في رمضان عام 1990، أطل على شاشة التلفاز للمرة اﻷولى مسلسل «مذكرات زوج» بطولة محمود ياسين وفردوس عبد الحميد، مقتبسًا عن كتاب يحمل الاسم نفسه لأحمد بهجت، وفي هذا العام، وكأن الزمن أتّم دورته، شاهدنا اقتباسًا حديثًا للمسلسل من بطولة طارق لطفي وعائشة بن أحمد.

في السنوات التي تفصل المسلسلين، وقعت تغيرات كبيرة وكثيرة على المجتمع المصري، وبالمثل تأثرت نماذج العلاقات بداخله، ومن هنا، رأيت في مشاهدة نسختي المسلسل ومقارنتهما جنبًا إلى جنب، فرصة جيدة لمناقشة سؤال: ماذا حدث للأزواج المصريين؟

أموال تنمو على الشجر

قرأت مقالًا منذ فترة على موقع النيويورك تايمز يحاجج أن أزمة منتصف العمر صارت أقرب ما يكون للرفاهية بالنسبة للأجيال الحالية التي تخطو أولى خطواتها في اﻷربعين، فمع موجات التضخم المتتالية التي يصاحبها ارتفاع أسعار كل شيء تقريبًا، من صار يملك ما يكفي من الوقت أو المال كي يخوض مغامرات مهنية أو عاطفية غير محسوبة العواقب؟

وفي مجتمع مثل المجتمع المصري، الذي يكتوي أكثر من غيره بنيران الغلاء، بالفعل تصير اﻷزمات العاطفية بمثابة مشاكل مرفهة إذا ما قورنت بالأزمات المادية التي يواجهها الجميع مع كل موجة تضخم جديدة.

أمام هذا الواقع، آثر كُتّاب الدراما في الآونة اﻷخيرة التحييد التام لمشاكل الطبقة والمال ليفسحوا مجالًا أكبر لطرح الأزمات العاطفية التي يواجهها الأبطال بمعزل عن أي اعتبارات مادية أو لوجيستية للحياة.

نرى هذا بوضوح في نسخة 2023 من «مذكرات زوج». فرؤوف عام 1990 دائم الانشغال بال«مرتب» و«مصاريف البيت والعيال»، وتشكل النفقات التي يتحملها كرب للأسرة جزءًا ليس بالبسيط من مشاداته مع زوجته وأبنائه. أما رؤوف عام 2023، وكل شخصيات هذه النسخة من مسلسل «مذكرات زوج»، تتعامل كما لو أن النقود تنمو على الشجر، ولا تشغل الكثير من تفكيرها أو تلعب أي دور يذكر في قراراتها.

فيترك رؤوف وظيفته التي لم يعد يطيقها دون أن يشغل باله كثيرًا بمصاريف أطفاله، ويترك أخوه بالمثل وظيفته في البنك ليشارك صديقه في مشروعه الناشئ مُتبعًا شعارات التنمية البشرية حول مطاردة الحلم، والجري وراء الشغف.

ومع تحييد دور المال في حياة الشخصيات، أتى تحييد مشابه للوظيفة، فتشغل مهنة رؤوف 1990 كمدير حكومي في إحدى الوزارات جزءًا كبيرًا من حياته ومن أحداث المسلسل، فتصير أروقة الوزارة مسرحًا لدراما حياة رؤوف المهنية واستكمالًا لحلقة الكبت التي يعيشها، ففي البيت زوجة متسلطة، وفي العمل مدير يحيك المكائد، كما تصب مشاكل كل من تلك الحيوات في الحياة اﻷخرى، فتنعكس مشاكل رؤوف في المنزل على أدائه الوظيفي، وتصير البذرة التي تنبت منها الكثير من المفارقات الكوميدية.

أما رؤوف 2023، فمهنته كمراقب طيران، لا تزيد في أحداث المسلسل عن كونها مجازًا لموقعه في الحياة، مجرد مراقب يجلس على اﻷرض، بينما يقلع الآخرون في سماء مغامرات لا يملك سوى أن يحسدهم عليها.

لكن من السهل أن نغض النظر عن تلك النقاط لو أن المسلسل أتى بطرحٍ جديد للعلاقات، فهي الشاغل اﻷساسي والنقطة المحورية للطرح، وهنا يجب أن نسأل، كيف ناقشت النسخة الحديثة من «مذكرات زوج» الحياة العاطفية لأبطاله؟

عالم جديد جريء؟

تغير العالم كثيرًا بين نسختي المسلسل، وانفتح على أنماط مختلفة ومغايرة من العلاقات، ألقت جانبًا معها اﻷدوار القديمة المفروضة للرجل والمرأة، وأشكال تواصلهم واجتماعهم.

التقطت النسخة الحديثة من المسلسل بخيط تلك التغييرات، ونسجت على منواله الحياة العاطفية لبعض شخصياته، فيتعرف أخو رؤوف على فتاة جريئة تأخذ بزمام المبادرة وتدفع بأخيه للأمام، وفي أول مقابلة لها مع والدته، تخبرها أنها لا تريد فرحًا أو شبكة أو مهرًا أو أي من تلك المراسم البالية للزواج.

