مع إعلان الانقلاب في النيجر الشهر الماضي، احتشد المتظاهرون عند السفارة الفرنسية وأشعلوا فيها النيران وحطموا النوافذ، وظهر الحكام العسكريون على التلفزيون الحكومي وأعلنوا إنهاء تعاون الجيش مع باريس.

وبإطاحة الرئيس محمد بازوم، المحتجز منذ 26 يوليو/ تموز، خسر الغرب حليفًا رئيسيًا في منطقة مضطربة تتمدد فيها روسيا والصين بإصرار وقوة.

الدومينو الأفريقي

جاء انقلاب النيجر تكرارًا لما وقع في بوركينا فاسو ومالي المجاورتين، وكلها مستعمرات سابقة لفرنسا، فقد أثارت الانقلابات نيران الغضب الشعبي ضد باريس، القوة الاستعمارية التي لم تتخلَّ عن مستعمراتها السابقة رغم استقلالها الرسمي عنها.

فما يقرب من نصف البلدان في أفريقيا كانت في وقت ما مستعمرات لفرنسا التي حافظت فرنسا على علاقات وثيقة معقدة ضمنت لها استمرار الوجود العسكري والاقتصادي والتأثير المباشر على رؤساء هذه الدول.

وإدراكًا منه للاستياء المتزايد من دولته، تعهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عندما تم انتخابه في عام 2017 بإعادة ضبط العلاقة مع القارة، ودعم التنمية في بلدانها، وتقليص الوجود العسكري هناك، لكن لم يتغير شيء يذكر في سلوك باريس وفقًا لتلك الوعود.

وظل الفرنسيون يتلاعبون باقتصادات هذه الدول عن طريق العملة الاستعمارية، الفرنك الأفريقي CFA، التي جعلتها تملي السياسات النقدية، وتدمر فرص التنمية الاقتصادية، وتحتفظ بالكثير من احتياطيات النقد الأجنبي لهذه الدول، بما في ذلك النيجر وبوركينا فاسو ومالي.

وبدعم من روسيا بدأت هذه الدول تنتفض ضد التحكم الاستعماري، فتم طرد قوات فرنسا من مالي العام الماضي على يد حكامها العسكريين الجدد ، وانتقلت القوات إلى النيجر للبقاء تحت لافتة مكافحة الإرهاب، وفي يناير الماضي، أنهت بوركينا فاسو اتفاقها العسكري مع فرنسا فسحبت قواتها أيضًا من هناك، واليوم تبدو النيجر سائرة على ذات الطريق.

وقد هددت باريس وواشنطن بقطع العلاقات وعلقتا التعاون العسكري، وأوعزتا إلى دول جوار النيجر بالتهديد بشن حرب ضدها، فأصدرت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) التي تضم نيجيريا والسنغال وساحل العاج وغيرها من دول غرب القارة، إنذارًا للمجلس العسكري في النيجر لإعادة السلطة إلى الرئيس المعزول.

وحذر حكام النيجر الجدد من أن باريس تبحث عن سبل للتدخل عسكريًا في بلادهم، وكشفوا أن مسؤولين فرنسيين التقوا برئيس أركان الحرس الوطني «للحصول على التفويض السياسي والعسكري اللازم» لإعطاء غطاء «متعدد الأطراف» لخططهم للتدخل، ووضعت الإيكواس خطة لعمل عسكري إذا لم يتم إنهاء الانقلاب، وفرضت عقوبات على النيجر، وفرضت نيجيريا، الجارة الجنوبية للبلاد، حصارًا فعليًا عليها ومنعت إمدادها بالطاقة، بعد أن كانت تصدر لها ما يقرب من 70% من احتياجاتها من الكهرباء.

ويتمركز الآلاف من جنود القوات الغربية على الأراضي النيجرية، بما في ذلك 1100 أمريكي و1500 فرنسي منتشرين تحت غطاء الحرب ضد الإرهاب في منطقة الساحل، وهي منطقة شبه قاحلة تعاني من المتمردين المسلحين المرتبطين بالتنظيمات المتطرفة كالقاعدة وداعش.

وتواجه شركات فرنسا اتهامات بتلويث البيئة هناك مما أثار غضب السكان، كما أن عجز فرنسا الملحوظ عن وقف التمرد الجهادي في غرب أفريقيا زاد من حدة الغضب الشعبي.

