في عام 2009 تم عرض فيلم «Dogtooth» للمرة الأولى، لا يُعتبر الفيلم من أشهر أفلام المُخرج اليوناني يورجوس لانثيموس فقط، بل يعتبر من الأفلام التي وضعت المُخرج على طريق العالمية، فمن رجلٍ يصور الإعلانات ومقاطع الأغاني والرقص للشركات، لمُخرج لواحدٍ من أهم الأفلام التي يُمكن أن نُشاهدها على الإطلاق، وعلى الرغم من خلفية المُخرج التي تتعلق بالإعلانات والعمل مع العلامات التُجارية بل وتصميم مراسم الافتتاح والختام لدورة الألعاب الأولمبية إلا أن المُخرج استطاع أن يُقدم عملًا فنيًا مُتفردًا وأصيلًا لن ترى العالم بعد مشاهدة الفيلم كقبل المُشاهدة، وعلى الرغم من تداول هذه الجُملة الأخيرة حتى فقدت بريقها، فإن هذا الفيلم بالتحديد سيغير رؤيتك عن العالم.

خلق الله لآدم وخلق آدم للعالم

لنبدأ قصة الإنسان من البداية كما ذُكِرَت في الإسلام، قبل خلقه كانت الملائكة تستنكر خلق الإنسان، بل وبدأت التساؤلات تُثار هنا وهناك، إنسان؟ مخلوق جديد؟ المزيد من الفساد في الأرض، والمزيد من سفك الدماء، لماذا تحتاج الإنسان يا الله، نحن الملائكة عبادك الصالحون، نُقدسك، ونحمدك، ونرفعُ اسمك عاليًا؛ لكن الله كان يرى الإنسان في ثوبٍ أكبر من ثوب العبادة، لم يكن يراه مخلوق مجبول على فعل الخير كما يحدث مع الملائكة. وحتى يصبح الإنسان حُرًا حُرية كاملة يجب أن يتعلم ويعرف، لذلك نجد أن الآية التي تلي آية مجادلة الملائكة واستفساراتهم عن خلق الإنسان هي الآية التي يتعلم فيها آدم مُباشرةً «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ» الآية الأولى بعد الثلاثين من سورة البقرة، هكذا بدأ آدم وجوده في العالم، بتعلم الأسماء، التي من خلالها يرى كل شيء، ويفهمه، ميزة اختص الله بها الإنسان وعجز عنها الملائكة.

أما في الإنجيل فنجد أن تعلم آدم للأسماء مذكور بشكلٍ مُختلف قليلًا، ففي الإصحاح الثاني من سفر التكوين، وبعدما خلق الله الطيور في السماء والحيوانات البرية في الأرض، أتى بها إلى آدم، والاسم الذي كان يدعو به الكائنات هو الاسم الذي لازمها بعد ذلك، غير أن هناك أشياء سبق خلقها خلق آدم والحيوانات والطيور، وهذه الأشياء تعلمها آدم من الله مثل الرواية الإسلامية، وتقول بعضُ التفاسير المسيحية أن الله أتى بالكائنات لآدم، ليشعر بسلطته عليها حين يُعطيها اسمًا، ويُذكرني هذا التفسير بنصائح الأطباء النفسيين والمدربين الشخصيين، وغيرهم عن كتابة الأفكار، فعند الكتابة نسيطر على مذبحة الأفكار في رأسنا ويهدأ العالم قليلًا.

من هنا يبدأ الفيلم، في المشهد الأول نرى شريطًا يوضع في مُشغل الشرائط، وبعدها نسمع صوت امرأة تبدأ بشرح كلمات ومصطلحات في اللغة، البحر هو كُرسي من الجلد له أذرع خشبية، الطريق السريع هو الرياح القوية الشديدة، البندقية هي طائر جميل أبيض. من المشاهد الأولى يختلط علينا الأمر، هل هناك خطأ في ما نسمعه؟ هل ترجم أحدهم عن اليونانية بشكلٍ خطأ؟ ولكن مع تقدم الأحداث تبدأ الكارثة بالوضوح.

