لا يزال فن السيرة الأدبية يعد بالمزيد، ولا يزال كتابه قادرين على أن يكشفوا من خلاله ويستكشفوا به عوالم أخرى في الكتابة وتقديم مساحاتٍ جديدة في سبيل التعريف بالكتّاب والأدباء -لاسيما الراحلين منهم- بطريقةٍ شيقة.

في تجربةٍ جديدة يقتحم الناقد الدكتور «شاكر عبد الحميد» عالم السيرة الأدبية ليقدم في كتابة الجديد «الحلم والكيمياء والكتابة» عالم الشاعر الراحل الكبير «محمد عفيفي مطر»، تلك التجربة التي جعلته يعكف على كل إنتاج الشاعر سواء كان دواوين شعرية (بلغت 27 ديوانًا)، أو سيرته الذاتية التي كتبها «أوائل زيارات الدهشة»، أو ما جمعه من مقالاتٍ متفرقة له أو حوارات في الصحافة، وكذلك ما حكاه عنه عدد من الأصدقاء المعاصرين، حتى خرج لنا بكتابٍ جديد على إنتاجه الخاص في الكتابة، كما يعرفه قراؤه، حيث تعودنا منه على كتابات في النظريات الجمالية أو التحليل النفسي لعددٍ من الظواهر الأدبية والجمالية.

ولكنه يصهر خبراته العلمية والأكاديمية كلها هذه المرة، ليقدم لنا سيرة أدبية تشمل التحليل النفسي والفلسفي والجمالي لسيرة الشاعر الكبير، وقراءة وافيةً لأعماله وعرضًا لأهم محطات حياته، وذلك من خلالٍ أبوابٍ سبعة، أخذ فكرتها د.شاكر -كما يشير في مقدمة كتابه- من رواية «باب الليل» للروائي «وحيد الطويلة». تلك الأبواب التي جعلها مداخل متنوعة لعالم الشاعر «محمد عفيفي مطر» والتي بدأت عند النشأة «باب الكدح النبيل»، ثم «باب الصمت، الرعب، الأشباح، الأحلام، الكيمياء، وأخيرًا باب الكتابة»

كانت هناك حكايةٌ تُروى، وكان هناك عقلٌ يلتقط جوهرها ويتحرك دينامكيًا، ينشط وتتدفق بداخله الأخيلة والصور، وفي الحالتين كان هناك نوعٌ من التوحد أو التماهي مع الحكاية ومع راويها، ومع أبطالها، ونوعٌ كذلك من التوقع لأن تتحول الحكاية إلى حقيقة، هكذا فإنه ومثلما كان مطر يتوقع أن يرى وجه الفتاة «تتر» الجميل يلوح له من وراء غبشة التراب والدخان كلما دخل بيت جده أو مر به، فكذلك فإنه بعد ذلك كلما رأى طائرًا يحوم في الهواء كان ينظر بين مخالبه، لعله يرى عقدًا لعاشقٍ ما، وفي الحالتين لم يكن هناك انفصال أو مسافة بين عوالم الواقع وعوالم الخيال..

يشير «شاكر عبد الحميد» في مقدمة الكتاب أيضًا إلى أن أصل الكتاب كان دراسةً عن ديوان عفيفي مطر «أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت» عام 1987 حينما أعجب الشاعر بتلك الدراسة وأثنى على صاحبها، وقال له «كنت أقرأ وأقول لنفسي هل كان يجلس معي وأنا أكتب هذا الديوان؟» واعتبر ذلك شهادة تقدير ومحفّز كبير لمواصلة قراءة عالم الشاعر واستكشافه، وهو ما تم فعلاً بعدها بثلاثين عامًا.

ورغم أنه يتناول الشاعر وكتابته وكلماته ولكنه لا يبدأ بباب الكلام، ولكن «باب الصمت»، إذ إن للصمت دلالة كبرى وأهمية خاصة عند الشعراء بشكلٍ عام وعند «عفيفي مطر» بشكلٍ خاص، ذلك الصمت في الشعر قد يكون مدخلاً للتأمل والتخيل والأحلام، ومساحة أخرى للتعبير عن «المسكوت عنه» وفتح مجال الرؤية أمام القارئ لاستكشاف الدلالات المختلفة، وهو أمرٌ حرص عليه «عفيفي مطر» وعبّر عنه أكثر من مرة في دواوينه وقصائده، على نحو ما يرصد «د.شاكر عبد الحميد» في تحليل عددٍ من قصائد ديوان «النهر يلبس الأقنعة» وديوان «شهادة البكاء في زمن الضحك» وغيرهما، واللافت للنظر أن ذلك التحليل لا يتوقف عند نصٍ واحد أو ديوان، بل هو محمّلٌ برؤية الشاعر كلها وأفكاره وتصوراته عن الشعر والحياة، تلك التي يقدمها «د.شاكر عبد الحميد» للقارئ في هذا الكتاب بكل وضوح.

