عندما اندلعت مظاهرات شبابية في العراق على مدار السنوات الماضية، خصوصًا في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، ذهبت تحليلات عدة إلى أن الأحزاب الملتزمة بمرجعيات دينية شيعية ستكون أكبر الخاسرين؛ باعتبار أن جيلًا سياسيًا اجتماعيًا ينشأ على مقاطعة التقاليد الدينية، رافضًا الخضوع الثقافي للأجيال الأكبر سنًا، المنغمسة في التقاليد القبلية والأعراف الدينية الراسخة.

كان يفترض أن يكون مقتدى الصدر أكبر الخاسرين؛ باعتبار أنه بنى شعبية تياره بالأخص في الأحياء الشيعية الأكثر فقرًا، والأكثر تضررًا بالتبعية من تردي الأوضاع السياسية والاقتصادية. لكن الرجل تجاوز كل ذلك، حين انحاز تكتيكيًا لمطالب التظاهرات، خصوصًا التصدي لنفوذ إيران في العراق، دون التفريط من التقاليد المرجعية، تمامًا كما فعل والده. وهو في ذلك كان يجهز لخطوة مستقبلية على ما يبدو لم يلتفت إليها أحد: تمهيد الأرض لتحقيق حلم فشل فيه والده: الانفراد بمرجعية النجف على حسب السيستاني.

مفهوم المرجعية

يعتقد الشيعة الإمامية أن الإمام الأخير محتجب بأمر إلهي منذ عام 939م، وحتى آخر الزمان، حين يعود لخلاص العالم. لكنه أوصى أتباعه بالتزام أوامر الفقهاء في أمور دينهم حتى يعود من غيبته. ولذلك يلعب الفقهاء الشيعة دورًا أساسيًا؛ إذ يعتبرون خلفاء الأئمة ونواب المهدي.

وينتظم رجال الدين الشيعة في سلك تراتبي وفقًا لتفاوت مستواهم العلمي في الفقه، يجلس على قمته مراجع التقليد، الحاصلين على درجة الاجتهاد في استنباط أحكام الشريعة، الذين ينحصر حق إصدار الفتوى عليهم.

لكن بلوغ مرتبة الاجتهاد وحده لا يضمن الحصول على أتباع؛ فمن بين أكثر من 50 مجتهدًا في العراق وإيران، يشيع الاعتراف بنحو 10 منهم لا أكثر. بينما ينحصر أعلى الهرم «المرجع الأعلى» على المحققين للأعلمية، وهي درجة بلا معايير مكتوبة ولا تسلسل هرمي، بل يحدد المجتهدون أحدم بوصفه أعلم من البقية.

وتتقاسم مدرستان بالتحديد تتقاسمان النفوذ الديني والتقليد منذ 40 عامًا تقريبًا: الحوزة العلمية في النجف، من تلاميذ مدرسة السيد الخوئي، التي ينتمي إليها محمد الصدر، وعبد الأعلى السبزواري، وعلي السيستاني حاليًا، والحوزة العلمية في قم، التي ينتمي إليها روح الله الخميني، وعلي خامنئي حاليًا. بينما تتبع نسبة ضئيلة من الشيعة مراجع آخرين في الصفين الأول والثاني.

انتزاع المرجعية

أهم قواعد نفوذ مقتدى الصدر في العراق تعود إلى ميراث والده، آية الله محمد صادق الصدر، الذي اغتيل في عهد صدام حسين في عام 1999.

يندرج الصدر الأب تحت مدرسة السيد الخوئي، وكان أحد أبرز المنافسين على صدارة المرجعية، تمامًا كما كان آية الله علي السيستاني.

قطع كبار رجال الدين الشيعة في النجف بأعلمية السيستاني. لكن الفصل بالأعلمية يتجاوز المستوى العلمي إلى القوة المالية والنفوذ الاجتماعي، لذلك كانت السياسة طريق الصدر الأب للمزاحمة على المرجعية العليا، بعدما نصب نفسه بنفسه، فيما وصفه بـ«التصدى لحمل عبء لمرجعية الدينية بعد وفاة السيد عبد الأعلى السبزواري». وبذلك، بات يحتاج لنفوذ يمنحه الاعتراف الشعبي والشرعية، بعيدًا عن رجال الدين.