أن تتحول إلى كلب في أسرة نووية

تدور أحداث الفيلم عن أب يعيش مع أسرته في منزلٍ بعيد عن المناطق السكنية، مكان منعزل تحيط به غابة كبيرة، للأب زوجة وابن، وفتاتان، نرى في بداية الفيلم مشهدًا شديد الغرابة، وهو اصطحاب الأب لكريستينا، وهي امرأة تعمل في النقاط المرورية على الطريق يُحضرها الأب لتنام مع ابنه مقابل بعض المال. يتصرف الأب بهذا الشكل لأنه يريد أن يوفر حياة مثالية لأبنائه، أبناؤه الذين لم يخرجوا أبدًا من المنزل، نكتشف من الأحداث أن الأب استطاع أن يقنع أولاده أن منزلهم هو العالم الآمن الذي يجب أن يعيشوا فيه، فخارج بوابة هذا البيت تعيش الوحوش المفترسة، حتى الإسفلت استطاع الأب أن يجعله مصدر رُعب للأولاد، ونرى هذا في مشهدٍ عبثي حينما تأخذ الابنة الكُبرى الطائرة التي يلعب بها أخوها وتُلقيها خارج المنزل، يقود الأب حينها سيارته بحذرٍ حتى يخرج من المنزل بضع خطوات ويحضر الطائرة دون أن يلمس الأرض ويعود مرة أخرى، الفرصة الوحيدة للخروج من المنزل حينما يقع ناب من الفك الأيمن أو الأيسر من الفم.

تعرف الأم حقيقة ما يحدث، لكنها تُحب زوجها، بل وتوافقه في ما يحدث ففي النهاية يُريد الاثنان أن يُربى أطفالهما بأفضل طريقة مُمكنة، يُريدان أن يكبر الأولاد ويتعلموا الأشياء الجيدة فقط، أما الشرور فلا مكان له في العائلة، حتى الجنس كانا يعتبرانه من الشرور، فعلى الرغم من أن الأب كان يأتي بكريستينا لتنام مع ابنه حتى لا يتحول الكبت بداخله إلى شر، فإنه لم يكن صريحًا مع أولاده حول الجنس في الوقت ذاته، بل نرى سؤالًا صريحًا من ابنته على طاولة الطعام «ما هو المهبل؟» وهنا ترد الأم «مصباح كبير»، كما نرى أن الأم حينما تحمل في توأم، يستغل الأب الموقف ليخبر الأولاد أن أمهم ستلد طفلين وكلبًا.

في أحد الأيام وعند عودة الأب من العمل يذهب لمركز يقوم بتدريب الكلاب، ويسأل عن كلبه، لكن يخبره المُدرب أن الكلب ما زال في المرحلة الثانية من التدريب، ويتشكل التدريب من ست مراحل كاملة، لا يمُر كثير من الوقت، حتى نكتشف أن الكلاب الحقيقية في الفيلم هم الأبناء، فهم من يتم تدريبهم طوال الوقت، وتشكيل مفهومهم عن العالم بشكلٍ مغلوط.

تأخذ النواة مركز الذرة وحولها مدارات تدور فيها الإلكترونات، هكذا وبالشكل نفسه تتشكل بعض الأسر التي تحاول أن تسيطر على حياة أبنائها، الأب هو مركز الذرة، صاحب السلطة الذي يتحكم في كل شيء، وحول قراراته وأوامره وتصرفاته، تدور باقي الأسرة، في أفلاكٍ مُحددة، ومدارات معروفة، ولا يترك الأب أي فرصة لأحد ليخرج من مساره الذي اختاره هو له، وعلى الرغم من أن هذه الفكرة تُعد فكرة سوداوية ويصعب أن يتقبلها أحد، فإن سلطة الأسرة تعتبر من أكثر السلطات المتجذرة في عالمنا العربي بالذات، وهنا لا أتكلم عن التعامل الجيد مع الأهل، أو زيارتهم، بل عن تركهم يشكلون لنا رؤيتنا للحياة والعالم، وتبني اختياراتهم لحياتنا نحن، هذه السلطة التي يحاول لانثيموس تفكيكها في الفيلم، أما السلطة الأخرى والتي قد تتفوق على سلطة الأسرة مراتٍ ومرات فهي سلطة الدين ونجد هذا في العالم بأكمله، ويدفعنا هذا للتساؤل، ما الأشياء التي نفعلها لأننا نقتنع بها ولأنها اختياراتنا، وما الأشياء التي نفعلها لأنها زُرعَت بداخلنا؟

