رأيت الرواية على الرف في إحدى المكتبات في وسط البلد في العاصمة عمّان، ترددت كثيراً في شرائها، عادة ما تُصيبني الكتب التاريخية بالملل، وما أن أقطع شوطاً في الكتاب حتى أتململ من متابعته، فكانت رواية «آلموت» مُنعطفاً في نوعية الكتب التي عادةً ما أقتنيها. لم أكن أدري أن هذا الكاتب «فلاديمير بارتول» القادم من سلوفينيا سيأخذني في رحلة إلى مصر وإيران غائصاً في تاريخ جماعة لم يسبق لي التعرف عليها إلا ذِكراً غير مُلم في بعض الروايات والكتب التي قرأتها.

الرواية التاريخية هي التي ترتكز على أحداث تاريخيّة دون التقيّد بها في محاولة لبناء نص روائي، يستطيع فيها الكاتب أن يصول ويجول في التاريخ باثاً الروح في شخصيات هذا التاريخ، مُعرضاً إيّاها لأحداث وتوترات لم تكن لتَرِد في كتب التاريخ السرديّة، يتبادل فيها الشخوص الحياة والخبرات، وقد يتفق للروائي أن يدمج قصصًا وأحداث تأخذ بُعداً رومانسياً أو تشويقياً، وفي حالة رواية آلموت تمتد إلى بُعد ديني طائفي ساد بلاد فارس والعرب إبّان الحُكم السلجوقي والعثماني، الأمر الذي جعل فلاديمير يوظف معرفته بأبعاد الروح البشرية – كونه كان مُهتماً في دراسة فرويد ونظرياته – بطلاقة، فيعرض فيها نظريته عن سيكولوجية الجماهير وفن استمالتها، ويضع ما يُشبه أوصافا لعبقرية القائد الديني والسياسي، ليخبرنا عن الحسن بن صباح مؤسس فرقة الحشاشين بما لم تستطع كتب التاريخ إخبارنا عنه.


سرد التاريخ روائيا

فيما سبق استعرضنا سويّة تعريفاً للرواية التاريخية، التي لن تتقيد بحرفية التاريخ، وسيبدأ فلاديمير القادم من مكانٍ ما قرب جبال الآلب الغوص في لُب التاريخ الإسلامي، حيث سيقصد (ابن طاهر) قلعة آلموت، منفذاً وصية والده بالذهاب إلى (الحسن بن صباح) نبي الدعوة الإسماعيلية، ليتلقى تعاليمها عله يثأر لجده الذي قتله الصدر الأعظم للإمبراطورية العثمانية بقطع رأسه، وسيرد الكلام الآتي على لسان أحد الدعاة الإسماعيلين في قلعة آلموت التي أعدّها الحسن بن صباح معقلاً لدعوته ولتجهيز الفدائيين من الشباب، وفيما يلي سنتناول كيف استطاع الكاتب دمج تاريخ الخلاف الطائفي الذي مزّق جسد الدولة الإسلامية على مر التاريخ، دامجاً نظرة الفكر الإسماعيلي لهذا الخلاف في بُنية روائية:

لتعلموا في المُحصّلة أن أبا بكر قد تُبع بخليفتين باطلين: عمر وعثمان، وعند موت هذا الأخير، فإن الشعب قد طالب بخلافة علي للنبي: لقد كان مُنتخباً، إنما بعد وقت قصير،فإن دمه انساح بسكين قاتل مأجور، تبعه في الخلافة ابنه الحسن إنما كان عليه أن يتنازل عنها إلى معاوية، طالب الشعب آنذاك بالحسين ثاني ولديّ فاطمة وعلي كي يجلس على عرش الخلافة والذي استشهد غيلة، مع كل من كان معه في وادي كربلاء، منذ ذلك الوقت صار على سلالة النبي أن تعيش في الجبال وفي الصحاري هروباً من الاضطهاد والمذابح ..، حقاً لا يستطيع أحد غير الله أن يطلع على الكتاب الذي كُتب فيه كل شيء عن مصائر الناس والذي هو بيده.. إنما من النُبل أن نبكي على الشهداء.

