لعلك ما زلت تتساءل عما حدث في تلك الليلة بين «فان دايك» و«ميسي» على ملعب الكامب نو، ولأن أحدًا لم يقنعنا بتفسير ما حدث، فسنحاول تقديم أقرب التفسيرات من أحد الأفلام المصرية. في فيلم «الحاسة السابعة»، لعب «أحمد الفيشاوي» دور «يحيى المصري»، وهو لاعب كونغ فو محدود القدرات. لم يكن أحد يعيره انتباهًا حتى حدث له أمر خارق، أكسبه قدرة خاصة تساعده على قراءة أفكار الناس من حوله. وبدأ الأمر يأخذ طابعًا كوميديًا حتى وصل إلى مرحلة مواجهة الوحش؛ بطل العالم في الكونغ فو.

كان «يحيى» متحفزًا لمواجهته معتمدًا على قدرته الفائقة في قراءة وتوقع حركات المهاجمين، لكن فجأة تذكر أن بطل العالم يتحدث اللغة الصينية، وبالتبعية فهو يفكر بالصينية. هذا تمامًا ما حدث عند مواجهة «فيرجيل فان دايك» للملك رقم 10. كان مدافع ليفربول معتادًا على توقع خصومه حتى واجه ميسي، واكتشف ما اكتشفه «المصري»: «دا بيفكر بالصيني».

وبعيدًا عن مواجهة ميسي – التي فشل فيها الجميع بالأساس – يبدو أن مشهد تحوّل القدرات سيتكرر في كل قصص الأبطال الخارقين، وسيشكل نقطة التقاء الواقع بخيال السينما، لتصبح الحبكة أكثر تشويقًا. لكن هل يستحق «فان دايك» حقًا أن يُدرج في تلك القائمة، أم أن الكثيرين يبالغون في تقديره؟


قدرات محدودة

كما كان «يحيى المصري» ضعيف البنية محدود القدرات في طفولته، كان «فان دايك» أيضًا. فالدولي الهولندي الذي يلفت انتباهك بطوله الفارع وقوته البدنية لم يكن كذلك، فكان يعاني من مشاكل في الفخذ والركبة، والأدهى من ذلك أنه كان قصيرًا. فقد أخبر شبكة الإذاعة البريطانية BBC أنه حتى سن السادسة عشر كان مجرد ظهير أيمن بطيء، وكان أخوه الأصغر أطول منه، لكن في العام التالي ازداد طوله 18 سنتيميترًا، وتكفل العلاج الطبيعي ببقية مشاكله.

وكما حدث في الفيلم، انتقل لاعب سيلتيك الأسبق من محدودية القدرات إلى الوفرة، حتى أنه كان ثاني أسرع لاعبي ليفربول وفقًا لتقرير صحيفة «الدايلي ميل» في بداية موسم 2018/19، إذ تجاوزت سرعته ثنائي خط الهجوم صلاح وماني، فبلغت 21.5 ميلاً في الساعة خلف جو جوميز «21.6 mph».

لكن تظل أهم مميزات فان دايك هي امتلاكه لحاسة تشبه الحاسة السابعة، فهو قلب دفاع بحاسة ليبرو. يمتلك قدرة غير عادية على قراءة اللعب، وتوقع اتجاه الكرة، فيسبق المهاجمين إليها مستغلاً قدراته البدنية على النحو الأمثل. لكن ما يعيبه حسب قول البعض هو قلة استخدامه للعرقلة، و أرقام الموقع الرسمي للبريميرليج تؤكد ذلك، فهو خارج قائمة أكثر 20 مدافعًا قيامًا بالـ tackles.

للأسف هذه لم تكن محاولة من أفضل لاعب بالبريميرليج للدفاع عن نفسه، بل كان رأي أسطورة الدفاع الإيطالية «باولو مالديني»، وبالصدفة فإنه يتماشى مع أسلوب قلب دفاع الليفر. واحترامًا للنوستالجيا سيتجاوز الجميع عن مسألة العرقلة تلك، وسنستكمل مبالغاتنا بحق «فان دايك».


مدافع بعقلية مهاجم

لا يخفى على متابعي اللعبة المأساة التي يعيشها مدافعو هذه الحقبة، والتي مهدت لظهور مدافعين أقل حدة من ذي قبل، فقط لأنهم يجيدون التمرير ويساهمون في بناء اللعب «build up» تماشيًا مع الأساليب الحديثة. كان مدافع يوفنتوس «جورجيو كيليني» قد عبر من قبل عن ضيقه من هذا الأمر، مشيرًا إلى تغير الـ «DNA» للمدافعين بسبب أسلوب لعب مدرب برشلونة السابق «بيب جوارديولا».

لكن المدافع الهولندي يقدم لنا أحدث موضة في خط الدفاع، مزيج بين المواصفات الكلاسيكية والمتطلبات العصرية. على مستوى البناء، فهو لا يخشى الاحتفاظ بالكرة، يجيد التمرير القصير والطويل، وإذا لزم الأمر يتدرج بها بنفسه مستفيدًا من خبرته السابقة من اللعب كمهاجم في نادي «فيليم» الهولندي.

