منذ أيام، شهدت العاصمة الكوبية هافانا اجتماعًا «تاريخيًا» غير مسبوق، حيث التقى البابا فرانسيس بابا الفاتيكان ورأس الكنيسة الكاثوليكية بالبطريرك كيريل بطريرك موسكو وسائر روسيا في لقاء هو الأول من نوعه منذ «ألف عام». وحسب موقع الفاتيكان الناطق بالإنجليزية، فإن اللقاء كان للتوقيع على إعلان تاريخي مشترك يضع نهاية لصفحات الماضي الأليم بين الكنيستين ويسنّ قواعد للعمل اللاهوتي منطلقًا من المتفق عليه لاهوتيًا بين الكاثوليك والأرثوذوكس. لكنه لوحظ أن نقاط الإعلان الثلاثين خصص ستٌ منها على الأقل للحديث عن المشرق وسكانه وأقلياته المسيحية. ثم ذيّلت هذه النقاط بجملة مثيرة يجب وضعها في الحسبان لدى أي تصور مستقبلي حيال الحرب في سوريا: «إننا ندعو كل المسيحيين وكل المؤمنين بالله للصلاة بإخلاص لخالق الكون القدير بأن يحفظ خلقه من الدمار وأن يرفع عنا بلاء حرب عالمية جديدة».


خطاب الحرب

قبل هذا الاجتماع بأيام ألقى الرئيس الأمريكي باراك أوباما خطاب حالة الاتحاد، وعندما جاء الحديث عن الشرق الأوسط قال أوباما إن المنطقة تمر بتحولات عميقة يجب أن تستوعب بأبعادها في إطار النظام الدولي الذي نشأ من رحم الحرب العالمية الثانية. ولدى حديثه عن داعش استدعى أوباما أقاويل تقول بأن الحرب العالمية الثالثة قد تقوم على أيدي هؤلاء الأوغاد ثم دعا لمواجهتهم.

في ذات السياق،صرح رئيس الوزراء الروسي ديمتري مدفيديف في لقاء له مع صحيفة هاندلز بلات الألمانية أن إرسال قوات برية إلى سوريا سيكون ناقوسًا لحرب عالمية شاملة. قبيل أيام، حذر الرئيس الفرنسي هولاند من مغبّة الحملة البرية التي تعدّها تركيا والسعودية في شمال سوريا واصفًا إياها بأنها دعوة حرب صريحة بين تركيا عضو الناتو وروسيا وحلفائها.

منذ الحرب الباردة لم نشهد هذا القدر من القلق من قيام حرب عالمية ثالثة، فإشارات باباوي الكنيستين الأرثوذوكسية والكاثوليكية وخطاب أوباما وتحذير الرئيس الفرنسي تصب في تعظيم هذا القلق

خلال الفترة الماضية، لم يلاحظ في الخطاب الدولي بعد الحرب الباردة وقبيل الحرب السورية هذه الدرجة المتزايدة من القلق باحتمالية حدوث حرب عالمية مفتوحة قد تكون أزمة الشرق الأوسط إحدى مثيراتها، اللهم إلا كتاب لجون كولي صدر في بداية التسعينات تحت عنوان «حرب أمريكا الطويلة في الشرق الأوسط». لكن هذا الخوف «المركّب» من حرب عالمية مفتوحة ليس أثير الأزمة السورية وحدها لكنه يستبطن تغير موازين القوى في العالم وضعف تصنيف القوة الأمريكية على أنها اللاعب المركزي والقوة القاهرة ذات اليد الطولى في النظام الدولي، إلى جانب التباطؤ الحاصل في نمو الاقتصاد العالمي، والتحولات الحادة في أسعار الطاقة، والتراخي الحاصل في المعايير الضابطة للمنظومة الدولية لا سيّما تلك الخاصة بقضايا الأمن والاتصالات والتجارة، هذا بالإضافة إلى التحولات المأزومة للصناعات الإستراتيجية وارتفاع تكلفة التحول الهيكلي من تكنولوجيا الجيل الخامس للجيل السادس.

لكن، هل يمكن أن تدخل القوى الكبرى في حرب عالمية فعلًا سواء بوعي أو بدون وعي؟، ما جدية هذه الأطروحة؟، وكيف يمكننا قياس سلوكيات الدول كالخوف والرغبة في السيطرة كمحفزات لتلك الحرب في إطار التجربة الدولية؟، وهل توجد مكابح فعلًا ضد الانزلاق في مأساة حرب عالمية جديدة؟، وما مدى كفاءتها؟، وما هي ملامح تلك الحرب إن بدأت؟، وما دور الأزمة السورية في الدفع نحو تلك الحرب؟.

هذه الأسئلة نحاول الإجابة عليها في ضوء بعض النظريات الإستراتيجية وكذا التجربة الدولية الماضية والمعاصرة.