إيكاروس وتوق الإنسان الدائم للحرية والفضول

في أسطورة إيكاروس يقوم مينوس ملك كريت بعقاب دايدالوس المعماري الأثيني الشهير وابنه إيكاروس، وذلك بحبسهم في برج شاهق الارتفاع، في هذا البُرج رأى الصانع العبقري ديدالوس أن الحل يكمن في الطيران، مثلما تفعل الطيور والآلهة، وبالفعل بدأ بصنع أجنحة ضخمة له ولابنه ولصقهم بالشمع، وقبل طيران الأب والابن حذر دايدالوس إيكاروس من الطيران عاليًا حتى لا تذوب الشموع من الشمس ويقع في البحر ويموت، كما حذره من ألا يقترب من الماء فتتناثر الماء على الأجنحة، وتُثقل الشمع ويغرق، المنتصف هو وسيلة النجاة. يبدأ إيكاروس بالطيران، وحينما يطير يرى، وحينما يرى يعرف، وهنا ينسى نصائح الأب، أو يتناساها، ويحلق أعلى وأعلى حتى يرى أكثر، إنه فضول الإنسان الذي لا ينتهي، ينتشي إيكاروس فرحًا بالمعرفة حتى تذوب أجنحته من الشمس ويسقط غارقًا في الماء.

نجد مثل هذا الفضول الإيكاروسي عند الابنة الكُبرى على وجه الخصوص، وبشكلٍ أقل عند باقي الأبناء، ويجعلنا هذا نتساءل، هل سيظل الإنسان يحرقه الفضول ويندفع نحو الحرية، حتى إذا لم يتعلم عنهما شيئًا؟ هل هي أمور مُتجذرة في روحنا؟

يستفسر الأبناء عن الكلمات الغريبة، لكن الابنة تخطت هذا بكثير، فقد ذاقت الفاكهة المُحرمة بين قدمي كريستينا، كما قد تسللت إلى غرفة أمها لترى ما هذا الشيء الذي تُكلم نفسها أمامه، وبعدما أخرجت الابنة الهاتف ووضعت رقمًا عشوائيًا سمعت صوتًا يرد عليها، أعادت الهاتف إلى مكانه وخرجت من الغرفة مملوءة بالفزع.

بل وما زاد كل ذلك أنها استطاعت أن تأخذ فيلمًا من حقيبة كريستينا، وبالطبع لا يوجد شيء أسوأ من فيلم حتى يُفسد مخططات الأب كُلها، عرف الأب ما حدث، وعاقب ابنته كما ذهب إلى كريستينا وضربها لأنها خانت الأمانة وفعلت أكثر مما وكلها لفعله، مُخططه ينهار، لكن الأب يأبى أن يرى أن هناك شيئًا بدأ يتسلل في النفوس، بل وقرر أن يأخذ طريقًا أكثر أمانًا، وبدلًا من إدخال شخص جديد للبيت، قرر أن تنام الابنة الكُبرى مع أخيها. لكن عند هذا الوقت نرى أن الفتاة التي كانت مُقتنعة أن القطة كائن متوحش يأكل الإنسان بلا رحمة، ويجب عند رؤيتها أن تقتلها أو تُقلد الكلاب، أصبحت تشعر أن هناك شيئًا أكبر، أكبر من الطائرات البلاستيكية التي تقع من السماء على حديقة منزلهم.

من فيلم Dogtooth - إخراج يورغوس لانثيموس
من فيلم Dogtooth – إخراج يورغوس لانثيموس

نرى هذا الصراع بشكل واضح ومشوه في الحفل الذي تقيمه العائلة للاحتفال بالذكرى السنوية لزواج الأب و الأم، في بداية الحفل تقف الفتيات أمام الأسرة للرقص، بعد دقائق تتعب الابنة الصغرى وتطلب من والدها أن تجلس، غير أن الابنة الكُبرى تفقد السيطرة على جسدها، وتبدأ في رحلة متضاربة ومشوهة بالرقص، ترقص مثل أختها بخطواتٍ وأشكالٍ معينة يبدو أنه رقص لا يعرفان غيره في هذا العالم، ثم يتداخل إلى رقصها، بعض الحركات التي نرقص بها في عالمنا، يبدو أن الفتاة رأت مثل هذا في الفيلم الذي شاهدته، لكنها بالطبع لا تُجيد الرقص جيدًا مثلما رأت، وهنا نتأكد أن الفتاة لا هي هذا ولا ذاك، وإنما تتحول إلى مسخ يتكالب عليه عالم الأب والعالم الحقيقي والفضول.

