شهدت الساحة الفنية للدراما العربية بزوغًا قويًا للدراما السورية والذي نجح في فرض نفسه على المشاهد العربي ما بين عامي 2004 و 2011؛ الأمر الذي أدى إلى منافسة الدراما السورية لتلفزيونات عربية مخضرمة لها باع طويل، وأصبحت الدراما السورية واقعًا فنيًا لا يمكن إنكاره ولا غنى عنه، إذ توالت المقارنات بينها وبين الدراما العربية بشكل عام ولا سيما الدراما المصرية بتاريخها الطويل والمعهود.

وسواء كانت المقارنة تصب في صالح السوريين أو المصريين فإنه ثمة حقيقة لا يمكن إنكارها مفادها أن مجرد اللغط والجدل الدائر آنذاك بشأن تفوق أيهما يشير بجدارة إلى صعود ملحوظ للدراما السورية على كافة مستويات صناعة الفن: من تصوير لتمثيل لكتابة لإخراج؛ الأمر الذي أدى لزيادة الانتشار الجغرافي والفني للأبطال السورييين في الأعمال العربية كـ«تيم الحسن» و«جمال سليمان» و«أيمن زيدان» و«باسم ياخور» وغيرهم كثيرون، بل وظهورهم واشتراكهم بأدوار رئيسية في الدراما العربية والمصرية على وجه الخصوص. بالإضافة إلى المخرجين السوريين كـ«حاتم علي» مخرج مسلسل «الملك فاروق» في 2007 ثم توالى المخرجون السوريون على الدراما المصرية أمثال «محمد عزيزية» و«رشا شربتجي» و«محمد زهير رجب» و«أحمد الخليلي» وغيرهم.

ويمكن القول إن الدراما السورية تميزت بعدة مميزات على رأسها الانخفاض الملحوظ في تكاليف الإنتاج سواء على مستوى الأجور أو الممثلين أو أدوات الإنتاج. كذلك أعادت للأعمال التاريخية بريقها المفقود من خلال أعمال هامة كـ«ربيع قرطبة» و«ملوك الطوائف» و«التغريبة الفلسطينية» وغيرهم كثير، فضلاً عن الاعتماد على أسلوب الكاميرا الواحدة في التصوير كبديل للأسلوب التقليدي الذي كان سائدًا ومتبعًا منذ عقود في الدراما المصرية.


الدراما السورية في ظل الحرب

حاتم علي
المخرج السوري «حاتم علي»

على الرغم من هذا النجاح الكبير للدراما السورية وانتشارها إلى آفاق إقليمية من الخليج إلى المحيط، إلا أن ربيع الدراما السورية لم يستمر طويلًا بسبب أهوال الثورة السورية التي ما لبثت أن استحالت لحرب أهلية طاحنة. فعلى مدار السنوات الخمس الأخيرة تأثرت صناعة الدراما في سورية بشكل جلي أدى إلى تراجعها على كل الأصعدة.

فقد تعرض للوفاة كثير من النجوم والفنانين جراء القصف أو القتل العشوائي منهم على سبيل المثال «فهد نجار»، «حسن دكاك»، «محمد رافع»، و«فيق الزعيم»، «ياسين بقوش»، «سوزي سلمان» وغيرهم. كما شهدت الساحة الفنية نفسها خلافًا حادًا بين الفنانين من حيث موقفهم نفسه من كافة الأطراف المتحاربة في سورية، فضلا عن الهجرة الجماعية للفنانين على مستوى التمثيل -الأوفر حظًا بطبيعة الحال- والإخراج وبقية العناصر الفنية؛ هربًا من الظروف غير الإنسانية وخوفًا من الملاحقات الأمنية من كافة الأطراف المتحاربة. فقد سعى العديد من الممثلين للاشتراك في أعمال خارج القطر السوري كـ«باسل الخياط» و«باسم ياخور» و«سامر المصري» والأخوين المخرجين «بسام ومؤمن الملا» والأبرز «جمال سليمان» و«تيم حسن» والمخرج «حاتم علي» الذي كان أحد الأركان الأساسية في النهضة الدرامية السورية.


