طوّرت مؤسسة جالوب لاستطلاعات الرأي منذ عشرينيات القرن الماضي الآلية المتبعة من قبلها لاختبار آراء الشعب الأمريكي قبل الانتخابات الأمريكية، وبدلًا من استخدام التأييد والمعارضة كاتجاهات ضيقة للناخب الأمريكي باتت تستخدم الاستحسان والميل، تقديرًا لمدى تعقد عملية الاختيار الشعبي بين زعماء سياسيين، ربما لا تعبر آراؤهم عن نواياهم الحقيقية، وربما تغازل حركاتهم البهلوانية دون برامجهم هوى الناخب الأمريكي.

منذ ما يقارب 100 عام تقريبًا سجلت المؤسسة نسب الاستحسان الشعبي لمرشحي الرئاسة الأمريكية قبل الانتخابات وبعدها، وخلصت إلى نتيجة مفادها أن الرئيس الذي يبدأ استطلاعات الرأي بنسبة استحسان تقارب 50% أو يظل متفوقًا لثلاثين يومًا متتالية قبل الانتخابات على مؤشر الاستحسان يضمن إعادة انتخابه لفترة رئاسية ثانية. والحقيقة أن أعلى نسبة استحسان وظيفي وصل إليها الرئيس ترامب خلال السنوات الثلاثة الماضية كانت 46% (وصل إليها مرة واحدة في أبريل/ نيسان الماضي)، بينما متوسط الاستحسان الشعبي له لا يتعدى الـ40%، جدير بالذكر أن أقل نسبة استحسان شعبي حصل عليها رئيس أُعيد انتخابه لفترتين رئاسيتين، كانت 44% للرئيس رونالد ريجان.

ترامب
الاستحسان الوظيفي للرئيس ترامب من مؤسسة جالوب

تبدو هذه الأرقام مطمئنة للشارع السياسي الأمريكي – المعارض في أكثره لرئاسة ترامب – ومريحة لمنافسي ترامب من الحزب الديمقراطي، لكن الواقع يقول أيضًا، إن ترامب هو الرئيس الاستثنائي للولايات المتحدة؛ أكثر الرؤساء الأمريكيين استجلابًا لعدم الارتياح، بنسبة تخطت 61%، وأحد خمسة رؤساء فازوا بالانتخابات الرئاسية دون أن يحصدوا أغلبية الأصوات (فازت هيلاري في التصويت الشعبي بـ52%، لكنها خسرت المجمعات الانتخابية).

في هذا التقرير نعرض لأهم مرشحي الحزب الديمقراطي (منافسي ترامب)، توجهاتهم السياسية وفرصهم في الفوز برئاسة الولايات النتحدة الأمريكية.


ثلاث رصاصات في قلب الحزب الديمقراطي

مُني الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية الماضية بخسارة مذلة، ليس على مستوى النتائج وإنما لطبيعة المنافس. دونالد ترامب اليميني الشعبوي، مرشح الحزب الجمهوري لانتخابات 2016، لعب على عدد من المحاور التي أغفلها قادة الحزب الديمقراطي.

على إثر هذه الهزيمة، قدم عدد من الباحثين التقدميين في أكتوبر/ تشرين الأول 2017 تشريحًا لأداء الحزب الديمقراطي تحت عنوان: «تشريح: الحزب الديمقراطي في أزمة»، خلصوا لعدد من النتائج، أولها، أن الحزب يواجه مشكلة في الفصل بين مصالح العامة ومصالح المؤسسات المالية الضخمة، يرنو الحزب من خلال سياساته الانفتاحية إلى إثراء مؤسسات وول ستريت، والشركات العابرة للقارات والبنوك الكبيرة، و كدليل على ذلك بينما كان الديمقراطيون يمضون قدمًا لإقرار اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا)، كان ترامب يقف في مصنع للسيارات تابع لشركة فورد خلال انتخابات ميتشيجان التمهيدية، يهدد الشركة بأنها إذا قامت بالفعل بالمضي قدمًا في خطتها لإغلاق ذلك المصنع ونقله إلى المكسيك، فإنه سوف يفرض جمارك بنسبة 35% على أي سيارة مصنوعة في المكسيك يتم شحنها مجددًا إلى الولايات المتحدة.

كان ذلك عذبًا، موسيقى عذبة لآذان الطبقة العاملة بميتشيجان، وعندما ألقى ترامب بتهديده لـ«آبل» بأنه سوف يجبرها على التوقف عن صنع هواتف الآيفون في الصين لتصنعها في الولايات المتحدة، فقدت القلوب الوعي وحقق ترامب انتصارًا ثمينًا. عدم الاهتمام الديمقراطي بمصالح الطبقة العاملة في ولايات كانت لأزمنة بعيدة زرقاء غير المعادلة لصالح الحزب الأحمر.