بعد الحفلة يسيطر إيكاروس على جسد الفتاة ويفرد أجنحته عاليًا، ها هي الفتاة أمام المرآة في الحمام، ما هي شروط الخروج من المنزل، سقوط ناب من طابور الأسنان المصطف؟ يبدو أنه ثمن الحرية والمعرفة الوحيد الذي تعرفه، مثلما ضحى إيكاروس بحياته حتى يرى أكثر، تُقرر الفتاة أن تُضحي هي الأخرى بسنة من أسنانها، وقفت أمام المرآة مثلما وقف أودين أمام بئر المعرفة، وكما قدم أودين عينه حتى يعرف، قامت الفتاة في مشهدٍ عنيف، بتحطيم أسنانها حتى تعرف، إنها التضحية التي يبذُلها الآلهة وأبطال الأساطير على مر التاريخ، بعد هذا المشهد الدموي، تجري الفتاة إلى سيارة أبيها، وتفتح صندوقها وتغلق على نفسها.

اللغة بين آنا والأبناء

من مسلسل Anne With An E
من مسلسل Anne With An E

في مسلسل «Anne With An E» نجد الطفلة آنا التي تعيش ظروفًا صعبة وهي تحاول أن تُحسن حياتها عن طريق إعادة صياغة العالم من منظورها الخاص، كان يلزمُها في هذا بعض الحكمة والتأمل، ووفرة كبيرة من المصطلحات التي تصف بها العالم، بل نجد أن آنا هي الشخصية التي تعرف أكبر عدد من الكلمات في المسلسل، بسبب هذا بالذات كانت تجد عزاءها في أشياء بسيطة، وتخيلات شاطحة، ومشاعر بناها العقل على مهل، على العكس تمامًا نرى الأبناء في المنزل البعيد المنعزل، لا توجد وفرة في الكلمات ولا المصطلحات، وما يعرفه الأولاد هو ما يتوفر لهم فقط، وقد اختار لانثيموث الطريقة الصعبة لعرض هذه الفكرة، وذلك حينما شاهد الابن قطة في حديقة المنزل، هرع الابن إلى المنزل وعاد بمقص ضخم تُقلم به أغصان الأشجار الكبيرة، وهجم على القطة حتى شق بطنها، وسالت الأحشاء منها، وحينما اتصلت الأم بالأب لتخبره، قام بتمزيق ملابسه ووزع على ملابسه اللون الأحمر، وأخبر أبناءه أن الكائن المتوحش الذي ظهر في الحديقة اليوم يُسمى قطة، وهو ما هاجم الأب وفعل به هذا، بل نجد أن الأب كان يحكي لأولاده عن أخيهم الذي يعيش على الجانب الآخر من سور المنزل، وفي هذا اليوم يخبرهم الأب أن أخاهم مات بسبب مهاجمته من قبل قطة، إنها الطريقة التي يتعلم بها الإنسان على مر التاريخ، بل الطريقة الأولى التي يتعلم بها الإنسان في كتب علم النفس التطوري، يجد أن هناك ضررًا من كائن معين أو موت أحد أقاربه، فيبدأ بالبعد عن هذا الكائن والخوف منه.

هذه المعرفة المشوهة لا تتوقف عند القطة فقط، بل نجد أنه كلما مرت طائرة من فوق المنزل، ألقت الأم واحدة بلاستيكية في الحديقة، وهنا يهرول الأبناء إليها، حتى يلتقطوها، ومن يحصل على أعلى نقاط يختار كيف ستقضي العائلة ليلتها.

يمكن لأي شيء أن يكون مصدر تعلم أو مصدرًا للفضول، لذلك كان الأب يقوم بنزع أغلفة المنتجات قبل أن يوصلها للمنزل، فكانت المشروبات تصل للأولاد في زجاجات شفافة، والأطعمة في أطباق بيضاء.