الدراما السورية في السباق الرمضاني

تدخل الدراما السورية شهر رمضان برصيد ثلاثين مسلسلًا وهو أعلى معدل تشهده الدراما السورية في الموسم الرمضاني منذ 2011، مقارنة بسبعة عشر عملًا في رمضان الماضي 2015؛ الأمر الذي يُشير إلى تحسن ملحوظ في العملية الإنتاجية لا سيما في ضوء القصف والعمليات الأمنية والتوترات التي تشهدها البلاد؛ الأمر الذي انعكس جليًا في زيادة كم الصعوبات التي تواجهها الصناعة. فعلى سبيل المثال، توقف تصوير مسلسل «خاتون» أكثر من مرة بسبب العمليات العسكرية والقصف الجوي لمواقع بالقرب من أماكن التصوير في «يعفور» بمدينة دمشق.

وعلى الرغم من الأهمية النسبية التي يعكسها المعيار الكمي في الإنتاج كمؤشر هام على بداية تعافي الدراما السورية، إلا أن هناك مجموعة من المؤشرات التي لا يُمكن إغفالها في هذا السياق: منها غلبة الأعمال ذات الطابع الاجتماعي، فجاءت في المرتبة الأولى برصيد اثني عشر عملًا يغلب عليهم الطابع الاجتماعي والعائلي كمسلسل «الندم» تأليف «حسن سامي» وإخراج «الليث حجو»، ومسلسل «أيام لا تنسى» الذي قام بإخراجه الفنان السوري «أيمن زيدان» من بطولة مجموعة من النجوم السوريين على رأسهم «سوزان نجم الدين»، وكذلك مسلسل «أحمر» للفنانة «سُلاف فواخرجي» والذي يتناول صحفية تعمل على كشف الفساد القضائي، وأيضًا مسلسل «زوال» الذي يتناول حياة الأكراد.

ومن هذه المؤشرات أيضًا استمرار الأعمال الكوميدية والخفيفة مثل «نحن لها» و «فارس وخمس عوانس» و«الطواريد» و«بقعة ضوء 12» وغيرها، كما شهدت الخريطة الرمضانية لهذا العام انحسارًا للأعمال ذات البُعد الشامي فلا نكاد نجد سوى خمسة أعمال هي «عطر الشام» والذي يدور أيضًا في سياق تاريخي في عشرينيات القرن الماضي والاحتلال والفرنسي، ومسلسل «صدر الباز» والذي يدور في سياق اجتماعي تاريخي في القرن الـ19، كذلك العمل الأشهر «باب الحارة الجزء 8» والذي شهد موجة عارمة على مواقع التواصل من الاعتراض بسبب رسائل التلقين المعدة بمباركة النظام.

ومن المؤشرات الجديرة بالذكر أيضًا، استمرار خلو الدراما السورية من الأعمال التاريخية والتي كانت أحد أهم الأعمدة المميزة للدراما السورية في سنوات ما قبل الحرب كـ«صقر قريش» و«ربيع قرطبة» وغيرهما كثير. ويمكن القول إن غياب الأعمال التاريخية هو شيء منطقي في ظل الظروف الحالية التي لم تتعاف منها الدراما السورية والتي قد تتعارض مع متطلبات العمل الدرامي التاريخي من ارتفاع في تكاليف الإنتاج والتصميمات، فضلاً عن النص المُحكم تاريخيًا والكم الكبير الذي يتطلبه من الممثلين والكومبارس.


مستقبل الدراما السورية

الأعمال الاجتماعية والكوميدية تغلب علي الدراما السورية بهذا الموسم الرمضاني، علي حساب الأعمال التاريخية

يُعتبر الفن أحد المقومات الأساسية في صياغة الوعي والثقافة لا سيما في البيئات العربية، ويعتبر الفن أحد الأدوات الأساسية لصرف الانتباه عن قضايا معينة أو التركيز على موضوعات بعينها، ولا يمكن أن نغفل عن هذا التأثير على بنية النظام السوري الذي يحرص على الاعتماد على الحياة الفنية كأحد آليات المواجهة والسيطرة على الوعي والتأثير.

ولا يخفى حرص النظام السوري على صناعة الدراما؛ الأمر الذي كان دافعًا لإصدار قرارات بالإعفاء الجمركي والضريبي بنسبة 50 % على الأعمال الفنية التي تتم في سورية سواء من القطاع الخاص أو العام. وفي ظل سيطرة النظام على الأوضاع الفنية سواء بمباشرة الإنتاج أو بالإشراف عليه بشكل رئيس، فلم يكن من المستغرب أن تخلوَ الأعمال السورية من مناقشة الأوضاع الحالية بشكل عام.

