هناك مثل شعبي يقول «الزن ع الودان أمر م السحر»، حيث إن كثرة الحديث عن شيء ما والإلحاح عليه تجعله يتحقق بطريقة تتفوق على أن تسحر لتقوم بفعله، هذا هو بالضبط ما حدث للعالم مؤخرا مع الأغنية البورتريكية «Despacito» التي اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي، إما بتناقلها أو بالحديث عنها.

العالم كله يتحدث عن الأغنية التي لا يفهمها أحد تقريبا، الكل يتحدث ويخترع النكات ويتفنن في تناقل أو ابتداع ترجمات لكلماتها، الكل يغنيها أو يسجل له وأصدقائه نسخة خاصة من الأغنية كتنويعة عليها، حتى من لم يستمعوا للأغنية يرددون كلمة ديسباسيتو وهم لا يعرفون ماذا تعني أو حتى كيف تقال، العالم كله يتحدث الديسباسيتو، فلماذا؟


عن ديدان الأذن والنغمات وأشياء أخرى

هناك ظاهرة متداولة جدا ومعروفة لنا جميعا، عندما تلح على عقلك أغنية أو نغمة أو مقطع من أغنية ولا يمكنك التخلص منها، كأنها خلفية أفكارك، هذه الظاهرة تسمى Earworm أو «دودة الأذن»، دودة الأذن تلك بإمكانها أن تصيب تسعين بالمائة من الأشخاص كل أسبوع تقريبا، ودون أي مجهود تبذله الذاكرة في سبيل تذكرها أو ترديدها في عقلك.

ظاهرة دودة الأذن هي ظاهرة عقلية طبيعية يدرسها المشتغلون بهذا المجال لتطوير أبحاثهم في مدى قابلية التحكم في أمراض الذاكرة، ويذهب الباحثون أن ظاهرة دودة الأذن ليست ظاهرة جديدة على الإطلاق، ويستشهدون في ذلك بقصة كتبها «مارك تواين» في القرن التاسع عشر عن بلدة يتحكم أحد الأشرار بها عن طريق نغمة معينة يطلقها في الجو فتسيطر عليهم، ولكن ما علاقة ذلك بأغنية ديسباسيتو؟

يقول الباحثون إن ظاهرة دودة الأذن على الرغم من أنها ظاهرة طبيعية قديمة، فإنها زادت مؤخرا بسبب التطور التكنولوجي، فتكرار أغنية أو نغمة ما على وسائل الاتصال الحديثة في الراديو أو على التليفزيون، أو تداولها على السوشيال ميديا يجعلها أكثر قابلية أن تعلق في الدماغ، وبذلك تسيطر على العقل ويبدأ في تصديرها لخارجه، ويشاركها مع آخرين فتنتشر أكتر لتصيب غيره وهكذا. هذا بالضبط ما يحدث هنا، تعلق الأغنية مع مجموعة من البشر فيتداولونها فيسمعها آخرون فتعلق معهم وهكذا حتى نصحو جميعا يوما ما لنردد ديسباسيتو دون أن ندري لماذا.


ما الذي يجعلها تتردد في الأساس؟

حسنا، حتى لو كان ترديد أغنية معينة هو ظاهرة عقلية طبيعية، فإن هناك شيئا ما مميز في أغان معينة تجعلها تجذب انتباه عدد كبير من المستمعين وتعلق بأذهانهم وتجبرهم على تداولها لتصبح دودة أذن حقيقية في أذن الكثيرين، فما هي الأسباب التي تضع الأغنية في هذا الموضع؟

هناك عدة عوامل لاحظها المهتمون بمجال الموسيقى وقرروا أنها هي ما تجعل الأغنية تحقق نجاحا ساحقا، هذه العوامل يمكن تطبيقها تقريبا على كل الأغنيات التي حققت أرقاما خيالية في نسب الاستماع حول العالم، مثل أغنية ديسباسيتو مؤخرا، أو أغنية «هابي» التي غناها «فاريل ويليامز» أو «جانجام ستايل» من قبلهما، هذه العوامل هي:

أولا: يجب أن تكرر العنوان كثيرا

عندما تتكرر كلمة بعينها كثيرا مع النغمة فسوف تعلق بشكل تلقائي في عقل المستمع حتى لو لم يفهم ماذا تعني هذه الكلمة، لا شعوريا سوف يحتفظ بها عقله لا سيما عندما تكون تلك الكلمة هي عنوان الأغنية نفسه، هذا بالطبع ينطبق على ديسباسيتو.