مصدر الشرعية هنا كان متعددًا: النسب؛ الذي يفترض أنه يمتد إلى سابع أئمة الشيعة الإثنا عشرية موسى الكاظم، من نسل الحسين بن على، والدراسة، أولًا على يد والده محمد صادق الصدر، وآخرين بينهم محمد باقر الصدر، الذي أجازه للاجتهاد وأبي القاسم الخوئي، وحتى روح الله الخميني نفسه. لكن المصدر الأهم كان ما انتزعه بنفسه من تطوير خطابًا توفيقيًا وشعبويًا، دمج بين التعاليم الشيعية والتقاليد الشعبية، ودور سياسي انتزعه بقيادة الانتفاضة الشعبانية عام 1991، في مواجهة نظام صدام حسين، حين أفتى بالوجوب التعييني لصلاة الجمعة التي يعتقد الشيعة أن النظام حاول منعهم منها ولو بالقوة، رغم ما كان يحمله ذلك من مخاطر، تسببت باغتياله في النهاية.

باغتيال الصدر، ورحيل آخرين، تعزز انفراد السيستاني بالمرجعية النجفية العليا في أواخر التسعينيات. لكن اتجاه الصدريين استمر في التفرد، فكانوا بحاجة إلى من يرث المرجعية، بشرط ألا يكون من أبناء الصدر الأب، الذي أفتى في حياته بعدم اشتغال أبنائه من بعده لا بالسياسة ولا بأعمال المرجعية.

الخليفة الحائري

مرت عملية توريث المرجعية الصدرية دون إثارة أي أزمة، وإن بقيت فيها ثغرة فتحت الطريق أمام مقتدى الصدر لاحقًا لاستعادة ميراث والده تدريجيًا.

كان الصدر الأب قد أوصى لاختيار المرجعية من بين ثلاثة: كاظم الحائري، بشرط أن يعود من إيران، وإسحاق الفياض، ومحمد اليعقوبي، بشرط أن يصل لمرتبة الاجتهاد.

في تلك الفترة، كان مقتدى الصدر بعيدًا تمامًا عن المشهد التزامًا بالوصية، فلجأ أتباع الصدر إلى الفياض، حتى سقط نظام حزب البعث، فتصدى كثيرون لمحاولة قيادة المرجعية، أهمهم كاظم الحائري، الذي اختار عدم الرحيل عن إيران، فاحتفظ لنفسه بالتقليد «سلطة» إصدار الفتوى باعتباره حقق الأعلمية، وأن بعد المكان وعدم التسني له الرجوع للعراق ليس مانعًا لإصدار الفتوى، لكنه أوكل الولاية «تصرف الفقيه في المجتمع تصرف الحاكم في محكوميه» وكالة مطلقة إلى مقتدى، ما منحه سلطة التدخل بالسياسة وإطلاق العمل المسلح، واللذين يفترض أنهما من وظيفة المرجع، باعتبار أن «الضغط الشعبي العاطفي المتحمس كان قائمًا لحمل السلاح لحماية ابن مرجعهم الشهيد».

ورغم سحب الوكالة من مقتدى الصدر لاحقًا، استمر في لعب الدورين القياديين في السياسة والعمل المسلح، وإن بقي معترفًا بمرجعية كاظم الحائري، باعتبار أن القيادة تجوز لغير المجتهد في عدم وجود المؤهل للقيادة.

انتقال إلى مقتدى؟

خلال السنوات التالية، استغل مقتدى الصدر كل فرصة متاحة لإعادة رسم نفسه على صورة والده: الانشغال بالعمل السياسي والمجتمعي، وخلق دائرة النفوذ، خصوصًا خطوته في الانتقال من ولاء إيران، التي استضافته لسنوات، إلى معاداتها بشكل صريح، وترسيخ تياره السياسي في تحالف سائرون، أو ميليشياته المسلحة سرايا السلام، باعتبارها نقطة الصد «القومية العروبية» ضد النفوذ الإيراني في العراق، مع اشتعال مظاهرات الشبان الشيعة ضدها؛ باعتبار أن القائم بالولاية يحمل حق إصدار الأوامر والنوايا، التي تكون ملزمة للمقلدين وغير المقلدين، وحتى المجتهدين أنفسهم.