ويقول محللون إن رحيل القوات الفرنسية من المرجح أن يجبر القوات الأمريكية على الرحيل، وفي هذه الحالة ستصبح تشاد الدولة الوحيدة في منطقة الساحل المعروفة باستضافة قاعدة عسكرية فرنسية.

فبخسارة هذه الدولة الإسلامية يفقد الغرب موطئًا استراتيجيًا وسط منطقة الساحل، وهي منطقة بها الكثير من الأنشطة العسكرية الأمريكية والفرنسية، حيث تتمركز الآلاف من القوات، وتستخدم واشنطن قواعد الطائرات بدون طيار في النيجر لمحاولة ممارسة الهيمنة العسكرية في شمال وغرب أفريقيا.

الحرب الباردة في غرب أفريقيا

لم يقف المعسكر الروسي مكتوف الأيدي، فحذرت بوركينا فاسو ومالي المجاورتان من أن التدخل ضد نيامي سيعتبر عملًا حربيًا ضدهما، وبالتالي يمكن أن يؤدي أي تدخل إلى نشوب صراع إقليمي بنكهة دولية في سياق حرب باردة بين موسكو والغرب.

ولا تقتصر أهمية هذه الدولة الحبيسة على موقعها الجغرافي المتوسط لدول غرب القارة، بل تضم كنوزًا اقتصادية اعتاد الغرب على نهبها باستمرار وسيمثل حرمانه منها خسارة له، فالنيجر منتج رئيسي للذهب، لكن سكانها يعيشون في فقر مدقع، كما توفر نحو 10 في المائة من إمدادات فرنسا من اليورانيوم المستخدم في مفاعلاتها النووية، فمصابيح ما تسمى بـ«عاصمة النور» تضاء بفضل يورانيوم النيجر الذي يُحرم أصحابه من الاستفادة منه أو بعائداته، فغالبية السكان لا يحصلون على الكهرباء، مع أن بلادهم تعد رابع أكبر منتج لليورانيوم في العالم والمورد الاستراتيجي لأوروبا وفرنسا، لكنها تظل إحدى أفقر البلدان على هذا الكوكب.

وبعد انقلاب النيجر، أعلنت فرنسا والاتحاد الأوروبي أنهم لن يتأثروا لأن لديهم من اليورانيوم في احتياطياتهم ما يكفيهم لبضع سنوات، لكن إذا استمر الوضع الحالي في نيامي والتزم العسكريون بقطع صادرات اليورانيوم، فقد تواجه أوروبا عواقب اقتصادية سلبية.

وتعد الطاقة النووية مهمة نسبيًا في أوروبا؛ ففي عام 2022 ، شكلت حوالي 10% من استهلاك الطاقة في دول الاتحاد الأوروبي، واقترح بعض مسؤولي الاتحاد زيادة إنتاجها لإنهاء الاعتماد في مجال الطاقة على الغاز الروسي في لحظة معقدة بالنسبة لأوروبا، لكن الآن أحد أكبر مزودي اليورانيوم اللازم لتوليد تلك الطاقة أصبح في عهدة معارضين لسياسات أوروبا الاستعمارية.

كما أن النيجر على وشك أن تصبح دولة نفطية رائدة بعد زيادة الإنتاج التي طال انتظارها، حيث من المقرر أن تصل شركة البترول الوطنية الصينية لإنتاج 110 آلاف برميل في اليوم هذا العام، فقد استثمرت الصين، ثاني أكبر مستثمر أجنبي في النيجر بعد فرنسا، خلال العقدين الماضيين، مليارات الدولارات في هذه الدولة الحبيسة، لا سيما للتنقيب عن النفط واليورانيوم.

وبدأت النيجر إنتاج النفط عام 2011 عندما بدأ إنتاج حقل أجادم Agadem، وهو مشروع مشترك بين نيامي وبكين، إذ أبرمت شركة بتروتشاينا اتفاقية لتقاسم الإنتاج في عام 2008 مع حكومة النيجر، وفي عام 2019 ، أبرمت الشركة اتفاقية أخرى لمد خط أنابيب بطول 2000 كيلومتر بين الحقل المذكور ومدينة كوتونو الساحلية في بنين.

