امرأة تبلغ من العمر ثمانية وثمانين عاماً مشعثة الشعر أشيبة، تترجل من تاكسي برفقة عجوز آخر يحمل ثمرة خرشوف وحزمة من البصل، فاجئوها أنها حصلت على جائزة نوبل في الآداب فكان ردها «حسناً»، وعندما سألوها عن شعورها حيال ذلك وماذا تود أن تقول أخبرتهم وهي في طريقها لتدخل المنزل أنها ستفكر في الأمر، وعندما ألح عليها المراسل أن تعطيه تصريحاً قصيراً التفتت له وقالت «قل لي ماذا يجب أن أقوله وسأقوله».

تلك المرأة هي «دوريس ليسنج» الكاتبة البريطانية التي صرحت في نفس اللقاء السريع أمام بيتها أنها فازت بكل جائزة أدبية في أوروبا وأنها بالطبع سعيدة لحصولها عليهم جميعاً، تكلمت «ليسنج» بفظاظة تليق بشيخوختها وبتاريخ كبير من الكبرياء، الأمر الذي لم يبد مستغرباً جداً نظراً لمشوارها الأدبي.


اللعب مع النمر

استطاعت «ليسنج» أن تجد لنفسها مكاناً وسط العالم عن طريق الكتابة، كانت مناصرة للشيوعية رافضة سياسة للتمييز العرقي العنصري التي تمارسها أوروبا ضد الدول الأفريقية، اشتركت في أحزاب شيوعية، بل حاولت تكوين حزب شيوعي في شبابها، ولكنها تركت العمل السياسي مبكراً وركزت في تغيير العالم بطريقة أخرى، وكانت طريقتها الأخرى تلك هي الكتابة ولا شيء سواها.

كانت أعمال الروائية البريطانية تتسم بالطابع الذاتي في معظمها، فهي قد وضعت جزءاً من روحها وتاريخها الشخصي في كل رواية قامت بكتابتها، سكبت وجهات نظرها ومبادئها ومخاوفها أيضاً على الورق، فتخلصت من كل ما يمكن أن يثقل كاهلها وعاشت خفيفة، عاشت طويلاً حتى وافتها المنية في عام 2013، بعد أن صرحت أن حصولها على جائزة نوبل كان شيئاً كابوسياً لأنها تقضي وقتها في عمل لقاءات تليفزيونية والتقاط الصور.

آثرت «ليسنج» ألا تلعب مع النمر وعرفت مبكراً أن في لعبة السياسة خطورة قد تمنعها من تحقيق أهدافها وتوصيل صوتها للعالم، فكتبت. كانت بداياتها مع رواية «العشب يغني» التي حاربت فيها الأفكار الاستعمارية البريطانية ودعمت فيها أفكار المساواة عبر حكاية «ماري ترنر» السيدة البريطانية مع «موسى» الخادم.


الطفل الخامس

كان للروائية البريطانية ثلاثة أطفال، ولكنها كانت امرأة غير عادية، يمكنك أن تصفها بالقسوة أو بالعملية الزائدة عن الحد عندما تعرف أنها قررت أن تترك ابنيها من زواجها الأول لأبيهما، وأن تتولى مسئولية ابن واحد من زواجها الثاني – والذي انتهى بالطلاق أيضاً بالمناسبة – وقد صرحت أكثر من مرة أنها فعلت ذلك عن اقتناع وأنها لا تصلح أن تكون فقط أم، وأنها لو كانت فعلت ذلك لكان انتهى بها الأمر لتكون مدمنة كحول أو امرأة مكتئبة.

ربما حاولت أن تكفر عن تلك الخطيئة في روايتها «الطفل الخامس»، الرواية التي عرّت فيها «ليسنج» أقبح الغرائز الإنسانية وأقساها، عن امرأة تنجب طفلاً مختلفاً، مختل وعنيف، ترفضه الأم وتودعه إحدى دور الرعاية، ثم تتركه للحياة لتلتهمه.

في هذه الرواية ربما حاولت الروائية المحنكة أن تجلد نفسها، أن تعاقب الأم الجاحدة داخلها والتي تخلت عن طفلين أصحاء بأن تفضح أماً أخرى رسمتها في الرواية تتخلى عن طفل ضعيف يحتاج إليها أكثر ما كان أبنائها الأصحاء يحتاجونها، ربما كان هذا تطهيراً احتاجت إليه «ليسنج» كي تواصل مسيرتها بضمير خفيف، فكل الكراهية التي اجتاحت الأم في الرواية كانت موجهة للأم في الواقع وربما يكون هذا قد خفف عنها قليلاً، أقول ربما فلا شيء أكيد في عالم الكتابة الذي يختلط فيه الواقع والخيال.


إن العجوز استطاعت

كما قلنا من قبل فإن «ليسنج» كانت تكتب رواياتها بطابع الذاتية إلى حد ما، وقد كان ذلك هو ما أثرى تاريخها الأدبي كل هذا الثراء الذي أهلها لأن تحصل على أرفع جائزة تقديرية في العالم، فجائزة «نوبل» هي أقصى ما يمكن أن يطمح إليه المرء في أي مجال، ولكنها كانت عجوزاً عنيدة تضيق بالأضواء والإزعاج، حتى لو كان بسبب «نوبل» شخصياً.

كتبت «ليسنج» روايتها المكونة من جزئين هما؛ «مذكرات جارة طيبة»، و«إن العجوز استطاعت»، لتؤرخ لنفسها وتكتب سيرتها الذاتية جداً التي لن يقدر أحد المؤرخين أن يسردها وحده، لأنها كانت تغترف من قلبها لتسكب الكلام مباشرة على الورق، كان الجزء الأول «مذكرات جارة طيبة» يحمل عنواناً فرعياً هو «مذكرات جين سومرز» ويجب أن نذكر هنا أن «جين سومرز» هو الاسم المستعار الذي كانت تستخدمه «دوريس ليسنج» في بداياتها، هكذا كان هناك خطين متوازيين يحكيان الرواية، «جين سومرز» الكاتبة ومحررة المجلات الأنيقة الأنانية، و«مودي فاولر» جارتها العجوز، التي يمكننا أن نعتبرها «دوريس ليسنج» التي لم تكن موجودة وقتها.

هنا أيضاً نشير للذاتية التي أثرت مشوار «ليسنج» فهي أرخت لنفسها في شخصية «جين سومرز» في شبابها، نفس الاندفاع والرغبة في الحياة والطيبة المغلفة بأنانية مطلقة، بل استطاعت أن تؤرخ لما لم يكن حدث بعد في شخصية «مودي فاولر» العجوز العنيدة الواهنة المعتدة بنفسها، التي رأينا منها لمحة بسيطة عندما تحدثت بعصبية عن حصولها على الجائزة.

كانت صاحبة «نوبل» تعرف نفسها جيداً، تعرف أنها لا تصلح للعمل السياسي ولا تستطيع أن تحقق فيه ما تريده فتركته، تعرف أنها لا تصلح أماً جيدة فآثرت أن تترك ولديها بدلاً من الاحتفاظ بهم وتعذيبهم بفكرة أنها تخلت عن كل شيء لأجلهم، كانت تعرف أنها كاتبة جيدة جداً فأصدرت أكثر من خمسين عملاً، وكانت تعرف أنها سوف تكون عجوزاً عنيدة شديدة المراس فخلقت «مودي فاولر» على الورق، والأهم أنها كانت تعرف أنها يجب أن تحصل على «نوبل» في الآداب فكانت متعجلة لتدخل بيتها لتطهو الخرشوف الذي جلبته من السوق.