يعتبر نور الشريف إحدى العلامات الهامة في تاريخ السينما المصرية، حيث قدم أكثر من 240 عملًا ما بين السينما، والدراما، والمسرح، تنوعت أدواره بين أدوار بطولة مطلقة ومشاركة مع آخرين أو أدوار ثانوية في بداية رحلته الفنية. وقدم أفلامًا ستظل من علامات السينما المصرية مثل «العار» و«المصير» و«سواق الأتوبيس» و«البحث عن سيد مرزوق».

عادة لا يكون الانتقال لنوع مختلف من الفن أو الدراما سلسً للممثلين الذين تألقوا في تقديم أحد أنواع الفنون. ودائمًا يقعون في فخ عدم القدرة على تقديم شيء بنفس أهمية ما قدموه سابقاً. ولكن نور الشريف استطاع تحقيق تلك النقلة من السينما للمسلسلات، بل وقدم العديد من المسلسلات التي ستظل من أبرز علامات الدراما المصرية، ومن أكثرهم قربًا لقلب الجمهور.

وبذكر القرب لقلب الجمهور، نجد أن مسلسلات نور الشريف تنتمي أكثريتها للدراما العائلية. التي قدمها بأشكال وتيم مختلفة، أشهرها على الإطلاق الثلاثية التي يمكن أن نطلق عليها ثلاثية الصعود؛ «لن أعيش في جلباب أبي»، و«عائلة الحج متولي»، و«العطار والسبع بنات». وتتبع هذه الثلاثية تيمات متشابهة إلى حد كبير رغم اختلافهم في الجودة.

في هذا التقرير نقدم أسباب تميز الثلاثية التي جعلتها تستحوز على قلب الجمهور رغم اختلاف الفئات العمرية.


رحلة الصعود

تبدأ ثلاثية نور الشريف برحلة صعود البطل، وتحوله من حالة الفقر لحالة امتلاك الثروة. رغم أن هذه المرحلة لا تكون الأهم عادة في الثلاثية، حيث يكون التركيز الرئيسي للثلاثية على دراما ما بعد تراكم الثورة والمشاكل العائلية والعملية التي يواجهها البطل. ولكن تفيد مرحلة الصعود في رسم شخصية البطل والشخصيات المحيطة بصورة جذابة. فالمشاهد يكون متوحدًا مع البطل ومتفهمًا دوافعه في اختياراته المستقبلية التي قد تظهر لا أخلاقية لو لم نر رحلة الصعود.

في لن أعيش في جلباب أبي نرى رحلة صعود «عبد الغفور البرعي» الشاب الفقير المعدم ولكنه لا يخلو من الطموح. يجمع القرش على القرش ولا يرتدي سوى جلبابه الممزق. ولكنه يصعد تدريجياً ويساعده الحج «سردينا». إلى أن ينجح في تجميع الثروة ويصبح أهم تاجر خردة ويتحول من «الصبي عبد الغفور»، إلى «المعلم عبد الغفور». هذه المرحلة ترسم للمشاهد تكون شخصية عبد الغفور المادية الجافة، وتجعل المشاهد ينحاز لتلك الشخصية واختياراته القاسية مع أولاده والعاملين معه.

نفس الأمر يتكرر مع «متولي» الذراع اليمنى لـ«الحاج سلامة» تاجر الأقمشة الأكبر. متولي لا يتزوج رغم كبره في السن لأنه لم يحقق طموحاته بعد. ترسم المرحلة الأولى رحلة صعود متولي بعد وفاة الحاج سلامة وقدرته على صنع استثماراته الخاصة باستغلال خبرته المتراكمة. نفس المرحلة ترسم لك أسباب اندفاع متولي ناحية الزواج أكثر من مرة، فهو ظل متأخرًا في الزواج رغم شدة اشتياقه ولكنه أراد تحقيق نفسه أولًا.

وفي مسلسل «العطار والسبع بنات» نرى «صالح»، الشاب الذي ولد منبوذًا، فهو ابن الخادمة. والتي أمرت زوجة أبيه الأولى بإخراجه من التعليم وعمله صبيًا لوالده في محل العطارة. ولكن صالح بذكائه وتشجيع والدته المخلصة، يتعلم المهنة وكل أسرارها، ويحول مشاعر النبذ لقصة نجاح تجعله الوريث الأنسب لتجارة والده.


التحيز للبطل

يمكن وصف الدراما العائلية التي قدمها نور الشريف أو غيره بأنها دراما محافظة، أي تنحاز لاختيارات البطل وترفض التمرد عليه. في «لن أعيش في جلباب أبي» أغفل المسلسل الأسباب المنطقية لجفاء «عبد الوهاب» ناحية والده عبد الغفور. رغم عرض المسلسل لما تعرض له عبد الوهاب من صعوبات دراسية ومادية مقارنة بأصحابه نتيجة قسوة أبيه، لم يترك المسلسل مساحة للمشاهدين للتفكير في هذا الصراع بين الأب والابن، بل انحازت القصة لفكرة طيش عبد الوهاب وعدم فهمه لحكمة أبيه الذي يريده قويًا ويعتمد عليه في إدارة الأموال. عكس الرواية الأصلية التي حملت نفس الاسم وكتبها «إحسان عبد القدوس»، حيث تحيزت لأفكار عبد الوهاب مع عدم إغفال منطق أبيه المتماسك.

