حين ننظر إلى واقعنا الذي نعيشه نتلمس حجم خسائرنا في مسيرتنا الإنسانية. طالما أن عالم القمع والإذلال والاستغلال قائم ومستمر، فسينتهي بنا المطاف إلى أن نصبح مخلوقات من نوع آخر كان اسمه الإنسان، دون أن يعني ذلك تغيرًا في شكله الخارجي. إن التغير الأكثر خطورة هو ما يحدث في بنيته الداخلية، العقلية والنفسية.
كتاب «حيونة الإنسان» – «ممدوح عدوان»

يستوحي المخرج الإيطالي «ماتيو جاروني» فيلمه التاسع «Dogman» من حادثة حقيقية جرت وقائعها نهاية ثمانينيات القرن الماضي في إحدى ضواحي روما، وكانت حديث الصحف والميديا آنذاك، حين قرر رجل بسيط يعمل في صالون للعناية بالكلاب أن يضع حدًّا للاستغلال المستمر الذي يتعرض له من ملاكم سابق، فيقوم بحبسه داخل أحد الأقفاص المعدة للكلاب وتعذيبه لساعات قبل قتله.

تحمل تفاصيل الواقعة الحقيقية قدرًا هائلًا من العنف، كان الأمر أقرب لانفجار هذياني لرجل عادي يشبهنا جميعًا. كان «جاروني» مأخوذًا بحكاية مربي الكلاب، وظلت الحكاية تداعب مخيلته ما يقرب من عقدين من الزمن، حتى التقى مصادفة «مارشيلو فونتي» بملامحه الموسومة بالبراءة والغرابة معًا -فاز بجائزة أفضل ممثل عن أدائه للدور الرئيسي في فيلم «جاروني» من مهرجان كان 71- والذي يرى «جاروني» أنه لولا وجوده لما كان قادرًا على تحقيق فيلمه.


كيف حكى «ماتيو جاروني» حكايته؟

المخرج الإيطالي «ماتيو جاروني»

يفتتح «جاروني» فيلمه بلقطة مقربة لكلب شرس ينبح في وجه الكاميرا كاشفًا عن أنيابه، نلمح «مارشيلو/مارشيلو فونتي» عند طرف الكادر لوهلة قبل أن يختفي من الكادر ليحتله كاملًا جسد الحيوان المعلن عن عدوانيته، بينما صوت مارشيلو من خارج الكادر: «يا حلوتي». لقطات لكلاب هادئة داخل أقفاص، نرى مارشيلو ثانية أقصى طرف الكادر خائفًا: يا جميل هل تريد بسكويتًا. المشهد ينتهي بلقطة للكلب وادعًا ومطيعًا.

يقول السينمائي الفرنسي «روبير بروسون»: «ينبغي على كل لقطة/تكوين أن تقول شيئًا ما،حتى قبل أن تنطق الشخصيات التي تحتل اللقطة». كل لقطة من لقطات «جاروني» في ذاتها تحمل معنى ما، بل يمكننا القول إن تتابع اللقطات معًا في المشهد الأول يضيء روح الفيلم وروح بطله.

نحن هنا أمام الشخصية الرئيسية في الفيلم تواجه واقعًا شرسًا وعنيفًا، وتظن في سذاجة أن بإمكانها ترويضه -مثلما تروض كلبًا- بمزيد من الصبر واللطف أو على الأقل تفادي ضرباته. يمكننا أيضًا أن نرى علاقته المصيرية بـ «سيموني»، الذي يمكن اعتباره ككلب ضال وشرس يتعذر ترويضه، تجسيدًا لهذه الروح.

يستطيع أيضًا «جاروني» أن يؤسس ببراعة للمكان الذي تدور فيه حكايته عبر لقطات شبه تسجيلية في المشهد الثاني قبل أن يعود ثانية إلى «مارشيلو». فنرى أرضًا خالية من البشر مدموغة بإحساس ثقيل بالعزلة كمدينة منسية على حافة العالم، حيث تبدو من بعيد مجموعة مساكن متواضعة، لقطة بعيدة لطفلين على أرجوحة وامرأة وحيدة.

في مكان هامشي كهذه المدينة الصغيرة، حيث العنف عملتها الوحيدة، كيف ينجو رجل طيب القلب مثل مارشيلو؟


العالم السينمائي لماتيو جاروني

التيمات التي يحملها فيلم «Dogman» ليست غريبة عن عالم «ماتيو جاروني» السينمائي. دائمًا ما صورت أفلامه السابقة شخصيات بريئة عالقة في عالم قاسٍ وعنيف، راصدًا أثر ذلك العنف على شخصياته. يبرع «جاروني» في رسم تفاصيل عالم قاسٍ ومنتهك بأقصى واقعية ممكنة.

في فيلمه «Gomorrah»، الحائز على الجائزة الكبرى في مهرجان كان 2008، يرصد الحياة اليومية لمدينة تسيطر عليها عصابة المافيا الإيطالية المعروفة بالكومورا. تتحكم الكومورا في اقتصاديات المدينة وسكانها بشكل مخيف، لا أحد يفلت من العنف لا الأطفال ولا النساء، دائرة مفرغة من العنف العبثي، لا ينجو منه مراهق بريء مثل «توتو» الذي ينتهي به المطاف وهو يساعد في استدراج امرأة خارج منزلها ليقتلها رجال الكومورا.

هناك أيضًا شخصيتان ساذجتان هما «ماركو» و«سيرو»، يمارسان أنشطة إجرامية صغيرة، الأمر بالنسبة لهما أشبه بلعب طفولي، فالمرة الأولى التي نراهما معًا نجدهما يمرحان داخل فيلا مهجورة، يحاولان محاكاة صوت وحركات توني مونتانا -شخصية رجل عصابات أداها «آل باتشينو» في فيلم «الوجه ذو الندبة Scarface» من إخراج «برايان دي بالما»- غير أنهما نسيا أنه لا مكان في هذا الجحيم للعب ولا للطفولة.