تعامل الديمقراطيون في انتخابات 2016 مع الملونين (السود والهسبان) وكأنهم كتلة تصويتية مضمونة، فلم يقدموا لهم خطابًا متماسكًا يناقش قضاياهم وبالتالي خسروا حشدهم الانتخابي. على الجانب الآخر حشد دونالد ترامب الرجل الأبيض الغاضب من تضاؤل فرصه السياسية والاجتماعية، والذي لتوه خرج من ثماني سنوات قاده خلالها رجل أسود، ترجع أصوله إلى الجنوب الأفريقي. تحدث ترامب عن خطر المهاجرين وعزا إليهم مشاكل البطالة وانتشار الجريمة، وبالفعل استطاع أن يحشد لهذه الشعارات الشعبوية على سذاجتها، فالناخب – في أي دولة مهم كانت – ليس بالضرورة أن يكون سياسيًا قادرًا على تفكيك المصطلحات ومناقشتها من منطلق نقدي.

حاول الديمقراطيون فيما بعد تلافي تلك الخطيئة، وفي أكثر من مناسبة في انتخابات الكونجرس حشد الديمقراطيون الناخب الملوّن. في ولاية ألاباما جرت انتخابات على مقعد مجلس الشيوخ الذي أخلاه جيف سيشنز، وزير العدل السابق لدى ترامب، واستطاع المرشح الديمقراطي دوغ جونز هزيمة منافسه الجمهوري روي موري. حصل جونز على 96% من أصوات السود الذين يشكلون 29% من إجمالي أصوات الولاية. بدا في هذه الأثناء أن الديمقراطيين تعلموا الدرس وقرروا تنظيم حشد السود، لكنهم مع ذلك لم يقدموا للسود الاحترام الكافي، حيث توزعت أموال الدعايا الخاصة بالحملة بشكل غير عادل؛ من أصل 9 ملايين دولار أنفقتها حملته مع اقتراب موعد التصويت، ذهبت 7 ملايين للإعلانات التليفزيونية التي تستهدف الناخب الأبيض. الاستنتاج الوحيد من هذا الأمر أن الحزب الديمقراطي لم يتعلم الدرس ولم يتخذ خطوات جذرية للاصطفاف مع الملونين والمهاجرين.

إحدى المشكلات التي تواجه الحزب الديمقراطي أيضًا، تغير الخريطة الانتخابية. منتصف العام الماضي قرر الحزب صرف النظر والاهتمام إلى قضايا الفساد، ضمن استراتيجية معلنة للحزب «أفضل صفقة لأجل ديمقراطيتنا»، ورغم أنها خطوة للأمام، فهي بدت ضعيفة للغاية. لم يصرف الحزب نظره إلى مشكلات المواطن الأمريكي اليومية؛ تعليم مجاني، ورعاية صحية للجميع، وبدلًا من ذلك ينفق وقتًا وجهدًا في قضايا المثلية الجنسية والمناخ.

في مقالة للباحث، محمد رمضان، عن نجمة الروك وأصغر عضو في الكونجرس ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز، يقول: «تميز هذا الجيل بنزعة يسارية واضحة، لم يعد لديهم تلك الشكوك الكبيرة حول الاشتراكية والشيوعية، لم يعد هؤلاء الشباب يهتمون كثيرًا بالخطاب الإعلامي السائد من مجمل الطيف السياسي الأمريكي حول شيطنة الاشتراكية. لم يكن هؤلاء الذين عملوا تحت منصة بيرني ساندرز وحملته الانتخابية وليدي لحظة ساندرز وحدها، لكنهم في المجمل ذلك الجيل الذي عاش الأزمة المالية العالمية في 2008. هؤلاء الشباب المثقلون بالديون الدراسية، والذين تخرجوا في جامعات كبيرة ليعملوا بأجر أكبر من الحد الأدنى بقليل».

اقرأ أيضًا: ألكساندريا كورتيز: أبناء بيرني ساندرز الحالمون بأمريكا جديدة

هذا الجيل الذي بدأ يتشكل على مفاهيم جديدة، لا يتفق مع المؤسسة الأمريكية حول تضاعف النفقات العسكرية التي بدورها تعزز الدور الإمبريالي لأمريكا في العالم، وبدلًا من ذلك يتوق لرؤية هذه الأموال تُصرف على التعليم والصحة. لا يقدم الحزب الديمقراطي اليوم خطابًا متماسكًا لهذه الكتلة التصويتية الآخذة في الزيادة، وبدلًا من أن يقف إلى جانب أحلام هذه الفئة ومطالبها يصوتون على الموازنات العسكرية الضخمة من داخل الكونجرس.


محاولة للإصلاح

يضم الحزب الديمقراطي – على خلاف نظيره الجمهوري – طيفًا واسعًا وغير متناسق من الأعضاء، وهو ما يجعل عملية إنتاج خطاب متناسق مهمة صعبة، وخلافًا لنظيره فهو يواجه مهمة أصعب في إدارة الخلاف المتنامي داخل أروقة الحزب. في انتخابات 2016 لعب المندوبون الكبار في الحزب دورًا في ترجيح كفة هيلاري كلينتون على منافسها بيرني ساندرز. الأمر ذاته تكرر في انتخابات التجديد النصفي منتصف العام الماضي، وبدلًا من أن يقوم المندوبون بأدوار نزيهة داخل الحزب قاموا بدعم مرشحين يُتوقع أن يجلب ترشحيهم الكثير من أموال التبرعات، كان ذلك بالطبع على حساب مرشحين تقدميين، وناقمين على سياسات الحزب.