في مباراة ليفربول ونيوكاسل في الجولة قبل الأخيرة في البريميرليج، كانت النتيجة تشير إلى التعادل 2-2، وفي الدقيقة 86 حظي ليفربول بركلة ثابتة على الطرف الأيمن. توجه لاعبو الريدز إلى منطقة الجزاء استعدادًا لاستقبال العرضية، وفجأة أخذ «فان دايك» يشير إلى «شاكيري» كي ينفذها بدلاً من زميله «ألكسندر أرنولد». لأن «شاكيري» يلعب بقدمه اليسرى، وسيتمكن من تحويلها باتجاه المرمى وليس إلى الخارج.

بالفعل حدث ما طلبه فان دايك، وتمكن الليفر من إحراز هدف الفوز والوصول بسباق اللقب حتى الجولة الأخيرة. تلك اللقطة البسيطة أشارت إلى مدى نضج «فان دايك» فكريًا، وطريقة تفكيره البعيدة كل البعد عن لاعبي خط الدفاع التقليديين.


أحدث موضة

أما بالنسبة إلى المهام الدفاعية الرئيسية، فنحن نتحدث عن لاعب يبلغ طوله 193 سنتيمترًا، فلك أن تتخيل قوته في الهواء، مع سرعة البديهة التي يمتلكها. لكن يمكننا أن نكتشف المزيد من مميزات المدافع الهولندي بالعودة مرة أخرى إلى ما قاله «مالديني». فقد عبر أسطورة نادي ميلان عن افتقاد الكرة الحديثة لمدافعين يمتلكون القدرة على التواجد في المكان والزمان المناسبين.

يقدم أفضل مدافع بالبريميرليج نفسه كـ «pro-active defender»؛ أي يلعب على استباق منافسيه، لأنه لم يعد فيهم تييري هنري أو الظاهرة رونالدو. بالطبع سيناسب ذلك أسلوب كل من جوارديولا وكلوب وغيرهم ممن يحب استعادة الكرة سريعًا، لكن «فيرجيل» لا يكتفي بهذا، بل إنه يجبر منافسيه على الدخول في لعبة ذهنية «mind game» يضع قواعدها بنفسه؛ بسبب إجادته للدفاع في المساحة وفتح خيارات معينة أمامهم، وكأنه يلعب بعقولهم.

«موسى سيسوكو» كان أحد ضحايا تلك اللعبة في لقطة الانفراد الشهيرة، عندما وجد «فان دايك» يدعوه للتقدم تجاه المرمى بدلاً من التمرير للكوري «سون». اضطر «سيسوكو» إلى قبول دعوته، والتقدم حتى وصل وسدد بقدمه التي لا يفضلها إلى خارج الملعب.

ما يقدمه فان دايك بعيد تمامًا عن فكرة المدافع العنيف، المندفع، الذي يخرج لمواجهة الخصوم تاركًا خلفه فدانًا من الثغرات، أو الآخر الذي يجيد الخروج بالكرة أكثر من الدفاع نفسه. ذلك المزيج هو بالضبط نقطة قوة «فان دايك»، والذي مكّنه من إعادة زمن «كانافارو» ولكن مع بعض التعديلات.


إعادة الهيبة

المدافع الجيد لا يحتاج للقيام بالعرقلة، لكن إذا قام بخطأ ما فيصبح مضطرًا لتصحيحه بالـ tackle.

بالعودة إلى فيلم «الحاسة السابعة»، كان «يحيى المصري» قد حصل على بطولة الجمهورية في الكونغ فو، وبحسن نية انتظر احتفاء جموع الصحفيين به، لكنه تفاجأ باهتمامهم بلاعب كرة القدم ولاعب نادي الزمالك السابق خالد الغندور. هكذا كان الوضع تمامًا بالنسبة إلى المدافعين، لا يهم أين تلعب وكيف، ولا يهم حتى إن كنت تؤدي مهامك الدفاعية الأساسية أم لا، وهل تؤديها باستمرارية أم فقط تكتفي بومضات متقطعة، في النهاية سيذهب الاهتمام لخالد الغندور أو سيرجيو راموس.

كانت هذه معايير جديدة لتقييم خط الدفاع، وكأن عصر الأهداف برعاية ميسي وكريستيانو لم يكن يكفي لإجحاف دورهم. لكن الآن ظهر «فان دايك» وبدأ لفت الانتباه لأنه فقط مدافع، لأنه فقط يقوم بدوره بشكل ذكي وفعال، بجانب دوره القيادي الملحوظ غير المصطنع.

بات الجميع يشاهد «فان دايك»، ليس لأنه يلعب لنادٍ يكفل له التواجد باستمرار في تشكيلة الفيفا، لكن لأنه مدافع يصعب مراوغته. وفي كل مرة تتابعه، تنتظر أن يراوغه أحدهم حتى تقتنع بأنهم يبالغون. هذا هو ما أعاد هيبة المدافعين، هذا هو ما قد يرفع معايير التقييم بعد أن تحولت إلى تنافس بين الأندية حول الأكبر شعبية والأكثر نفوذًا.

قد يكون «فان دايك» هو بداية لإصدار جديد من المدافعين، مواكبًا لتغير أساليب اللعب، وقد يكون حالة وستنتهي. لكن بالنهاية على جماهير كرة القدم أن تتوقف عن تلك المقارنات العابرة للأزمان، وترك جماهير ليفربول تفرح بلاعبها، لأنهم محظوظون بامتلاكه، وهو أيضًا محظوظ بجماهير الأنفيلد، التي لن نجد أفضل من كلمات أغنيتهم – في التغريدة التالية – ختامًا للحديث عن غاسل الصحون الذي أصبح أغلى مدافع في العالم.