ثانيا: يجب أن تخاطب الأغنية شخصا ما

سواء كانت الأغنية تتحدث عن الحب أو السعادة أو الانفصال، فإن الموسيقى طريقة عالمية للتواصل، فكلما كانت الكلمات موجهة لشخص بعينه كان نجاحها أكبر، هذا أيضا ينطبق على ديسباسيتو، حيث إنك عندما تبحث عن ترجمة كلمات الأغنية تجدها تتحدث عن شخص يخاطب حبيبته حتى إذا كان مستوى الخطاب هذا متدنيا أو غير لائق.

ثالثا: يجب أن يكون اللحن نغمة واحدة تتكرر بكثرة

هنا الأغنية تلعب على العقل غير الواعي، فالنغمة عندما تتكرر تترسب في العقل دون أن يدري، ولهذا تنتشر جدا الأغنيات ذات الألحان القصيرة ذات الجمل اللحنية المتكررة حتى إذا كانت صاخبة.

رابعا: يجب أن يتخيل المستمع نفسه قادرا على غنائها

في كل الأغنيات التي حققت انتشارا صاخبا يمكنك أن ترى نسخا لها يغنيها أفراد عاديون ربما لا يجيدون الغناء من الأساس، هذا لأن أداءها سهل ولحنها ليس معقدا وخفيفة، لهذا يرى الجميع أنفسهم قادرين على أدائها حتى لو بشكل هزلي.

خامسا: اللغة ليست مهمة على الإطلاق

على الإطلاق، وديسباسيتو أكبر مثال على ذلك، ليس من المهم أن تعرف ماذا تقول الكلمات، بالأحرى سوف تنتشر الأغنية وتختفي ولازالت كلماتها مبهمة على الأكثرية، فلا أحد يفهم معنى جانجام ستايل، ولا حتى مكارينا إلى يومنا هذا.


الإنترنت الخطير والرائع

سواء بحثت عن معنى كلمات أغنية ديسباسيتو وعرفت اللغة البذيئة التي تتحدث بها أو لم تعرف، فإنه لا يمكنك أن تنكر أن الأغنية حققت شهرة واسعة جدا، وكسرت حاجز المليار المشاهدة منذ إطلاقها في يناير/كانون الثاني 2017، لا يمكنك أيضا أن تنكر أن الإنترنت أحدث نقلة نوعية كبيرة في العالم بشكل عام، واليوتيوب الذي يستخدمه العالم كله للاستماع إلى ديسباسيتو، ومن قبلها إلى جانجام ستايل وغيرها من الأغاني التي حققت أرقاما قياسية هو أحد أهم المواقع التي يستقي منها العالم ثقافته ويتصل ببعضه ببعض ضغطات الأزرار.

بل تخطى الموضوع الشهرة الفنية ليحقق منافع أكثر أهمية من أغنية تأخذ وقتها وتموت ويموت معها التريند، فأغنية ديسباسيتو التي نحن بصدد الحديث عنها اليوم ساهمت في إنعاش الاقتصاد البورتريكي، حيث ارتفعت نسبة الزيارات السياحية لبورتريكو بعد تصوير الأغنية إلى 45% بعد التسويق العفوي الذي ساهم فيه تصوير الأغنية في مواقع سياحية وشواطئ بورتريكية جذبت السياح ليشاهدوها على الطبيعة.

هناك من سيرى أن الإنترنت خطير عندما يبحث عن ترجمة كلمات الأغنية، وهناك من سيراه رائع عندما يبحث أكثر ويعرف ماذا فعلت الأغنية، الأفضل من كلا الفريقين هو الفريق الثالث الذي سيقرر أن يستخدم هذا الإنترنت لصالحه، وهذا الفريق الثالث – في الأغلب – لا ننتمي نحن له.