لماذا قامت الحروب العالمية؟

قبل الخوض في مسألة تأثيرات الحرب السورية المحققة والمحتملة على بنية النظام الدولي، يتعين في هذا السياق تسطير بعض الحقائق فيما يتعلق بالتحليل المادي والمعرفي للبيئة الإستراتيجية الدولية حتى اليوم. فلقد شهد عالم ما بعد «ويستفاليا» أربع حروب دولية بدءًا بحرب الأعوام السبعة، ومرورًا بحروب الثورة الفرنسية، ثم الحرب العالمية الأولى، وصولاً إلى الحرب العالمية الثانية.

قامت الحربان العالميتان لأسباب واهية؛ فالحرب الأولى كانت لاغتيال ولي العرش النمساوي في سراييفو من قبل مواطن صربي مدعوم من روسيا على خلفية رغبة الإمبراطورية النمساوية الهنغارية ضم صربيا لأراضيها، وهو ما اعتبره القيصر تعديًا على المجال الحيوي الروسي التي تعتبر نفسها الحامية التاريخية للسلافيين. دخلت النمسا بقوات إلى سراييفو ثم قررت ألمانيا دعم النمساويين فقامت بغزو الحدود الغربية لروسيا (بهذه البساطة). بهذا التحريك الأرعن وغير المحسوب للقوة العسكرية تورطت القوى الكبرى في حرب مفتوحة وقُضي لعقود على عصور الرفاه التي تحدث عنها المخططون الأوروبيون أوائل القرن العشرين.

الحرب العالمية الثانية لم تقم لسبب أكثر وجاهة. بعد احتلال هتلر للتشيك برضا أوروبي «ضمني»، قام الفوهلر بمحاولة مسح عار معاهدة فرساي وحاول ضمّ مدينة دانزيج الإستراتيجية التي كانت تابعة لألمانيا قبيل الحرب الأولى وضمتها المعاهدة لبولندا إذلالاً لألمانيا. لم يمضِ على دخول هتلر لدانزيج أكثر من 24 ساعة حتى أعلنت فرنسا حربًا ضد ألمانيا وتبعتها بريطانيا مرورًا بالاتحاد السوفييتي ثم إيطاليا واليابان والولايات المتحدة. الأيام اللاحقة لإعلان أوروبا الحرب ضد هتلر خطت مصير بولندا وهولندا وبلجيكا والدانمارك والنرويج، ولم يمرّ سوى أسابيع معدودة حتى التقط هتلر وقادة الفيرماخت صورتهم الأثيرة أمام برج إيفل في قلب باريس التي أعلنت عليه الحرب.


تطور المنظومة الدفاعية بعد الحرب العالمية الثانية

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية واستخدام السلاح النووي، ظهرت منظومات المرونة واليقظة والصبر الإسترايتيجيين، لكبح جماح هذه القوة المتصاعدة

وقد كانت أولى الأدبيات التي تحدثت حول هذه المعاني رسالة جورج كينان – سفير الولايات المتحدة السابق في الاتحاد السوفييتي ومدير وحدة التخطيط بالخارجية الأمريكية والذي اعتبره كثيرون مهندس الحرب الباردة – التي نشرتها مجلة Foreign Affairs تحت اسم مستعار أوائل عام 1949 والتي سطرت معالم سياسة الاحتواء، إلى جانب وجود هذه المعاني واضحة في البيان التأسيسي لمجلس الأمن القومي الأمريكي نفسه والمخابرات المركزية الأمريكية بعد ذلك. بين كل هذا، شكلت رسالة كينان ومن قبلها خطة إنعاش أوروبا (خطة مارشال) روح معظم فترات الحرب الباردة بلا منازع. ومع كل نزاع تندرج له القوى الدولية إبان الحرب الباردة، تتعمق ثلاثية المرونة واليقظة والصبر الإستراتيجي لدى الدول العظمى ويزداد الخوف من المباريات الصفرية التي لا محل لأي من لاعبيها في المستقبل. ويمكن القول بأن أزمة خليج الخنازير قد عمقت من هذا الخوف وأثرت بشكل أو بآخر على استجابة القوى الغربية لسياسة الهاوية Brinkmanship التي انتهجها الاتحاد السوفييتي آنذاك.

إبان الحرب الباردة، أضافت هذه المنظومة الإدراكية الجديدة قدرًا كبيرًا من التوقع الإستراتيجي بتحركات الخصوم، ومن ثم تلته مرونة واسعة في قدرة الدولة على الفعل الإستراتيجي وتعدد خيارات رد الفعل خارج إطار مفاهيم القوة التقليدية. وقد كان لهذه الموجة من ديناميات الصراع أثر كبير على إرساء حجر أساس لمؤسسات بأكملها تقوم على تنفيذ مفردات الضبط الإستراتيجي. وبما أن هذه الصراعات لم يُرَد لها أن تنزلق لمواجهات حربية مفتوحة، فقد قررت الدول الكبرى إيلاء المزيد من التركيز لتطوير الميكانيزمات غير القتالية لإدارة الحرب الحديثة؛ فكانت الأدوار الضخمة لأجهزة الأمن القومي والاستخبارات والتي اعتبرها كثيرون من محللي الشئون الإستراتيجية عوضًا عن الأعمال العسكرية واسعة الدمار وأخف منها ضررًا.