من فيلم Dogtooth - إخراج يورغوس لانثيموس
من فيلم Dogtooth – إخراج يورغوس لانثيموس

البيت الكبير الذي يحتوينا جميعًا

مع مرور أحداث الفيلم تبدأ بعض المشاعر غير المريحة بالتسلل إلى داخلنا، من المحتجز في منزلٍ منعزل الأبناء، أم نحنُ من نشاهد الفيلم؟ من منا يأخذ مجموعة من الكلمات والمصطلحات، ويشرح له من حوله مفاهيم العالم وطرق سيره نحن أم الأبناء؟

كثير من الأشخاص الذين شاهدوا هذا الفيلم يرون أنه غير مُريح، بل وهناك من وصفوه بأنه مُقزز لكن هل يمكن اعتبار هذه الصفات مُحايدة لوصف فيلم على هذه الدرجة من العمق؟ الحقيقة أن الفيلم يُعرينا نحنُ لا الأسُرة التي نراها، بل نجد أن الأسرة بأكملها بلا أسماء، وفي كثير من المشاهد نراهم بلا رؤوس، حتى في كثير من المشاهد المُهمة، نرى أجسادًا تتحرك فقط، معظم مشاهد الفيلم باهتة مُشبعة بألوان بسيطة، كأنها حلم، أو فكرة تخطر لنا، كل هذه المحاولات من المخرج أراد بها تجريد الأفكار، فهو لا يتحدث عن أب وأم وأبناء، بل عن العائلات، والأديان والبشر والعالم.

حتى أكثر المشاهد التي لا نرتاح لها في الفيلم تتساقط الأسئلة من أغصانها، وأقصد هنا، نوم الأخ مع أخته، هل نتقزز من المشهد ولا نرتاح له لأن هذا الأمر مزروع في أرواحنا، هل خُلقنا ونحن ننبُذ مثل هذا الفعل؟ أم أننا تعلمنا أنه خطأ، وقبل أن تتسرع في الحكم على شيء، دعونا نعود إلى آدم الذي عُلِمَ أسماء الأشياء، ففي قصته نعرف أن الأخ كان ينام مع أخته، لكننا لا نستهجن الأمر كثيرًا لأنه لا يوجد خيار آخر. إذًا هل الخطأ خطأ لأنه هكذا في جوهره وفي المطلق، أم لأننا خرجنا من المرحلة السادسة من التدريب ونحنُ مقتنعون بذلك؟ أم أن كل شيء يختلف حسب المرحلة التاريخية التي نعيشها كما يخبرنا هيجل في نظرته للتاريخ، فهو يرى أننا لن نفهم عقلية الإنسان الذي عاش قبلنا، ولن نفهم الإنسان الذي سيعيش بعدنا، كُل مرحلة ولها قوانينها الخاصة، لها ما هو صحيح، وما هو خطأ، أو ليس هذا بعينه تدريبًا بطيئًا للمجتمعات حتى تتغير وتتطور، بدلًا من تجمعها على صحيح نعرفه جميعًا؟

إذا أردنا أن نرى السيناريوهات الأقرب للفيلم من حياتنا الطبيعية، فيُمكنُنا أن نراقب الحيوات التي يعيش فيها أصحابها ظروفًا مُتطرفة وصعبة، مثل الذي تعرض لصدمة كبيرة، أو الفتاة التي تعرضت للاغتصاب مراتٍ كثيرة على يد أحد أفراد عائلتها، أو لننظر إلى أحد الناجيين من الحرب، أو حتى إلى الجنود في مراكز التدريب العسكرية. الشيء المُشترك عند هؤلاء الأفراد هو رؤيتهم للعالم بشكلٍ مُختلف، والحكم عليه من نظارة التجربة التي لا يستطيعون خلعها بسهولة، إنه اليقين أو الإيديولوجيا أو الأصولية التي قد تحدد الإنسان وتجعله يعيش في بيتٍ ضيق وبأسوار داخل عالمٍ أرحب من ذلك بكثير، أو كما يسميها ألبير كامو انتحارًا فلسفيًا. لكن مهما تحاول السلطات المُختلفة السيطرة على من حولها، لنتذكر دائمًا أننا نندفع تلقائيًا نحو الحرية، وها نحنُ نرى الابنة الكُبرى بعد كل السلطة التي حاول الأب مُمارستها تجلس في حقيبة سيارته، التي وصلت أمام المصنع الذي يعمل فيه، دقائق وتنفتح السيارة، وتكتشف الفتاة العالم بشكلٍ أكثر رحابة ورحمة.