وفي هذا السياق تدخل شركات الإنتاج الحكومية برصيد ثلاثة أعمال في رمضان هي «لست جارية» و«زوال» و«بلا غمد» والتي لم تخلُ من تلقين واضح ورسائل سياسية صريحة للمشاهد بضرورة الوقوف ضد الأعمال التخريبية والالتفاف حول قيمة الوطن. ولم تخرج كذلك بقية الأعمال السورية عن نفس التيمة التي تحذر من تبعات الأزمات المتلاحقة ونتائج التهور والانهيار الذي باتت تشهده البلاد نتيجة للإرهاب، كما لم تسلم أعمال كبيرة من السقوط في فخ التحيز منها أعمال بحجم «باب الحارة» في جزئه السابع والذي لاقى حملة اعتراضات واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي في ظل رسائل التلقين المباشرة التي كانت تحملها حلقاته.

كما سبق وذكرنا أن الدراما السورية تشهد حاليًا انتعاشة نوعية إذا ما قورنت بالمواسم السابقة منذ 2011، وهو ما يعطي بارقة أمل في الأعوام المُقبلة نحو نمو مطّرد في حجم وكفاءة الأعمال لتصل الدراما السورية إلى مرتبتها المعتادة قبل سنوات الأزمة.

لا يزال النظام السوري يستخدم الدراما كأداة لتوجيه رسائل سياسية صريحة للجمهور.

إلا أن هناك بعض العوامل، والتي تمثل تحديات حقيقية، يأتي على رأسها أزمة الفنانين أنفسهم مع النقابة. فقد شهد عام 2015 فصل أكثر من 190 فنانًا في سابقة لم تحدث من قبل في تاريخ نقابة الفنانين السوريين؛ مما جعل النقيب السابق «أسعد فضة» يطالب بضرورة إيجاد صيغة توافقية بين هؤلاء الفنانين وبين النقابة. غير أن موقف النقابة يبدو واضحًا تمامًا من خلال تصريحات نقيبها الحالي «زهير رمضان» التي وجهها داعيًا الفنانين السوريين بالخارج باستثناء كل من ساهم في دعم المعارضة السورية وساهم في سفك الدماء ودعا للتدخل العسكري. وفي سؤاله في برنامج تلفزيوني مع الإعلامي «باسم محرز» قال: «لا يشرفني أن يكون زميلي في نقابة الفنانين، وكل من يخرج عن قوانينها سيفصل بالأدلة والبراهين التي تثبت تحريضه على سوريا»، وذلك تعقيبًا على سؤاله عن كل من «مكسيم خليل» و«جمال سليمان» لما هو معروف عنهما من تأييدهما للمعارضة السورية.

البعض يُراهن حاليًا على انتعاش الفن والدراما السورية من خلال المقومات الحالية والأعمال القائمة والفنانين الموجودين داخل سورية على غرار السينما الفلسطينية أو الايرانية والتي تشهد ظروفًا عصيبة؛ الأولى بسبب الاحتلال، والثانية بسبب التضييقات الأمنية المستمرة. بيد أن هذا الوضع قد لا ينطبق على الدراما السورية بشكل عام؛ نظرٌا لتجريف البنية الأساسية للدراما السورية والمتمثلة في نزوح كثير من صُناع الدراما نفسها من ممثلين ومصورين ومخرجين، فضلاً عن فقدان الدراما السورية لأحد أهم تيماتها وهي الدراما التاريخية والتي تحتاج لأجواء إنتاجية وتكاليف يصعب على شركات الإنتاج تدبيرها في الوضع الراهن، بالإضافة إلى التوجيه والتلقين الدائمين والقبضة السياسية والأمنية المُحكمة على الفن.

وبناءً عليه فلن يكون من المنطقي الحديث عن نهضة الدراما السورية بالشكل الذي عهدناه من قبل في ظل التسييس الدائم للأوضاع الفنية والتدخل العام للسلطات الحكومية في الصناعة، علمًا بأن الأخيرة تعتمد جديًا على الفن كأحد آليات السيطرة الثقافية وإحكام إبقاء الوضع دون تسوية نهائية.

ومن ثم فإن السيناريو الأقرب للدراما السورية هو بقاء الوضع على ما هو عليه من حدوث تحسن نسبي في المؤشرات الكمية للإنتاج، ولكن دون المساس بالفترة الراهنة أو بتفاصيل الصراع وأسبابه إلا إذا كانت من وجهة النظر الحكومية. ويعد السيناريو الأقرب هو تناول الأوضاع المجتمعية السورية والتاريخية من خلال الفنانين السوريين والكُتاب السوريين ولكن من خارج القطر السوري نفسه وتصديرها كدراما موازية للدراما السورية الحالية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.