يضيق المجال هنا لإيراد المئات من المواضع التي تحدث فيه فلاديمير عن صلب الخلاف السياسي بين الصحابة الكرام من وجهة نظر شيعية، وإن تأملنا الواقع الذي يقول لنا أن فلاديمير الذي لا يمت للإسلام بصلة، لو أراد تأليف كتاب يتحدث فيه عن تاريخ هذه الطائفة، لما التفت أحدنا إليه، فالمكتبة الإسلامية لا ينقصها لا الكتب ولا المُجلدات التي تناولت هذه الأحداث من التراث الإسلامي، ولعل هذا الذي عرّج بفلاديمير نحو كتابة هذا النوع من الروايات متناولاً تاريخ أمة أبعد ما تكون عن حضارته وأمته، فكان الأدب هو المركِب الذي وصل جبال الألب بإيران والقاهرة، وسمح للكاتب بأن يُحدثنا عن الطائفة الإسماعيلية كما لو كان واحداً من معتنقيها.


سيكولوجية التنظيم والحزب

يتسع جوف الرواية أكثر فأكثر، ويصبح التاريخ أكثر تشويقاً لأنك الآن قد تعرّفت على الشخصيات وقابلتها، وتقلبت معها حتى دخلت قلعة آلموت معها، وتتلمذت على يد دُعاتها وخُضت آلامها أثناء التدريبات القاسية لإعداد الفدائيين، وبحكم الأثر الفرويدي على الكاتب، والاستعداد للحرب العالمية التي كان قِدرها يغلي على النار آنذاك، يدخل فلاديمير إلى قلب الفكر التنظيمي، الذي نشأت الحركة الإسماعيلية عليه، وتلاها بعد ذلك فرقة الحشّاشين وليدة الطائفة نفسها، ولوهلة يحسب القارئ نفسه بمعرض قراءة كتاب لرئيس حزب يشرح فيه لأتباعه ديدن التنظيم وآليات استدراج الأفراد إليه، فيرد على لسان (أبو علي) الذي أخذ يُدرب الفدائيين على قراءة نفسيات الناس واتباع الخطوات اللازمة التي تراعي الخصوصية الفردية لكل شخص يودون تنظيمه:

يجب على محاوركم أن يشعر بأنكم مثقفون وأصحاب خبرة، وأنكم مع ذلك تكنّون له تقديراً عالياً، باختصار، احرصوا قبل كل شيء أن تضعوه هو بشكل خاص على الطريق القويم، وهكذا وعندما ستكتسبون ثقته، ستنتقلون إلى المرحلة التالية من خطتكم. ستقرون بأنكم تنتسبون إلى جمعية أخوية دينية تهدف إلى إقامة العدالة، وإعلاء الحقيقة على الأرض بأسرها، وعلى تصفية حسابها مع الغاصبين الأجانب، جروه إلى مناقشات حامية، أثيروا فضوله، أظهروا أنفسكم على أنكم غامضون، قدموا التلمحيات والوعود، إلى أن تضعوه في حيرة تامة، طالبوا عندئذ بأن يقطع عهداً على الصمت.

مُجدداً ستعطي الرواية للكاتب حق الإضافة وإضفاء الخصوصية على مُجريات التاريخ، فبهذه التعاليم سوف تنشأ عليها فرقة الحشاشين التي شغلت المؤرخين عهداً طويلاً، ولا تزال الألغاز والأسئلة تحوم حول حقيقتهم، وهذا هو البناء السيكولوجي الذي سيرسم نفقاً طويلاً يسير خلف مجريات الرواية كلها حتى تنتهي.


في عبقرية القائد «الحسن بن صباح»

فلاديمير الذي قطع شوطاً مع القارئ في تعريفه على قلعة آلموت وأسرار طائفتها، سيجعل من شخصية الحسن بن صباح هاجساً لن يفارقه، بغموضه، وتقديس أتباعه له، وستمكنه الرواية مُجدداً من رسم صورة هذا الزعيم الروحي والديني في أذهاننا بحرص وعناية حتى نستطيع أن نقترب من الحالة الفكرية والذهنية التي تلبّست أتباعه، فيبدأ بوصف صورته قائلاً:

قامة متوسطة، أو لنقل ليست طويلة، رجل ذو بدانة مُعتدلة لا هزيل ولا سمين، أما وجهه: أنف رفيع مُستقيم، شفتان مُكتنزتان مُتسديرتان، وقد حافظ على صوته القوي، وعلى نهجه المُباشر، وعلى تلك اللهجة الإرادية الساخرة التي تنم عن خلفية تهكمية. أما الوجه فقد كان يتبدل تماماً، عندما كان يفكر. أما ابتسامته فكانت تغور، وقسماته تأخذ تعبيراً كئيباً وصارماً أو يبدو ساهماً وكأنه يسترسل في تأمل وجه لا نراه. وتجد هذا المظهر يوحي بذعر غير مُتعمد إلى أتباعه.

