جاء لقاء «حمادي الجبالي» -رئيس الوزراء التونسي السابق عن حركة النهضة- مع القناة التاسعة التونسية صحبة الإعلامي «برهان بسيس»، للحديث لأول مرة بشكل واضح وتفصيلي بعض الشيء عن فترة صعبة عاشتها تونس بعد الثورة في ظل تجاذبات سياسية واغتيالات لمعارضين وأزمات اقتصادية نجحت البلاد بصعوبة في تجاوزها نسبيًا. تحدث الرجل بصفته شاهدًا رئيسيًا عن تجربة حكم النهضة ضمن تحالف الترويكا، وكشف بعضًا مما جرى في الكواليس وأوضح موقفه من عدد من التهم التي تلقاها من خصومه، كما تحدث عن رؤيته للواقع السياسي الذي تعيشه تونس اليوم ولماذا يتحفظ على التوافق الحالي بين النهضة ونداء تونس، وذهب الحديث كذلك إلى الشهيد محمد الزواري وما مثلته جريمة اغتياله، وأخيرًا أجاب الرجل عن سؤال ترشحه لانتخابات الرئاسة القادمة.


لم أغب: أي رسائل بعث بها الجبالي؟

بداية لم يعتبر الرجل أنه غاب عن الساحة السياسة ليعود، وإنما هي مرحلة كانت واجبة لإنجاز مراجعات والنظر فيما مضى، كما أنه لا يترك مناسبة مهمة إلا وأعلن رأيه وموقفه، بالإضافة إلى حضوره المنتظم لفعاليات نادي مدريد لرؤساء الدول والحكومات السابقين في محاولة لتمثيل تونس و تجربتها الديموقراطية الوليدة في محفل دولي مهم.

مرحلة تأسيسية وليست مرحلة حكم

سريعًا ما ذهب الحوار إلى الماضي وتحديدًا فور إعلان نتائج انتخابات المجلس التأسيسي، أكتوبر 2011، إذ أعلن الجبالي الذي كان أمينًا عامًا لحركة النهضة وقتها أنه كان يفضل تولي السيد مصطفى بن جعفر رئاسة الجمهورية كونه أكثر انفتاحًا على المجتمع ويمكنه كسب ثقة عموم المواطنين، إلا أن السيد المنصف المرزوقي احتج بكون حزبه حاصلاً على المرتبة الثانية في الانتخابات؛ لتنتهي المفاوضات بتحالف أعلى ثلاث كتل انتخابية -الترويكا- واتفاق توزيع السلطات بينهم على أن يتولى الحزب الثاني الرئاسة، فكان السيد المرزوقي رئيسًا للجمهورية والجبالي رئيسًا للوزراء وبن جعفر رئيسًا للمجلس التأسيسي.

جاء أيضًا أنه لم يكن هناك وعد للسيد الباجي قائد السبسي بإشراكه في منظومة الحكم الجديدة، بل كانت عناوين عامة عن محاولة تحقيق أوسع شراكة ممكنة.

أوضح الجبالي أن تلك المرحلة كان يجب أن تكون مرحلة تأسيسية وليست مرحلة حكم، لكن للأسف النخب السياسية سقطت في اختبار الاستقطاب الهوياتي الذي لم يكن في أولويات غالبية المواطنين، فهوية تونس في رأيه ليست موضع تنازع أو سؤال عسير بدليل التوافق عليها في الدستور 2014، وهي محسومة تاريخيًا وواقعيًا، واعتبر أن المسؤولية في ذلك مشتركة بين أحزاب الحكومة والمعارضة، رافضًا تحميل طرف واحد المسؤولية والتغاضي عن نقد الذات.

اغتيال شكري بلعيد

هذا الصراع أقلق الجبالي حيث أصبحت الحكومة التي جاءت لدور تأسيسي هي نفسها موضوع تجاذب بين الفرقاء السياسيين؛ الأمر الذي دعاه إلى طلب تعديل حكومي بهدف توسيع المشاركة وضم فئات وأحزاب معارضة إليها، واستمرت تلك المفاوضات عدة أشهر دون نتيجة فكان قراره الأول بالاستقالة محدد له يوم الأربعاء 6 فبراير 2013. إلا أن اغتيال السيد شكري بلعيد في ذلك اليوم تحديدًا دفعه إلى تأجيل القرار، إذ تزايدت حدة الاستقطاب بشكل مخيف مع توجيه أصابع الاتهام من قبل سياسيين وإعلاميين إلى النهضة والحكومة نفسها، وتوالت تقارير الأمن والولاة عن كون البلاد على حافة الهاوية، هنا تأكد الجبالي من حتمية تغيير المسار وأن عليه تحمل مسؤولية الظرف التاريخي وأن الوقت ليس في صالح تونس.

