روي عن مولانا الإمام علي، عليه السلام؛ أنه قال: اعرف الحق تعرِف أهله، فإنما يُعرف الرجال بالحق ولا يُعرف الحق بالرجال.أي أن تمييز الحق أسبق على تمييز الرجال ومُقدّمٌ عليه، بل ومؤهِّلٌ له لا يُمكن الإنصاف في تمييزهم دونه؛ فالحق قديم والرجال محدثون تتقلَّب قلوبهم.وقد تبدو النصيحة ميسورة التحقيق للوهلة الأولى، لكنها أكبر أبواب معاناة بني آدم ومعراج مكابداتهم الأهم، بل أخطر مداخِل تلبيس أبالسة الإنس والجن؛ خصوصًا حين يجتمع الكسل العقلي الجمعي مع تفشي الخمول الروحي ليصطنعا صورة تأويلية وضعية تاريخية تتواطأ جماعة بشرية معينة على اعتبارها الحق الذي لا يأتيه الباطل.وقد كانت هذه الانتكاسة الفطرية عينها سبب بعث الأنبياء على كر الدهور؛ إذ لم يُرسلهم الله ليخلقوا في أقوامهم الشعور الديني من عدم، وإنما أرسلهم ليُعيدوا توجيه هذا الشعور بعد ضلاله بطول الأمد والإخلاد إلى الأرض، وغلبة الباطل على الحق في وجدانات الخلق حتى توهَّموا الهُدى في دياجير الضلال.

وحتى بعد ختم النبوة والرسالة بمبعث الحبيب المحبوب، صلى الله عليه وسلم؛ فإن قدرة بني آدم على الانحراف عن الحق لم تنته بسبب ختم رسالة السماء، بل ظلَّت حاضرة بقوة حتى في صفوف أمة نبيه المصطفى؛ وإن علم الله من خلقه قُدرة على المكابدة والعودة بمعونته كرة أخرى إلى الحق الذي أرسل به رسوله الخاتم، خصوصًا على يد مُجدِّدٍ يخلُف النبي في تجديد الفهم والحركة بحُسن تمثُّل الكتاب وتحرّي احتذاء السنة.لقد كان ختم النبوة ختمًا للتوجيه المباشر من خلال بعث الأنبياء، وأوكلت هذه المهمة بعدها لقوة الكتاب المعصوم، ثم إلى همَّة خواص اﻵخذين به؛ في رفد تزكية جمهور الخلق لأنفسهم، وتيسير طريق عودتهم إلى الله؛ ما عرفوا الحق الذي أرسل به رسوله.

إن القداسة المنكودة التي تُسبَغ على التاريخ البراني تسلُخ العصمة عن سيرة النبي وسُنته تدريجيًا في روع الخلق. إذ تبدأ بتُحطيم مركزية المكابدات الجوانية لرجال التاريخ.

والخلط الشائع في الأولويات بين الحق والرجال، بل تقديم الرجال في أكثر الأحايين؛ له سبب رئيس بين المحدَثين، وهو هيمنة ذهنية ونمط تديُّن أصحاب الانشغال الحديثي النظري تخريجًا وتحقيقًا للسُنة، بغير حركة ولا تمثُّلٍ حقيقيين للسيرة؛ وفي طليعتهم جُلّ من يتسمّون بالسلفيين.وهو كذلك نواة إشكالية أخرى تضخَّمت كسبب ونتيجة لهذه الذهنية، وهي الخلط بين الوحي والتاريخ، بل التسوية بينهما. فإذ كانت هذه الذهنية تُقدِّم الرجال لا إراديًا وبصورة تلقائية بسبب طبيعة انشغالها «المهني»؛ فهي تطَّرِد مع نموذجها لتقديس التاريخ الذي تحرَّك فيه هؤلاء الرجال، حتى تصل لتسويته بالوحي بغير وعي. فتصير قوَّة ناقِل الحديث وحجيته من قوة الكلام النبوي المعصوم وحجيته، ويصير التاريخ البشري المثقَل للناقِل في عصمة سيرة النبي وسُننه. ويرسخ في وجدان المشتغلين، فالعوام؛ بصورةٍ لا إرادية أن صحة النقل تقتضي بالضرورة تمام التزام الناقِل بما نقل، بل تقتضي عصمته من مخالفة ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو لعمري خلل شنيع.

ثم يطرِدُ النموذج بعدها إلى إسباغ القداسة ضمنًا -وأحيانًا صراحة- على المجال التاريخي الذي تحرَّك فيه الرجال الذين وسموا بالعصمة. فلا يعود التاريخ -كله أو بعضه- مجالًا للمكابدة يجوز فيه السقوط كما يجوز فيه الترقي، وموضعًا لتنزُّل الرحمات الإلهية على العبد المكابد في كل حال؛ بل يصير طوبيا مُقدَّسة معصومة يسعى «المتديِّن» تلقائيًا لاستنساخ تفاصيلها المادية البرّانية، ليقود مسعاه إلى جحيم دنيوي. وشتان بين محاولة استنساخ تفاصيل صورة الحياة البرّانية لحياة أهل الصدر الأول وبين محاولة التأسي بمكابدات الصحب الجوانية والاقتداء بسيرهم في العروج إلى الله استقامة على أمره.