ويعد الخط الأطول من نوعه في أفريقيا، ومن المقرر أن يخفف من التحديات الأمنية واللوجستية لتصدير النفط الخام من المنطقة المضطربة، وهو مصمم لحمل 90 ألف برميل يوميًا.

وكان المشروع قد اكتمل بنسبة 63% في فبراير/شباط هذا العام ، وفقًا لبيان بتروتشاينا، لذا اعتبارًا من العام الجاري سيرتفع إنتاج النفط إلى 110 آلاف برميل يوميًا، سيتم تصدير 90 ألف برميل منها، وبالتالي فإن النفط سيولد ربع الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، ومن المقرر أن تنتج 200 ألف برميل يوميًا في عام 2026.

ويعد خط الأنابيب هذا أحد عوامل تغيير اللعبة، فاحتياطيات البلاد تبلغ نحو ملياري برميل رسميًا، كما أن تغير الأوضاع في النيجر يهدد بزعزعة النفوذ الغربي في دول الساحل الغربي لأفريقيا، بما في ذلك منتجو النفط الناشئون غانا وساحل العاج.

بينما كان الغرب يأمل في أن تكون أراضي النيجر معبرًا للغاز النيجيري، إذ تتنافس المغرب والجزائر على مرور هذا الخط من أراضيها إلى البحر المتوسط عبر النيجر، ووقعت الجزائر في يوليو/ تموز الماضي مذكرة تفاهم مع أبوجا ونيامي لإنجاز خط الأنابيب البالغ طوله 4128 كيلومترًا بتكلفة تصل إلى 18 مليار يورو (19 مليار دولار)، ويمكن ضخ الغاز من الجزائر عبر خط أنابيب تحت البحر المتوسط إلى إيطاليا، أو تحميله على ناقلات الغاز الطبيعي المسال للتصدير.

بينما يسعى المغرب لتنفيذ مشروع خط أنابيب يبلغ طوله 6000 كيلومتر، ولا تعارض بين المشروعين بالنسبة لأوروبا حيث لن ترغب القارة العجوز في الاعتماد بشكل مفرط على طرف واحد لإمدادها بالطاقة.

تنظيم داعش الإرهابي في الساحل أي تعاون عسكري بين الدول الانقلابية الثلاث (مالي والنيجر وبوركينا فاسو) إلى ضرب من المستحيل، بعد سيطرته على حدودها.

الغزو المحتمل

مع انتهاء المهلة التي أعلنت عنها مجموعة «إيكواس»، للانقلابيين في النيجر، يوم الأحد، 6 أغسطس، أغلقت الدولة أجواءها وتم نشر الجيش تحسبًا لأي غزو محتمل، وحذر القادة الجدد من أي محاولة لغزو البلاد، وخرجت مظاهرات تأييد لهم في العاصمة نيامي.

وعارضت إيطاليا التدخل العسكري وطالبت الإيكواس بمد أجل المهلة لإعطاء الفرصة للدبلوماسية، بينما واجهت نيجيريا، قائدة المجموعة الأفريقية، معارضة داخلية صاخبة لأي تورط عسكري ضد الجارة الشمالية.

ورغم تضامن مالي وبوركينا فاسو مع انقلابيي النيجر فإن تنظيم داعش الإرهابي يسيطر عمليًا على الحدود التي تربط الدول الإسلامية الثلاث مما يصعب التعاون العسكري بينها، ودمر التنظيم الخميس في 3 أغسطس/آب، قافلة إمداد عسكرية أرسلتها مالي إلى النيجر مما يصعب التعاون في ما بين هذه الدول عبر الحدود في حال قرر الغرب التدخل عسكريًا بشكل مباشر أو عبر حلفائه الإقليميين.

وفي هذه الظروف من المرجح أن تتدخل مجموعة فاجنر الروسية شبه العسكرية للدفاع عن نيامي ضد أي غزو والتصدي لداعش والقاعدة، خاصة وأن المجموعة تنتشر لدى حلفاء موسكو في العديد من دول الجوار، وتحدثت تقارير غربية عن وصول المسلحين الروس بالفعل إلى النيجر بعد أن أصبحت المنطقة محل تنازع بين القوى الكبرى وحلفائها الإقليميين.