عبر الرجل خلال اجتماعات التحالف الحاكم عن رأيه بضرورة استقالة الحكومة وتشكيل حكومة كفاءات وطنية يتلخص دورها في استكمال المسار التأسيسي وإدارة الانتخابات، في خطوة لطمأنة المعارضة وتهدئة موجات التمرد المتصاعدة والتي تهدد التحول الديموقراطي في تلك المرحلة، وهو الأمر الذي لم يلق مشاركة من قيادات الترويكا وفي مقدمتهم حزب الجبالي نفسه، فتمسكت النهضة بأحقيتها في تولي الحكومة استنادًا إلى نتائج الانتخابات وكادت أن تنجر إلى الشارع عبر معركة الحشود والحشود المضادة.

إصرار الرجل على رؤيته وتقديم استقالته بالفعل في مارس/آذار 2014 دفع النهضة إلى اختيار السيد علي العريض لرئاسة الحكومة، إذ استطاعت الحفاظ على توليها الحكومة حتى يناير/كانون الثاني 2015 عندما تصاعدت حدة الاستقطابات مرة أخرى بشكل كبير فعادت الحركة إلى ما طرحه الجبالي أولاً بالتراجع خطوة للوراء تزامنًا مع انحسار موجة الربيع العربي.

كشف الجبالي أنه لم يعرض على الجيش تولي الحكم بعد اغتيال السيد شكري بلعيد وما تلاه من اضطرابات ولم يطلب الجيش في أي لحظة تولي السلطة، مشيرًا إلى رفضه مقترحًا من الشيخ عبد الفتاح مورو بإقالة وزير الداخلية السيد علي العريض وقتها معتبرًا أنه ليس من الصحيح إعطاء كبش فداء، كما أن الشعارات والتحركات الداعية إلى استغلال الحدث لا تستهدف العريض أو الجبالي وإنما تستهدف التجربة كلها، والأمر الهام أنه كرجل دولة لا يتصرف بطريقة تقلل من معنويات الأمن في وقت صعب بإزاحة قائدها.

أنصار الشريعة وراء اغتيال بلعيد

وحول تقديره الشخصي عمن يقف خلف اغتيال بلعيد قال الجبالي إنه يعتقد أن من نفذ عملية الاغتيال هي حركة أنصار الشريعة إلا أن من خطط ودبر هي أطراف أخرى لم يسمّها، ودافع عن اتهام حكومته بالتساهل تجاه الحركة وتأخر إعلانها جماعة إرهابية غير قانونية بأن حكومته كانت تتابع أنشطة الجماعة واجتماعاتهم لكن بعد ثورة رفعت شعارات الحرية والكرامة لم يكن يسمح بفرض المعالجات الأمنية وحدها طالما لم تتحول الجماعة إلى العمل المسلح بالإعداد أو التنفيذ.

مشيرا إلى أنه فور رصد الحكومة تحول أنصار الشريعة إلى إعداد مسلح تم إعلانها جماعة إرهابية وشرعت الحكومة في ملاحقتها، معتبرًا أن التطرف الذي تحمله جعلها أداة في يد أعداء تونس وتحولها الديموقراطي.

مناكفات مع المرزوقي

كشف السيد حمادي عن اختلافات بارزة بينه وبين الرئيس السابق المنصف المرزوقي خلال فترة حكم الترويكا، لعل أبرزها تمثل في قرار الرئيس قطع العلاقات مع النظام السوري دون علم رئيس الحكومة رغم اشتراط الدستور المؤقت ضرورة موافقة وليس مجرد علم رئيس الحكومة، وبيّن الجبالي أن قطع العلاقات لم يكن القرار الأمثل لإدانة نظام بشار الأسد في رأيه، كما وضح أن هذا الأمر لم يمر لكنه تحفظ على ذكر ما تم وقتها في الغرف المغلقة، واعتبر أنه هنا يميز بين دوره كمناضل مؤيد للثورة السورية -متهمًا النظام السوري بتعمد تحويل الثورة إلى حرب أهلية- وبين دوره كرجل دولة.

رفض الجبالي اعتبار تسليمه البغدادي المحمودي رئيس وزراء القذافي إلى ليبيا أثناء سفر المرزوقي للخارج -وهو الذي أعلن رفضه لهذا القرار من منطق حقوقي بسبب الشكوك حول ضمان محاكمة عادلة في ظل الوضع الليبي بعد الثورة -من قبيل رد الاعتبار على قرار المرزوقي قطع العلاقات مع سوريا دون علمه.