إن القداسة المنكودة التي تُسبَغ على التاريخ البراني تسلُخ العصمة عن سيرة النبي وسُنته تدريجيًا في روع الخلق. إذ تبدأ بتُحطيم مركزية المكابدات الجوانية لرجال التاريخ، وتتعامل معهم بوصفهم محض فاعلين في التاريخ البراني بغير وعي حقيقي بحجم المكابدات الجوانية التي شكَّلت هذا التاريخ وصنعت منهم خير القرون. حينها تتكشَّف مواطن الضعف البشري الفطري في الصحب والتابعين، ومن دونهم من البشر؛ ليسلُخ عنهم الوعي الجمعي عصمتهم الزائفة بعُنف بعد أن غابت عنه بشريتهم وسمو مكابداتهم لبشريتهم. ثم يشرع الذهن العام بعدها بالتعامُل مع النبي بنفس المنطق المشوَّه، وتبدأ عصمته وعصمة سيرته وقيمتها التوجيهية المركزية -كأسوة حسنة- بالتعرُّض لأوهام البشر وسذاجاتهم، وينبري «المتدينون» للدفاع عن النبي، وهم لا يُدركون أن سلوكهم الجمعي هو سبب الخلل وموطن الزلل. إذ تلتهم العصمة والقداسة الزائفتين العصمة والقداسة الحقيقيتين، وهو ما يقود إلى علمنة واسعة النطاق للرؤى والتصورات الدينية وتفريغ للدين من محتواه، بوصفه عبادة وتزكية تُعيد تشكيل الوجدان الفردي ليتشكَّل به النسيج الاجتماعي؛ وهو فساد عظيم باسم التديُّن.

وقد شكا حجة الإسلام الغزالي من تفشي ذهنية عبادة الرجال بين أهل عصره، مُعبرًا بدقة عن دركٍ ينحدر له أكثر الخلق بطول الأمد؛ وذلك في سيرته الروحية-المعرفية التي عنونها بالمنقذ من الضلال؛ إذ قال: «فمهما نسبت الكلام وأسندته إلى قائلٍ حسُن فيه اعتقادهم؛ قبلوه وإن كان باطلًا. وإن أسندته إلى من ساء فيه اعتقادهم؛ ردّوه وإن كان حقًا. فأبدًا يعرفون الحق بالرجال، ولا يعرفون الرجال بالحق؛ وهو غاية الضلال».

ولعل أخطر ما في هذه الآفة ليس وجودها نفسه، فهو أمرٌ طبيعي وفطري مثله مثل التحزُّب والتمذهُب له ما له وعليه ما عليه؛ بل أخطر ما فيها هو شيوعها بين جمهور الأمة وكتلتها الأكبر، والتي تُسمي نفسها بـ«أهل السُنة» على اختلاف مشاربها ومذاهبها، وإن كان المبثوث في روعها خلال نصف القرن الفائت روح مذهب واحدٍ ومزاجه وطريقته التي عُرِفت بالتسلُّف[1]هذه الذهنية السلفية تنطبق عليها مقولة الغزالي بشكلٍ شبه كامل. بل إنها قد تتجاوز آفاق مقولة الغزالي شططًا، في كثيرٍ من الأحيان؛ إلى تفضيل الكافر على المسلم المخالِف في المذهب.فإذا نسبت قولًا إلى أشعري أو شيعي أو صوفي؛ سفَّهوا القول وأنكروا على قائله ولو وافق أصولهم وفروعهم، بغض النظر عن موافقته لأصول الإسلام نفسه؛ لكنك إذا نسبته لكافِرٍ قَبِلوه وعدّوه ممن أنصفوا الإسلام، بل قد يُغالون لاعتباره مُسلمًا مُتخفيًا يأخُذ بالتقية التي يلعنون الشيعة بسببها ليل نهار، وهي لعمري ذروة علمنة التديُّن!

في هذه المباءة التاريخية يصير البحث عن الحق مأساة يُعاني صاحبها من المتدينين وأشباههم أكثر مما يُعاني من الملحدين واللادينيين.