ينشأ ابن صباح على المذهب الشيعي مُتشبعاً بحب علي – رضي الله عنه – وغارقاً في مظلوميته، ويصحبنا فلاديمير معه بأسلوب ميلودرامي مليء بالشجون حول الأسئلة التي اختمرت في صدر الشاب عندما بلغ العشرين، فلم تعد المظلومية تكفيه، ولم يجد بالمذهب الإسماعيلي ما يروي ظمأه فيقرر فلايديمير على لسانه: «عدت إلى البيت ساخطاً عازماً ألا أشغل بالي بمجادلات الدين، بل على العكس قررت أن أبحث عن سعادتي عبر الطريق الأسهل منالاً على غرار غالبية معاصريّ».

عند النظر إلى مدى الفرق الذي أحدثته الحكاية على غرار النص التاريخي الجامد، هنا ستشعر أنك في محنة هذا الشاب معه، أصبحت متورطاً في أسئلته، وستأخذك الدهشة عندما يطفئ فلايديمر ضوء المسرح ويُسلط بقعة من الضوء على حسن بن صباح وهو يتحدث عن اللحظة الفارقة التي كانت أساساً لدعوته الإسماعيلية، حيث يلتقي بشخص يدعى أبا نجم سراج وهو داعية إسماعيلي، يُلقى على الشاب كلمات، سمحت بحبوحة الأدب لفلاديمير أن يوردها على خطورتها التاريخية والدينية دونما توجس، فيصدمه هذا الداعية بحقيقة مُرة عن الطائفة الإسماعيلية: «لتعلم أن أحداً لا يعلم الحقيقة، إذ نحن لا نؤمن بشيء .. وبإمكاننا أن نفعل أي شيء».

هنا يُدخلنا فلاديمير في مأزق تاريخي، فهذا الكلام قد تُقطع لأجله الرؤوس وتُهدر الدماء، إلّا أن إيرادها ضمن نص الرواية سوف يُبرر للكاتب أنها قد تكون إضافة من إضافاته التي يمتلك حقها ككاتب لنص مُتخيّل مُستوحًى من بعض الأحداث التاريخية، ويحذو فلاديمير هذا الحذو في تبيان وجهة نظره عن الأديان السماوية وتحديداً الإسلام ونبيه الكريم مُحمد – صلى الله عليه وسلم – وسوف يبدأ حسن بن الصباح منذ هذه اللحظة باستخدام الطوطم والدين في جمع الأتباع حوله ليُحقق إنتقامه الأعظم، الأمر الذي يُحيلنا إلى أمر تلك الصداقة التي نشأت بين الحسن بن الصباح والصدر الأعظم والشاعر العظيم عمر الخيام، وعلى قلة الإشارة لتلك الصداقة وتفاصيلها – على الرغم من أن كُتب التاريخ قد تشبعت بها – إلا أنها ستكون هي عُقدة الرواية، حيث سيُكرس الحسن بن صباح حياته في بناء الصرح الفدائي الذي سينشأ منه مقاتلون ينتقمون له من الصدر الأعظم الذي نكث عهد الصداقة ووشى به سوءاً عند السلطان عندما كان حسن يخدم في البلاط العثماني. هكذا تُعيد الرواية تشكيل التاريخ على ما يحلو لها، وتجعل من الأحداث الكُبرى صُغرى، والعكس صحيح، وتبدأ من نقطة النهاية لتعيد سرد المُسببات تِباعاً.

تحت وابل الحصى والشتائم .. وجدت أن من الأفطن أن أحاول توعية الخاصة من الأفراد، كثيرون منهم كانوا يصغون إليّ بانتباه، إنما عندما كنت أنتهي كانوا يجيبونني بأنه قد حصل لهم أنفسهم أن شكّوا، إنما بدا لهم أن من الحكمة أن يتمسكوا بشيء راسخ على أن يتسكعوا في ارتياب أبدي أو يدخلوا في رفض عقيم. ليس فقط حثالة الشعب، إنما العقول المستنيرة، كانت تفضل البدعة الملموسة على الحقيقة المتعذرة اللمس أو الإدارك.