لغة الشاعر هنا هي حياته، وحياته موجودةٌ في لغته، واللغة بيت العالم كما كان هيدجر يقول، وهنا لغةٌ تجسِّد أيضًا أحلام الشاعر وطموحاته ورغباته ومعاناته، لغته هي أغنيته هي تجاربه في الحب والحلم والحياة، ولذلك فإنه أحيانًا يردد مقاطع من لغةٍ حُبلى لكنها أحيانًا ما تهجره فتغادر «يمامة الحروف»، تحترق لديه كلمات الطبيعة، فيطعمه الصمت «خبر الفجيعة»، بل قد يتحول الصمت في حنجرته أحيانًا إلى «قصيدةٍ داميةٍ عميقة»، وقد تتجمد على شفتيه التنهدات والزفرات «تتجمد في صمت الأشياء» قد تكون اللغة لدى الذات المتكلمة في القصائد حدائق وفراديس، كما قد تكون صحراء وكوابيس، هكذا ترى هذه الذات «النفري» أحيانًا وهو «مشرَّد في لغة الخطباء يولول في وحشة السحر، يصرخ في صحراء الكلام”لكنها تراه أيضًا يكسر “قفل الينابيع، يدخل في مدن الحاكمين..» (من ديوان النهر يلبس الأقنعة)

ينتقل عبد الحميد بعد ذلك بالكاتب إلى مرحلةٍ أخرى من مراحل حياة محمد عفيفي مطر، مرحلة شديدة التأثير والخصوصية في حياته، بعد أن أصبح شاعرًا معروفًا ومعارضًا سياسيًا له آراؤه الخاصة التي لا تروق لنظام الحكم بطبيعة الحال، يتناول في «باب الرعب» علاقة الكاتب بكل مفردات القهر والظلم والموت والنهاية، وكيف عبّر الشاعر عنها في قصائده، وكيف مثلت هاجسًا أساسيًا أمامه، تم بلورته وتكثيفه والتعبير عنه بقوة بعد محنة السجن والاعتقال التي تعرض لها عام 1991 في أعقاب الاعتراض الشعبي على غزو العراق، والتي خرج بعدها بديوانه الشهير «احتفالات المومياء المتوحشة» والتي حكى فيها الكثير من تجربة السجن والتعذيب الذي لاقاه هناك.

هنا تحضر وحوش الديستوبيا في قصائد مطر، وتبدو لغته صحراوية جافة، وكأنها تنبع من قلب الجحيم، يأتي الاعتراض والمقاومة والتعبير عنها من خلال تلك القصائد فتتحول الذات إلى مصارعة الكائنات المخيفة وتقطيع أوصالها، ويكون العالم غابة والفساد غابة والحروف غابة، يعود الشاعر من ذلك كله خائبًا وبلا عينين كمثل جمجمةٍ مجوفة موضوعة على يد حاملها!

في الديوان يذكر مطر ممارسات التعذيب التي حدثت له في السجن، بينما كان يعيش في ظلامٍ دائم مغمى العينين، يتذكر الدم والطبول وألعاب التحطيب الشعبية وغيرها، ويحتشد الديوان بصور ومشاهدات الموت والدمار والجفاف والكوابيس والأشباح وحالات الرعب والفزع وغير ذلك.

وهكذا ينتقل بنا عبد الحميد إلى استكشاف عوالم الشاعر بكل تفاصيلها، لا يتوقف عند بابٍ واحد أو عرضٍ مجرد لموقف أو ديوان، وإنما يطوف على كل مناحي حياته وكتابته، فيفرد بابًا خاصًا عن «الأحلام» كيف كانت وكيف تشكّلت في عالم عفيفي مطر الشعري، ليخلص إلى نتيجة أن الحلم كان عنده رمزًا إنسانيًا قوميًا خاصًا بآمال مفتقدة يرتجي تحقيقها، ويفصل هذه الفكرة على قصائد دواوينه كلها بشكلٍ موسع. وفي باب «الكتابة» يتحدث عن الهاجس المسيطر على الخيال الشعري عند عفيفي مطر والذي رآه متمثلاً في الصراع، الذي يكون به التطهير ونفي التخلف وتحقيق الذات، ويستعرض بعد ذلك كيف تعامل مطر وكيف جاء شعره معبرًا عن هذه الأفكار.

على هذا النحو الجميل طاف بنا «شاكر عبد الحميد» في عالم الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر سعيًا للكشف عن ثرائه وتنوعه من جهة، وكشفًا عن جوانبه الجمالية والفلسفية شديدة الحضور والأهمية للشعر العربي المعاصر، الذي يُعد مطر أحد أهم رواده في العصر الحديث.