والحق أني رغم تقديري للشيخ محمد بن عبد الوهاب أحمِلُ على ما يُسمى بالسلفية المعاصِرة دون غيرها، والتي أطلق عليها أحيانًا: الأثر السعودي-الوهابي؛ وذلك لأن أثرها المدمِّر على الأمة في نصف القرن الفائت لا يُقاس بغيره أبدًا طوال القرون الثلاثة الفائتة. فحتى تصوف القرن التاسع عشر الميلادي الذي تعامَل معه أكثر الإحيائيين أصحاب الهوى السلفي بعُنف، ولم يسلم من لاذع نقدهم؛ لم يبلُغ ضرره مِعشار الضرر السلفي في النصف الثاني من القرن العشرين. وذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار حقيقة كون جُل حركات الإحياء الإسلامي، التي واجهت الهجمة الكولونيالية الغربية بالقوة العسكرية خلال القرن التاسع عشر، وحتى سطوع نجم السيّد جمال الدين الأفغاني؛ هي حركات صوفية بالكُليّة [2] من الإمام شامل في القوقاز إلى الأمير عبد القادر في الجزائر، ومن المهدي السوداني إلى عثمان بن فودي في غرب أفريقيا، مرورًا بالحركة السنوسية في ليبيا وحركات أخرى مماثلة في شبه القارة الهندية. وصحيح أن بعض هذه الحركات قد أفادت من تعاليم الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتدين له ببعض الفضل في تصحيح تصوراتها، إلا أن التجسُّد الكامل والحصري للتعاليم الوهابية في الدولة السعودية قد أثمر نتائج كارثية على أنماط التديُّن في العالم الإسلامي أجمع منذ شرعت الدولة السعودية بتسويق نموذجها ومُنتجها النهائي.

وربما تكمُن المفارقة المثيرة للتأمُّل في طبيعة الحركة الوهابية (وتجلياتها الدولتية) في كونها الحركة الإحيائية المعاصِرة الوحيدة التي لم ترفع سلاحًا في وجه كافرٍ أصلي، بغض النظر عن الأسباب الموضوعية لذلك؛ وانشغلت بقتال «أهل البدع» من المسلمين في كل مكان، وما زالت شغوفة بذلك؛ سواء من خلال السياسات الدعوية السعودية الرسمية، ذات الطابع الطائفي الفج؛ أو بواسطة كثير من الإفرازات «الجهادية» التي تتكئ في معظم تأصيلاتها النظرية على المنتج الوهابي وتنويعاته. ورُبما كان هذا المكوِّن من أسباب غلوها في أبواب كثيرة، بل من أسباب جفافها الإنساني وفقرها الروحي، ونُدرة الذين اشتهرت عنهم العبادات من المنتمين لها؛ إضافة إلى كون ظهورها بالأصل مُجرَّد رد فعل احتجاجي على غلو بعض أهل التصوف والتشيُّع في شبه الجزيرة والهلال الخصيب. ونادرًا ما تُثمر ردود الأفعال، أو الهراء الذي يُسميه أرنولد توينبي بالاستجابة للتحدي؛ نادرًا ما تُثمِر حركة إسلامية ناضجة تحمل المجتمع وتتحرَّك به عروجًا إلى الله. إذ يكون أقصى همها وجُل عنايتها الجدل والتشاحُن وقتال من خالف رأيها؛ فإنما تستمد وجودها من مجرد المخالفة والاقتتال على هوية متوهَّمة لا من الالتزام بتزكية النفس والدعوة إلى الله بتلك النفس المبتلاة.

في هذه المباءة التاريخية يصير البحث عن الحق مأساة يُعاني صاحبها من المتدينين وأشباههم أكثر مما يُعاني من الملحدين واللادينيين. وليس ذلك فحسب لأن هؤلاء المتدينين الأجلاف يعتبرون أن الحق متساوي الحضور في روع كل أحد كأنه كمٌ بيولوجي لا يتغيَّر (بالمخالفة لعقيدتهم النظرية!)، بل لأنهم يؤمنون أن الحق يتجسَّد تاريخيًا بالكامل ولا يتبعَّض، وأن فِرَقهم هي التجسُّد الكامل للحق داخل التاريخ، وذلك كما تؤمن بعض النحل الوثنية بتجسُّد الإله داخل التاريخ!

فإذا حُصِر الحق في فرقة أو طائفة أو مجموعة مقولاتٍ تأويلية تاريخية؛ صار عبئًا على الفطرة التي لم تُفطَر على ذلك قطعًا، بل صار مُنفِّرًا لها حتى من مُجرَّد البحث، وداعية لعبادة الهوى من دون الله بدل الإذعان لصورةٍ تاريخية يُصَدُّ بها عن سبيل الله. حينها يصير «الشيخ»هو الحق وهو المعبود، ويُحتفى بما يُنسَب إليه ومن يتمسَّح به لأنهم «أهل الحق»، ويضيع الحق بين أقوامٍ يُفترض بهم تأمين الطريق إليه، لا المصادرة على ما قد يبلغه كل سالك على الطريق.


[1]للمزيد عن روح التسلُّف المعاصِر؛ راجع مقالنا على هذا الموقع: السلفية وعلمنة التديُّن. وعن كيفية تفشي وشيوع الوجدان السلفي راجع المقالة التي عنوانها: صعود وانحسار النفوذ السلفي.

[2]سنبسُط ذلك في مقال لنا قادم عن أنماط الإحياء الإسلامي المعاصرة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.