنظيم القاعدة وأفرعه الخارجية إلى أن هذه الأفرع تتمتع بقدر من الإدراك الذاتي الذي يجعلها تسعى نحو تحقيق أهدافها الخاصة، حتى لو تعارضت مع أهداف التنظيم المركزي، وبرز ذلك في أكثر من مناسبة منها مخالفة الفرع العراقي سابقًا (القاعدة في بلاد الرافدين الذي انفصل عنه وصار «داعش») لتوجيهات أيمن الظواهري بعدم استهداف عموم الشيعة، بحسب ما كشفه داعش في عام 2014 عبر منصاته الدعائية، وكذلك في حالة جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التي تفاوضت مع الحكومة المالية، دون الرجوع للتنظيم المركزي على ما يبدو.

وعلاوة على تخلخل التحالف المتشكل في داخل معسكر القاعدة ذاته، يواجه التنظيم أزمة في الجبهة الواسعة من الأعداء الذين جمعهم طوال مسيرته، فالتنظيم يواجه خصمًا وغريمًا من حلفائه السابقين، وهو تنظيم داعش، الذي ينافسه على قيادة الحركة الجهادية المعولمة، فضلًا عن قائمة طويلة من الدول الذي تعادى التنظيم بعد أن تقاربت معه، سابقًا، بصورة لحظية لخدمة مصالحها، بحسبما يقول أيمن الظواهري.

البحث عن بعث المشروع الغائم

على أن معضلة التنظيم الأكبر، لا تكمن في غياب الحليف والداعم الحقيقي بقدر ما تتجسد في اضطراب رؤية القاعدة وتصوراتها على مستوى إستراتيجيات وأولويات إدارة الصراع متعدد الجبهات الذي تنخرط فيه، والذي يؤثر على التنظيم وكل المرتبطين به.

فالمتتبع لتحولات القاعدة، منذ الثورات العربية، يُلاحظ أن التنظيم ما زال حائرًا بين الدعوة والقتال، كما يتضح من سلسلة الظواهري الأخيرة، وكذلك يبقى حائرًا في إستراتيجيات القتال نفسها، بين العدو البعيد (الولايات المتحدة)، والعدو القريب (الأنظمة والحكومات المحلية)، التي يُحرض أيمن الظواهري عليها، في الفترة السابقة، مناقضًا توجيهاته السابقة لأتباعه والمدونة في وثيقة «توجيهات عامة للعمل الجهادي»، صدرت في عام 2012، والتي تنص على تركيز القتال ضد أمريكا وعدم الانخراط في صراعات محلية أو ثانوية لعدم استنزاف قدرات التنظيم.

وعلى صعيد البحث عن حليف أو حاضنة للمشروع الجهادي القاعدي، يظل مشروع القاعدة غائمًا ومرتبكًا، إلى حد كبير، فتارة يُراهن على الحاضنة الشعبية (المجتمعات المحلية)، التي يعتبر كسب ولائها إحدى أهم خطوات العمل الجهادي، ويعيب على غريمه التقليدي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، تجاهله لتلك الحاضنة واستعداؤه لها في بعض الأحيان، وتارة أخرى يُراهن على الاستفادة النسبية من تناقضات القوى الدولية والبحث عن حليف من الدول التي تتقاطع مصالحها مع مصالح القاعدة- على حد قول أيمن الظواهري في الجزء الثاني من سلسلة صفقة القرن- مع استعدائه لكل الدول التي يمكن أن تتحالف مع القاعدة، واعترافه أن كل الدول تعمل لإدارك أهدافها الخاصة ولا تُمانع التضحية بالقاعدة للحفاظ على مصالحها.

تقويض القاعدة من الداخل

وفوق كل هذا الارتباك والتحول الذي يمر به تنظيم القاعدة، يبرز هناك تهديد آخر  لاستمرار التنظيم، وهو المتعلق بقدرة التنظيم المركزي (قاعدة خراسان) على التعامل مع حالة التحول القيادي التي تتم في إطار المنظمة الجهادية، لا سيما أن أمير التنظيم أيمن الظواهري، قد بلغ من الكبر عتيًا ولم يعد قادرًا- وفق العديد من الشواهد- على الاستمرار  في قيادة التنظيم، بجانب تعرضه لحملة تصفية واستهداف مركزة استهدفت قادته البارزين الذين لم يبق منهم سوى ثلة من الأمراء الذين نجوا من الاغتيالات الأمريكية، أبرزهم محمد صلاح الدين زيدان، الملقب بـ«سيف العدل»، والذي يُعد المرشح الأوفر حظًا لخلافة أيمن الظواهري.

وربما تؤدي عملية التحول القيادي في داخل القاعدة، إلى تفكك شبكته العالمية، في ظل غياب القادة الكاريزميين للتنظيم، ومقتل قادته التاريخيين الذين جمعتهم روابط العمل المشترك في الساحات الجهادية بأفغانستان والبوسنة وغيرهما، والذين شكلوا العماد الحقيقي الذي قامت عليه شبكة القاعدة العالمية، إذ تولوا مهمة إنشاء الأفرع الخارجية وتعاهدوا بالولاء للقيادة المركزية باعتباره رأس مشروع الجهاد العابر للحدود الوطنية، إضافة إلى أن تولي «سيف العدل» منصب «أمير القاعدة» يمكن أن يؤدي لتحفيز الأجيال الأصغر سنًا في التنظيم والموجودين خارج منطقة خراسان ضده، باعتبار أنه قضى الجزء الأكبر من عمره ومسيرته الجهادية قابعًا في مكان مجهول بإيران، التي أجادت هي الأخرى توظيف القاعدة وقيادته.

وتؤكد كل تلك المعطيات، بطرق شتى، أن مسيرة تنظيم القاعدة كانت عبارة عن سلسلة متصلة من التخبط والارتباك، وأن الانتصارات الجزئية التي أمكن للتنظيم إحرازها اعتمدت بالأساس على مجموعة من القادة الاستثنائيين الذين أحرزوا طفرات مرحلية في أداء القاعدة، وهو ما لم تستطع قيادة التنظيم العليا توظيفه لتحقيق انتصار إستراتيجي كبير.

ولعل أمير القاعدة الحالي، أدرك أن هؤلاء القادة الاستثنائيين كانوا السر الحقيقي لنجاح التنظيم في التكيف والبقاء، رغم الضربات القوية التي تعرض لها على مدار سنوات الحرب على الإرهاب، فعاد يبحث عنهم من جديد ليتولوا قيادة التنظيم في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها الجهادية العالمية  المهددة بالفشل، كما فشلت الثورات العربية بسبب القيادات الضعيفة، على حد وصف الظواهري في سلسلته الدعائية الأخيرة.