هذه هي الحالة الفكرية التي كانت أساساً للأيديولوجية التي نَظّر لها ابن الصباح، والتي كانت ممهداً لخطته عن تكوين جماعة الحشاشين، الفدائيين الذين يختارهم من خيرة جنوده وتلاميذه ويخضعون لاختبارات عدا تجشمهم صحتهم وامتناعهم عن جميع أنواع الملذّات – الأمر الذي استطرد فلاديمير في وصفه وذكر كل تفاصيله – ثم يعطيهم الحبّات المنومة وينقلهم إلى فردوسه حتى إن عادوا منه كانوا طوع إرادته ومشيئته، فهو قد خلق لهم المُعجزة وأثبت وجودها أثناء تخديرهم:

بعبارة أخرى، أن يُعطى لهذه القلوب البسيطة والغرة انطباعٌ بأنها فردوس حقيقي. لن يكون هذا بالطبع في ساعات النهار، إنما في الليل لأن المشهد المُحيط سيكشف الخدعة فوراً، لذلك ستلزمنا بالدرجة الأولى

فيما سبق كانت الزاوية التي اختارها فلاديمير من قصة الحشاشين، واستطاع أن يبني من خلالها النص الروائي كاملاً، مما سيجعل القارئ الفضولي ينتحي جانباً ويبدأ بالتنقيب عن هذه الطائفة وعن شخصية الحسن بن صباح، بل ربما سيذهب ويقتني بعض الكتب التي تتحدث عن ذلك، وبهذا أعطت له هذه الرواية التاريخية فرصة رحبة ممتعة للتعرف على تاريخ قد يحلو له بعد ذلك أن يطلع عليه أكثر، ولعل أكبر فضول يحذوه لذلك هو المعرفة أكثر عن شخصية الرواية الأساسية، التي بثّ فيها فلاديمير شكوكه حول الأديان، وآراءه حول نبي الإسلام والقرآن، بل عبّر عن لا أدريته وجعل من الصباح شخصاً يحاول محاكاة الإله إلا أن يظل يشعر بوخز من الإيمان أنه هنالك من هو أكبر وأعظم وأقوى منه.


الرواية التاريخية كجسر عبور

إضاءة قوية جداً، كي تظهر منه كل جزئية تستلفت الانتباه، يجب أن تظهر فيه ضمن نوع من الضوء، ولا بدّ لكل ما تبقى أن يبقى غارقاً في عتمة لا يُبددها شيء.
إضاءة قوية جداً، كي تظهر منه كل جزئية تستلفت الانتباه، يجب أن تظهر فيه ضمن نوع من الضوء، ولا بدّ لكل ما تبقى أن يبقى غارقاً في عتمة لا يُبددها شيء.

الأمة الإسلامية والعربية بتاريخها الملحمي، المليء بالأحداث الغريبة التسارع، والتي اشتملت على شتى التجارب الإنسانية في الحُكم والحرب والسياسية والاجتهادات، تُشكل أرضاً خصبة للروائي المولع بالعودة إلى الماضي، وكم سيكون النص مُتناغماً أصيلاً عندما تنبع الرواية التاريخية من الأدب العربي نفسه، مضفيةً رساخة وثقة قد يفتقد لها غير العربي في تحدثه عن تاريخ أمتنا، وفي الواقع فإن تجربة فلاديمير معنا هنا هي تجربة تستحق التوقف مطولاً عندها، وربما محاولة دراستها، فرواية التاريخ لوحدها تُكلّفنا الكثير من المُراجعات، وأظن أنها ستكثر إذا ما رواها أجنبيّ عن حضارتنا، وفي تتبعي لمراجعات القُرّاء العرب للرواية وجدت أن جميعهم يشتركون في أنهم تعرضوا لموجة من الأسئلة الوجودية نتيجة للتصوّرات التي طرحها فلاديمير في تفسير ظاهرة الدين، وهذا ما جعلني أدرك أن الحدث التاريخي إن ضُمّن في حدث روائي، سيكون أكثر توحيداً للجوهر الإنساني، حيث سيمتد من الماضي حياً فيصبح أقرب للحاضر، وسيخرج عن إطار المُراجعات العلمية الدقيقة إلى رحاب الحكاية والعبر المُستفادة منها.

وفي إشكالية الدقة التي يجب أن يحتريها الكاتب في روايته التاريخية، أجدني أنحاز إلى أن الرواية هي مضمار الأديب الذي يُفترض بمن يفقه ولو قليلاً من الأدب أن يُدرك أنه حالما دخل هذا المضمار فهو داخل خيال المؤلف، وللخيال ضروب شتى لا يحصيها أحد ولا تُدرك بحدود، فإن كان يبحث عن المعلومة كما هي فتلكم كتب التاريخ أمامه تفيض بها المكتبات وأكثر، وإن كان يُحب امتطاء الريح وامتلاك الزمن وشهود الحدث كما وقع فليولِ وجهه شطر عالم الروايات التاريخية، ولربما يختار رواية «آلموت» كبداية.