عالم جاروني أيضًا هو عالم ذكوري تمامًا، وجود النساء فيه هامشي. في «Dogman» نجد حضور طفلته فقط، ووجود شبحي لمطلقته. يرى جاروني أحد الأسباب الرئيسية لهذا العنف المستشري هو أن الثقافة الإيطالية هي ثقافة ذكورية جدًّا، تمجد الذكورة المتطرفة والعدوانية (Macho)، وأن المافيا هي أحد أعراض هذه الثقافة المريضة أو تجليها الأقصى.


خطر الرغبة وفانتازيا القوة

عالم «ماتيو جاروني» هو عالم رغبات محتدمة وانجذابات خطرة. هناك فكرة رائعة نجدها في سينما «جاروني» تصلح كمدخل لفهم العلاقة بين مارشيلو وسيموني يمكن صياغتها كالتالي: هناك شيء وحشي في قلب كل رغبة مهما كانت بريئة.

في فيلمه «Tale Of Tales» نجد الملكة التي تقوم بدورها «سلمى حايك» تأكلها رغبة أن تكون أمًا، وهي الرغبة الأكثر بدائية وبراءة لدى كل النساء. حرمان الملكة من الإنجاب ورغبتها في أن تكون أمًا يدفعها للتضحية بزوجها من أجل الحصول على قلب وحش بحري أخبرها العراف أنها إذا أكلته فسوف تحمل في الحال.

ينام الزوج صريعًا على الشاطئ بجانبه قلب الوحش البحري، تخطف الزوجة قلب الوحش دون أن تلقي حتى نظرة وداع على جثمان زوجها. نشاهدها في المشهد التالي وهي تلتهم بنهم قلب الوحش بينما تصبغ الدماء فمها وجانبًا من وجهها.

نعود إلى «مارشيلو» والعلاقة بينه وبين «سيموني»، والتي تحمل قدرًا من الغموض من ناحية «مارشيلو»، فعلى الرغم من استغلاله من قبل «سيموني» فإنه منجذب له. المرة الأولى التي نراهما معًا نجد «مارشيلو» منبهرًا بما فعله «سيموني»، من ضربه لأشخاص من روما وهروبه من الشرطة. انجذاب «مارشيلو» له إذن هو انجذاب لما لا يملك، القوة في مجتمع مفتون بها.

منبع هذا الانجذاب هو رغبته في أن يكون مقدرًا داخل المجتمع الذي يعيش فيه، أن يكون مرئيًا. في المشهد الذي يجتمع في أصحاب المحلات لمناقشة أمر «سيموني» الذي صار خارجًا عن السيطرة، يجلس «مارشيلو» معهم، لكن لا أحد ينظر إليه أو يطلب رأيه كأنه غير موجود.

ربما هذا ما نجد صداه في المشهد الذي يلي انفجاره الأخير، حيث يقف في مواجهة ملعب الكرة يخاطب أشباحًا، يناديهم دون أن يلتفتوا إليه: «انظروا ماذا فعلت، انتظروا فسأجلبه لكم». كأن ما فعله كان من أجل فقط أن يروه أو يشعروا بوجوده.


الأسلوب السينمائي للمخرج «ماتيو جاروني»

حين نشاهد لوحة «Sunflowers» للرسام الهولندي «فان جوخ» فإننا لا نتحدث طويلًا عن لماذا اختار هذا النوع من الزهور بالذات، بل نبقى مأخوذين بالطريقة التي رسمها بها، الحال نفسه في السينما، لا نتحدث طويلًا عن الحكاية، بل تأسرنا الطريقة التي صورت بها.

يمكننا اعتبار أسلوبية «جاروني» امتدادًا حديثًا لإرث وجماليات مدرسة «الواقعية الجديدة» التي ظهرت في السينما الإيطالية بعد الحرب العالمية الثانية وتركت أثرها في العديد من المخرجين حول العالم.

الاحتفاء النقدي بفيلمه «Gomorrah» في 2008 كان يشمل في جزء منه الحديث عن إعادة إحياء تقاليد الواقعية الجديدة. وهو ما يستمر هنا في فيلمه الجديد «Dogman»، حيث التصوير في الأماكن الطبيعية، واستخدام كاميرا محمولة باليد، واستخدام إضاءة طبيعية، والمزج الرائع بين ممثلين محترفين وهواة.

يبرع «جاروني» في استخدام البيئة المحيطة والعناصر الطبيعية في التعبير عن الحالة النفسية لشخصيته الرئيسية، فالنص الأول من الفيلم تسوده إضاءة مشرقة وجو صحو مثلما يتخلله بعض الخفة واللحظات المرحة بين «مارشيلو وابنته»، أو بينه وبين كلبه. بينما يأتي النصف الثاني بإضاءة خافتة، جو رمادي، أفق مظلم وسماء ملبدة بالغيوم كنذير بما هو قادم. الخطة اللونية، والتي تجمع بين الأزرق البارد والرمادي هي الأقرب لطبيعة عالمه وشخصياته.

يبدو الفيلم في النهاية مثل حكاية أطفال قاتمة، كتلك الحكايات الخيالية التي قدمها بمنتهى الواقعية في فيلمه «Tale Of Tales»، والتي نرى في قلبها توحش العالم وهزيمة الإنسان، حكاية عن رجل ساذج وطيب القلب استطاع أن يروض كل كلاب الحي النابحة قبل أن يتحول هو في النهاية بما يشبه اللعنة إلى كلب كبير يلهث فوق جثة الكلب الوحيد الذي عجز عن ترويضه.