ودافع عن قراره تسليم البغدادي بأن الوضع الليبي وقتها لم يكن قد شهد الانقسام الحادث حاليًا وأنه قام بتسليمه إلى حكومة معترف بها دوليًا، وتم ذلك بقرار قضائي تونسي بعدما ورد إليه من القضاء الليبي ما يثبت تورط الرجل في قمع الشعب والتحريض على اغتصاب النساء بشكل ممنهج وسرقة أموال الليبيين، قائلاً إن البغدادي كان معه في تونس 7 مليارات دولار هي أموال الشعب الليبي، وأضاف أن حكومة الباجي السبسي كانت قد صدّقت على قرار التسليم قبل ذلك.

ونفى تلقي تونس أي أموال من ليبيا مقابل تسليم البغدادي، معتبرًا ذلك العمل تطبيقًا لاتفاقيات دولية حول تسليم المجرمين وأنه كان سيفعل الأمر نفسه مع أية حالة مشابهة.

الزواري شهيد قضية مقدسة

اعتبر الجبالي أن مهندس الطيران التونسي محمد الزواري هو شهيد قضية مقدسة وهي قضية تحرر وطني لا خلاف داخل تونس عليها، معتبرا أن ضمير الشعب التونسي معه وأنه نموذج لكثير من الشباب، فالقضية الفلسطينية هي أم القضايا وهي قضية مبدأ وقيم ودومًا حاضرة في وعي الشعب التونسي الذي رفع شعارات تحرير فلسطين جنبًا إلى جنب مع شعارات الحرية، قائلاً إن الاختراق الثقافي والفكري أخطر من الاختراق الأمني الذي حدث.

كما اعتبره في صيغة أخرى شهيد قضية مكافحة الإرهاب المنظم الذي تمارسه إسرائيل والذي هو أخطر وأبشع من إرهاب الجماعات والأفراد، ذاكرًا أنه قال لجون ماكين السيناتور الأمريكي: «كيف تتحدثون عن دعم الديموقراطية وأنتم تدعمون نظامًا إرهابيًا؟، هذا تناقض واضح».


هل تحول الجبالي من الحمائم إلى الصقور؟

الرجل الذي استقال من رئاسة الحكومة لغياب التوافق وأول من دعا إلى التراجع خطوة للخلف يتحفظ على نمط التوافق الحاصل حاليًا بين عدة مكونات أبرزها نداء تونس والنهضة، ويرى أن هذا التوافق لا يرضي طموحات الشعب لأنه حسب رأيه بلا برنامج عمل وبلا رؤية واضحة تسير إليها كافة المكونات، وتساءل: أين بناء المؤسسات الرقابية التي نادت بها الثورة؟، أين العدالة الاجتماعية وحقوق المحرومين والفقراء؟، أين خطط مواجهة الفساد؟.

واعتبر أن غياب برنامج العمل يمثل خيبة أمل للشعب في نخبته السياسية، قائلاً إن التوافق لا يعني منع النقد والمعارضة وأن المزايدات المتكررة تجاه من يختلف في الرأي مخيفة، محذرًا من الوقوع في دائرة الحزب الواحد والشخص الواحد، معتبرًا أن ذلك لا يعني أنه ضد التوافق والتشاركية في الحكم التي يطالب بها دومًا، وذاكرًا قوله للغنوشي: «رجاء، ابنوا التوافق الصحيح».


الترشح للرئاسة 2019

قبل انتخابات الرئاسة الماضية تحدث الجبالي عن تفكيره في الترشح قبل أن يعلن عدوله عن الأمر لاحقًا لأسباب تخص تلك المرحلة من عمر تونس وثورتها كما جاء في بيانه، وينظر البعض للرجل باعتباره أحد أبرز الوجوه المحتملة للتنافس على المنصب بعد عامين وهو الأمر الذي لم يحسمه الجبالي، إذ قال: بالطبع هناك إمكانية للترشح ولا أقول إني زاهد في الحكم لكن هناك أولويات لتونس حاليًا هي خدمة شعبي وإنقاذ بلادنا، إذا رأيت أني سأضيف إلى تونس في حل مشكلاتها حينها سأترشح.

كما وجه النصيحة للشيخ راشد الغنوشي أنه إذا ما ترشح للرئاسة أن يكون على مستوى المسؤولية لأن الشعب ينتظر من الرئيس الحالي والقادم الكثير، مبينًا أن مطالب الشعوب لا تزال كما هي: العدالة الاجتماعية والحرية والرفاهية، وأن تلك القضايا العادلة وإن تراجعت موجتها بسبب الظروف الإقليمية والدولية إلا أنها تظل موجودة، مؤكدًا أن الحل هو في الاستجابة لتلك المطالب وبذل الجهد لتحقيقها وليس أي خيار آخر.

خاتمًا اللقاء بدعوة إلى الوحدة: «تعالوا إلى كلمة سواء»، والنظر لمصالح البلاد وتقديمها على أية أمور أخرى.