نشأت أجهزة الاستخبارات الغربية والشرقية بهدف شنّ حروب نوعية محدودة تضمن التفوق الإستراتيجي النوعي
خصائص الحروب العالمية: مناطق متفرقة من العالم، جيوش مليونية، تأثير على مصفوفة القوى الدولية، تغيرات هيكلية دائمة

  1. تدور رحاها عبر مناطق متفرقة حول العالم ولا يشترط أن تكون فيها مواجهات كبيرة بين القوى الكبرى. وفي حالة الحرب الباردة، حضرت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في كافة الصراعات الإقليمية وكان نموذج حروب الإنابة Proxy Wars أو الحرب القصيرة هو المعتمد؛ كما حدث في الحرب الكورية، والثورة اليونانية، وأحداث ربيع براج، وحرب فيتنام، وحرب الاستنزاف بين مصر وإسرائيل التي شاركت فيها كتائب الدفاع الجوي السوفييتي مساندة لمصر، وحرب 73 التي شاركت فيها الولايات المتحدة بجهود الاستطلاع والإمداد الإستراتيجي دعمًا لإسرائيل وغيرها.
  2. تخوضها جيوش مليونية ذات عتاد أسطوري بتواجد ميداني كبير إلى متوسط أو جيوش متوسطة العدد مزودة بعتاد عسكري تقليدي ومدعومة عسكريًا وسياسيًا بحليف ذي وزن كبير. النظرة للحرب العالمية على أنها فقط حرب بين جيوش كبرى وجبهات ضخمة وعتاد أسطوري أمر يحتاج لنقاش.
  3. حجم الدمار ليس شرطًا في تصنيف المواجهات العسكرية على أنها حروب عالمية. الأولى بالاعتبار هو تأثير هذا الدمار على مصفوفة القوى الدولية وقدرة المنتصر على فرض شروطه على المنهزم. فالدمار الناجم عن الكوارث البيئية ذو أثر غير منكر في تصنيفات القوى الدولية وقد يفوق أثر الحروب؛ لكنه ليس شرطًا لحدوث تحولات ضخمة داخل المنظومة الدولية.
  4. التغيرات الهيكلية الناجمة عنها تتمتع بالعمق والديمومة. فقد شهدت أحداث الحرب الباردة في بعض جبهاتها حشودًا أقل لكنها حققت أكبر قدر ممكن من الزخم الإستراتيجي. على سبيل المثال، تعتبر عملية إنزال «أنشون» على سواحل البحر الأصفر التي قامت بها الولايات المتحدة خلال الحرب الكورية 1950 لاستعادة سيول من الكوريين الشماليين ذات أثر إستراتيجي لا يقل أهمية عن عملية الإنزال الكبير D-Day على سواحل الأطلنطي، مع الفارق العسكري الضخم في حجم العمليتين. ولا يخفى على أي متأمل حجم التغير الهيكلي الذي أنتجته عملية طرد الكوريين الشماليين من كوريا الجنوبية على منظومة القوة الدولية والهندسة الإستراتيجية لأحلاف الباسيفيك.
  5. وجود دافع أيديولوجي في الصراع يكون محفزًا لحشد القدرات والموارد في مواجهات عنيفة وغير عنيفة. فإذا كانت الحرب العالمية الثانية تم شنّها للقضاء على النازية والفاشية، فإن الدافع الأيديولوجي في الحرب الباردة كان أقوى لا سيّما أن السوفييت الجامحين لم يكن ليهدأ لهم بال حتى ينشروا الشيوعية في حواضر أوروبا الغربية وعلى الساحل الأمريكي الشرقي.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل من الممكن أن يؤدي الصراع السوري إلى حرب تستوفي تلك المواصفات؟، ما هو دور ومصير منظومات الضبط الإستراتيجي في هذه الحالة؟، ما الذي سيترتب على الحملة البرية السعودية التركية في سوريا؟، هل ترد روسيا بإنزالات بحرية كبيرة في سوريا؟، ما هي إمكانية حدوث حرب تركية روسية؟، وما هو أثرها على منظومة الأمن الدولي لا سيّما شرق أوروبا ووسط آسيا؟، وما هو دور الناتو المتوقع في تلك الحرب؟، كيف تؤثر جيوبولوتيكا الأزمة السورية على حالة الأمن والسلم الدولييْن؟، وما هو تأثير تلك الحرب على تماسك الاتحاد الأوروبي؟، هل نحن مقبلون على حرب عالمية أم أننا في أتونها بلا دراية منا؟.

موائد القرار الدولي متخمة بمثل تلك الأسئلة في تلك الآونة، وسنحاول في الجزء الثاني من هذه السلسلة النظر في هذه الأسئلة بناءً على مفردات المشاهد الإقليمية والدولية المتاحة في هذا الإطار.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.