هذا الصيف أعلنت اللجنة الوطنية داخل الحزب عن بعض الإصلاحات التي من شأنها أن تسهل عملية التصويت لأعضاء الحزب، وكان من ضمن الإصلاحات التي أُقرت إلغاء المندوبين الكبار (super-delegates)، ليكون التصويت معبرًا عن إرادة قواعد الحزب الشعبية؛ وكبحث ميداني لهذا الاستنتاج، توصلت دراسة إلى أن نسبة السود من المندوبين الكبار فقط تصل إلى 20% بينما تصل نسبية الملونين إلى 36%، بينما أثبتت حملة هيلاري أن نسبة مندوبي المؤتمرات إبان التحضير لانتخابات 2016 من السود بلغ 25%، ومن الملونين 50%.


منافسة بلا نجم

بينما حسم الحزب الجمهوري اختيار مرشحه لانتخابات 2020، يقدم الحزب الديمقراطي عددًا غير مسبوق من المرشحين.زحمة المتنافسين في صفوف الديمقراطيين ضربت الرقم القياسي، 25 مرشحًا – بقي خمسةٌ منهم خارج السباق لعدم توافر شروط المشاركة. أبرز المرشحين الحاليين للفوز بتأييد الحزب الديمقراطي، جو بايدن، نائب الرئيس السابق باراك أوباما، وبيرني ساندرز منافس هيلاري كلينتون الخاسر، والسيناتور إليزابيث وران.

قد ينحصر السباق بين الأسماء الثلاثة من بين المتنافسين وإن كان ثمة مترشحون أثبتوا جدية في المنافسة. حتى الآن يتصدر جو بايدن استطلاعات الرأي، متقدمًا على كل من وارن وساندرز. اتهم جو بايدن (76 عامًا) بالعمل مع سياسيين يؤمنون بالفصل العِرقي. وجهت له منافسته السوداء، السيناتور عن كاليفورنيا كامالا هاريس، هذا الاتهام في أول مناظرة جمعت عشرة من المرشحين يونيو/ حزيران الماضي. وُضع بايدن في عدة مواقف محرجة خلال المناظرة، عندما سُئل عن عمره ورصيده السياسي وعن العنصرية، لكنه ورغم ذلك بقي متصدرًا لاستطلاعات الرأي.

تأتي إليزابيث ورارن ثاني أقرب المنافسين لترامب، ومع ذلك فهي لا تقدم خطابًا تقدميًا فيما يخص الاقتصاد، ولا تتوانى في التفاخر بأنها رأسمالية، حتى أن كاتبًا يساريًا سخر منها في مقالة نشرتها مجلة جاكوبين الأمريكية، بسؤاله، هل إليزابيث وارن خصمًا لترامب أم للرأسمالية التي أتت بترامب!

اقرأ أيضًا: إليزابيث وران: خصم لترامب أم للرأسمالية التي أتت بترامب؟

الوحيد الذي يقدم خطابًا جذريًا من بين المرشحين، هو اليساري بيرني ساندرز. قال ساندرز بوضوح – خلال المناظرة – إنه يطالب بإلغاء الديون الطلابية، وتوفير تعليم جامعي مجاني للأمريكيين. يُعتبر ساندرز عرابًا لجيل الألفية، الجيل الذي لم يجد من عظمة أمريكا إلا المؤسسات العابرة للقارات، بينما ذهبت المصانع إلى الصين وتبددت الطبقة العاملة الأمريكية، التي صارت تعيش على الإعانات ولا تستطيع بنهاية الشهر دفع الإيجار فضلًا عن قدرتها على تعليم أبنائها في الجامعات.

مزج هذا الجيل بين المفاهيم اليسارية، كانعدام المساواة وزيادة الحد الأدنى للأجور مع مكونات جديدة تبناها الديمقراطيون، الحرية الجنسية ومواجهة الاحتباس الحراري وغيرها. وهو الجيل الذي يراهن عليه ساندرز للوصول إلى المكتب البيضاوي، لكنه لا يزال يصطدم بالجزء الصلب من المؤسسة الأمريكية جراء خطابه اليساري، والمؤيد للقضية الفلسطينية وحقوق العمال والطبقات الفقيرة.

وبينما تتضاءل فرص ساندرز نسبيًا أمام وارن وبايدن، فإن ترامب، الذي يغازل كتلة صلبة من الأمريكيين ويعرف أيسر الطرق لكسب تأييدها في الانتخابات الرئاسية القادمة، سيظل رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية حتى 2024.