كما برر المسلسل قسوة عبد الغفور المادية واهتمامه بتكديس الثروة دون تحسين الحالة المادية لمن حوله. مساعدا عبد الغفور الأهم لم تتحسن حالتهما المادية. لأنه يرى أنه منصف في أجوره، ومن الظلم إعطاؤهم أكثر من حقهم. كل هذه الأفعال صورها المسلسل على أنها الأصول والحق.

في «عائلة الحاج متولي» يقوم متولي بالزواج من ثلاث سيدات. ولا يحاول المسلسل تصوير معاناة زوجته الأولى، بالإضافة لتحايله على زوجاته وتقديمه لأسباب غير حقيقه لزواجه التالي لكي يقنعهن. بالإضافة لأنه يختارهم بما يناسب مصلحته العملية. نعم هو ينجذب لهم ثم يحبهم بعد الزواج ولكن العامل الأول والرئيسي لاختيارهم للزواج هو المصلحة. يتجاهل المسلسل كل ذلك ولا يصف متولي غير أنه رجل ذكي وطموح وناجح ومحب ومخلص لزوجاته وأولاده.

كما يقوم بمنع ابنه الأكبر من استكمال تعليمه لكي يعمل معه، ويحرمه من الزواج بحبيبته لكي يتزوج كما يريد متولي ويحقق مصلحته، وفي النهاية يستسلم الابن لرغبات أبيه. وكما حدث في لن أعيش في جلباب أبي، يكتشف الابن مع مرور الوقت صحة وجهة نظر والده ولا يكون له سوى مشاعر الاحترام والتقدير، رغم كل ما فعله فيه. فأفعال الحج متولي كافية لعمل أكثر من مسلسل عن شره وأنانيته. ولكن للدراما العائلية وجهة نظر أخرى دائمًا.


دراما البساطة

وبعيدًا عن الجانب الأخلاقي، تعتمد سيناريوهات الثلاثية على البساطة سواء في رسم الشخصيات أو الصراعات. فدائمًا هناك البطل وعائلته وفي مقابلهم الحاقدين الذين يدبرون المكائد. ويواجه البطل تلك المكائد بذكاء. فيواجه صالح في العطار والسبع بنات مكائد «سيف» أخيه غير الشقيق.

فسيف يرى صالح أقل منه ويشكك في مكانته، ويسلط ابنه على بنت صالح ليقوم بخداعها وتزوجها، ثم الاستفاده من أموال أبيها الطائلة. يعيش صالح حياة زوجية طيبة وتحبه بناته. على عكس سيف الذي يعيش حياة زوجية غير مستقرة، أما أولاده فيصبحون غير صالحين.

وفي «لن أعيش في جلباب أبي» يقاوم عبد الغفور المكائد التي يدبرها التجار المنافسون، ثم مكائد ابن الوزير السابق الذي تزوج ابنته لاستغلاله. بالإضافة لتعامله مع ابنه وبناته ومحاولة توجيههم للطريق الصحيح. ولا يختلف الأمر كثيرًا في «عائلة الحاج متولي».

وفي الثلاثة مسلسلات تتواجد المرأة المحبة المخلصة التي تقدم كل شيء. تغضب أحيانًا وتحن أحيانًا، تدافع عن أولادها أمام زوجها والعكس. باستثناء مسلسل «عائلة الحاج متولى» الذي اختلف في وجود ثلاث زوجات ولكن تنطبق عليهن الصفات السابقة.

كما تعتمد الثلاثية على كوميديا الموقف المحببة للجمهور. فجميع أحداث المسلسل رغم جديتها تحفل بالمواقف الكوميدية التي ظل الكثير منها باقيًا في ذاكرة الأجيال المختلفة. وما زالت حوارات وردود فعل شخصيات مسلسل «لن أعيش في جلباب أبي» تستخدم في صفحات الصور الساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي.

رحل نور الشريف وترك إرثًا هامًا ومؤثرًا. ومن بعده تأخرت الدراما العائلية جدًا وأصبحت مسلسلاتها ركيكة ومبتذلة. فيحاول «مصطفى شعبان» وآخرون استنساخ الأشكال التي اتبعها نور الشريف، ولكنه لم ينجح في تقديم شيء قريب. بل أصبحت مسلسلاته مركزة على العلاقات الزوجية وشهوة البطل الجنسية بشكل رئيسي. وتظل هذه الدراما هامة لفئات كبيرة من المشاهدين المصريين والعرب.