لم يتوقف الجدل حول استحقاق مقتدى الصدر لمنصب الولاية. وربما كان هذا تحديدًا السبب في التباعد الذي حرص على إظهاره في كل المواقف مع إيران؛ باعتبار أن وجود كاظم الحائري في إيران هو المبرر الأهم لنقل الولاية إلى مقتدى، بعدما اعترضت طهران على إعلان الحائري أن ولايته على العراقية مستقلة عن ولاية ولي إيران، وهو ما اضطر لسحبه تحت الضغط، بما قام معه المانع الذي اشترط محمد صادق الصدر عدم وجوده.

حتى ذلك الحين، لم يكن الصدر يملك ما يكفي لتحقيق عامل الاجتهاد. لذلك بقيت المرجعية مع الحائري، حتى إعلان اعتزاله في سابقة نادرة، معتبرًا أن مقتدى هو السبب في عدم استقرار العراق، ليرد الأخير بأن مرجعه «يتعرض لضغوط من إيران». والجملة الأخيرة تحديدًا تعيدنا إلى «قيام المانع».

فهل تنتقل المرجعية هي الأخرى إلى مقتدى الصدر بإعلان «تصديه لها» كما فعل والده؟

أولًا: جادل صدريون بأن إعلان الوصول إلى درجة الاجتهاد لا يحتاج بالأساس ليمنحها أحدهم، بل يكفي أن تعلن نفسك مجتهدًا، على أن يختار الأتباع إن كانوا سيقلدونك، كما يقولون إن مقتدى الصدر درس الأصول والفقه بتعمق بإشراف والده وغيره، كما قام بالتدريس وإدارة جامعة الصدر منذ 1998، وإن الصدر الصغير حقق من النجاحات في قيادة وتعزيز نفوذ التيار الصدري وقواعده الشعبية، بما يملك معه إعلان نفسه مجتهدًا إن أراد.

ثانيًا: مقتدى حصل على درجة العلامة المجتهد من جامعة الحضارة الإسلامية المفتوحة. وهي- وإن كانت شرفية- ستجد من يروج لهذا الفيديو- غير الرائج- إن ظهرت الحاجة إليها.

هل يطمع في كرسي السيستاني نفسه؟

في 2004، حرك مقتدى الصدر، جيش المهدي، للاستيلاء على مقر السيستاني في النجف، لكن الجيش الأمريكي أجبره على الانسحاب، في ما يمكن اعتباره مؤشرًا على سقف طموحه.

نظريًا، لا يملك الصدر- باستثناء الشهادة الفخرية التي أشرنا إليها- ما يؤهله للكرسي الأعلى. لا يزال في مرتبة حجة الإسلام، الرابعة على سلم يحتاج للارتقاء إلى مرتبته السادسة «آية الله العظمى» ليكون مؤهلًا لشغل كرسي المرجعية.

لكن أتباعه لا يستبعدون أن يحل مكان السيستاني، قياسًا على سابقة أقرتها مرجعية قم، حين ولت علي خامنئي منصب المرجعية العليا، بينما كان على نفس مرتبة حجة الإسلام. وربما يحاول الصدر أن يصبح نسخة خامنئي العراقية، خصوصًا مع تردي صحة السيستاني، وشح خيارات خلافته، وتقدم أعمار معظمهم، وابتعاد معظم المرشحين عن الشارع الشيعي الذي تغير كثيرًا عما كان الحال عليه حين انفرد السيستاني بقيادة مرجعيته، وما فرضه التغيير من اختلاف واجبات النظام العام في بلد بات الشيعة يتقاسمون قيادته بين شيعة موالين لقم، وآخرين يوالون النجف، بما سيعيد نفس المبرر الذي استند عليه الصدر في استعادة ميراث والده في «الولاية العامة»: أن المعضلة لم تعد في اختيار المرجع الأعلم، بل الأكفأ في إدارة الشأن العام، والأكثر قبولًا من الشارع لا من رجال الدين وحدهم.