كما يقدم المسلسل نمطًا مغايرًا للزواج عبر علاقة معالج رؤوف النفسي وزوجته، فقد قررا سويًا ألا يتضمن زواجهما العيش مع بعضهما البعض تجنبًا للمشاحنات، فيما يعرف في بعض المجتمعات بالـNon-Cohabitative Marriage.

نلمس رياح التغيير أيضًا في مدى استعداد البطل أن يستشير طبيبًا نفسيًا، ففي أحداث النسخة اﻷولى، تثور ثائرة رؤوف عندما تقترح عليه زوجته أن يذهب لمعالج كي يتخلص من كوابيسه المزعجة وينهرها قائلًا إنه لم يجن بعد، وعندما يستجيب بالفعل لنصيحتها، يذهب مكللًا بالعار إلى العيادة، أما في النسخة الحديثة، يختصر صديق رؤوف كل تغييرات المجتمع من تلك الناحية بعبارة: «وهو مين فينا دلوقتي مبقاش يروح لدكتور نفسي».

هكذا، نجح المسلسل في نقل موجة التحوّلات التي غيّرت أشكال العلاقات في المجتمع عبر خطوطه الفرعية, لكن، هل نجح بالقدر نفسه في تحديث شكل العلاقة التي تشغل مركز اﻷحداث: زواج رؤوف وشيرين؟

الحب هو…

وأنا بعد أتعلم القراءة، أتذكر أن من أكثر اﻷشياء التي كنت أتسلى بفك طلاسمها كان كاريكاتير جريدة أخبار اليوم، تعرفت من هنا على سلسلة «الحب هو» للثنائي أحمد رجب ومصطفى حسين، ولا يمكنني أن أقول أنني أحببتها يومًا حتى وأنا طفلة تتعلم القراءة.

في تلك السلسلة، يختصر رجب مفهوم «الحب» في جُمل بسيطة، ترافقها رسمة ساخرة لمصطفى حسين، تتبع كلها نمطًا واحدًا لزوج مقهور وزوجة متسلطة. عزف كتاب أحمد بهجت على نفس النغمة، وكذا نسخة المسلسل المقتبسة منه. لكن الكتاب والمسلسل كليهما ذهبا أكثر للنوع الكوميدي، والذي تخدمه المبالغات والمفارقات وإن كانت تنميطية.

وضعت نسخة 2023 الكوميديا جانبًا، وأخذت منحى أكثر درامية، ومع تخليها عن النوع الكوميدي، لم تتخلَّ معه على تنميط الشخصيتين الرئيسيتين: رؤوف وشيرين.

تركت شيرين 2023 وظيفتها كربة منزل، وصارت مديرة ﻹحدى الشركات، كما تخلى رؤوف عن كونه العائل الوحيد للأسرة، ومع تحديث أدوارهما الاجتماعية، لم يُحدث المسلسل لا في خطوط حبكته، ولا في رسمه للشخصية.

فتظهر شيرين كامرأة متسلطة على طول الخط، لا تكترث لشيء قدر اكتراثها لآراء الآخرين، ولا تجيد سوى إعطاء الأوامر، أما رؤوف فينبطح دائمًا أمام ما تريد، ولا يثور عليها سوى رمزيًا في اﻷحلام.

هكذا، يأتي رسم شخصية شيرين فاقدًا للعمق والدوافع، يسير خطها في القصة وفقًا للخط الحديث لتناول قصص الانفصال؛ من انهيار في البداية، لبحث عن الذات وتجاوز الألم، وحتى السمو فوق اﻷذى ومسامحة الزوج عمّا فعل، دون أن نرى أي لمحة من شيرين نفسها كإنسانة بمعزل عن كونها زوجة متجبرة أو طليقة مجروحة.

فالزوج هنا هو كاتب المذكرات وصاحب الرواية.

أسهم في تنميط القصة أيضًا الضعف الذي شاب الحوار والبناء الدرامي، فالشخصيات هنا تتحدث «عن» بعضها البعض كل واحد لمعالجه النفسي، ولا تواجه أو تتحدث «مع» بعضها البعض. كما جاء في استخدام المذكرات كأداة سرد خرقًا مباشرًا للقاعدة الدرامية اﻷولى: Show, don’t tell. فيقضي المسلسل مشاهد طويلة لا تدفع الدراما للأمام ولا نرى فيها شيئًا سوى رؤوف يفرغ مكنونات نفسه لتطبيق المعالج النفسي على الهاتف.

هكذا، يبدو المسلسل في نسخته الحديثة فاقدًا للبوصلة والنغمة، فبينما لم تأخذ النسخة القديمة منه نفسها على محمل الجد، وقدمت نفسها على طول الخط ككوميديا خفيفة تصلح للمشاهدة وقت تناول اﻹفطار في رمضان، حملت النسخة الجديدة نفسها ما لم تستطع أن تتحمله، وحاولت أن تناقش بشيء من الجدية علاقة الزواج في الزمن الحديث، لكن لم يضف طرحها على الطاولة أي جديد، ولم تخرج عن كونها قشرة خارجية حديثة تكسو أنماطًا درامية محفوظة حد الملل.