لا تذكر المآسي: رحلة حزينة وكثير من الالتباسات
«لا تذكر المآسي: رحلة جد يبحث عن صبي اختطفه الإدمان» هو عنوان كتاب صدر عن دار آفاق المصرية للنشر والتوزيع بداية العام الماضي، وهي الترجمة العربية للعنوان الأصلي باللغة الإنجليزية Leave out the tragic parts: A grandfather’s search for a boy lost to addiction، للكاتب الأمريكي ديف كيندرد، وهو صحفي متخصص في شؤون الرياضة، ويقع الكتاب في 303 صفحات. نرى على الغلاف أبيض اللون صورة من الخلف لصبي يبدو في الحادية عشرة تقريباً، يحاول الحفاظ على توازنه أثناء سيره على الحافة الحديدية لسكة قطار.
مما يلفت نظر قارئ الكتاب، وجود أكثر من التباس يؤدي إلى اختلاف واختلاط المشاعر لديه، ما بين التعاطف والغيظ والدهشة والحيرة. هنا سنسلط الضوء على هذه الالتباسات ونحاول توضيحها، مع التأكيد على أن المقال ليس وعظياً ولا تربوياً، بل هدفه الرئيسي إزالة الالتباسات الممكن حدوثها لدى القارئ أثناء القراءة وبعدها.
الالتباس الأول: بين العنوان والمضمون
العنوان يوحي، كما يبدو للوهلة الأولى، أن صبياً أو مراهقاً قد انزلق في طريق إدمان المخدرات مثلاً، وهنا قرر الجد أن يكتب عن دوره في احتضان حفيده ومؤازرته، وتفهمه والأخذ بيده خطوة بخطوة، ومساعدته على المدى الطويل حتى خروجه من هذا المأزق بسلام واستعادة حياته الطبيعية. ولعل القارئ سيتذكر قصصاً عرفها وعايشها، عن أجداد في محيط أسرته ومعارفه، كان لهم دور حقيقي في احتواء أحفادهم وإرشادهم إلى جادة الصواب حين تقطعت السبل -لسبب أو لآخر- بينهم وبين أبويهم.
لكن القارئ يتفاجأ بمحتوى مختلف. فهي قصة عن شاب مات بسبب إدمان الكحول، والجد هنا نادم بعد فوات الأوان، على عدم قربه من حفيده بما يكفي، وعليه فهو يحاول أن يفهم من أصدقاء حفيده كيف عاش هذا الحفيد، وهكذا فما نقرؤه على امتداد صفحات الكتاب هو رواية هؤلاء الأصدقاء للفترات التي قضوها مع صديقهم الذي مات في النهاية بسبب تناوله جرعة مخدرات تصادف أنها فاسدة.
«الحصول على بعض المرح» أم «سلوكيات تدمير الذات»؟
على مر الصفحات نبدأ بإدراك الأسباب التي قادت جارد إلى هذا المصير. لدينا ابتداء أم تدعى «لين آن سيجدا»، وهي، كما يروي لنا الكاتب في صفحة 44: «تعمل في خمارة، كما أنها قضت شهراً في السجن من قبل بتهمة بيع الحشيش لضابط أخفى هويته الحقيقية عنها». ويصفها في صفحة 87 بأنها «صاحبة خبرة، كنديم للخمر وشاربة له». أما الأب فيقول صفحة 140: «لم يحدث ان شربتُ الخمر في أثناء العمل، ولا في مكان العمل. لكنني حينما أشرب فإنني أشرب حد الثمالة. كان الولدان يشاهدنني حينما أشرب، لذلك أحمل نفسي جزءاً من الذنب لأن جارد صار يسكر».
في بداية الكتاب يروي لنا الجد سعادته بولادة حفيديه التوأم (جيكوب، وجارد، الذي سيواجه مشكلة الإدمان فيما بعد). لكن بعد ذلك تقع العائلة في سلسلة من المشاكل المتتالية، ابتداء بفصل التوأم عن جديهما والانتقال إلى ولاية بعيدة بشكل مفاجئ، مروراً بطلاق الوالدين، حيث يعترف جف والد جارد في صفحة 233:
«كنت في بعض المرات أهاتف لين غاضباً فأنعتها بأشنع الألفاظ على مسمع الولدين. أندم على فعل ذلك، لم ينبغ علي فعل هذا».
بعد ذلك تزوج الأب مرة أخرى، وعندما وصل التوأم سن المراهقة كثرت مشاجراتهما فقررت زوجة أبيهما فصلهما عن بعضهما، فأرسلت جارد عند أمه، حيث بدأ شرب الكحول مبكراً جداً في سن الثالثة عشرة.
في سن الخامسة عشرة اعترف جارد لجدته أنه مدمن خمر. ارتاعت الجدة وأخبرت الجد بما قاله، إلا انهما غضا الطرف عن ذلك. في سن السابعة عشرة عاد جارد للعيش مع أبيه وزوجة أبيه وأخيه التوأم، لكن في الثامنة عشرة أخبرهما الأب أن ليس بمقدورهما أن يعيشا معه بعد التخرج من المدرسة، بعد إتمامهما الثامنة عشرة.
هنا يقع الالتباس الثاني. فنجد أن عائلة جارد (الحفيد المدمن) اعتبرت جميع التصرفات التي كان ابنهم يقوم بها، محاولة للحصول على بعض المرح، أو في أسوأ الأحوال تنصلاً من حمل المسؤولية. في حين أن أي قارئ عادي، سيرى علامات حمراء بالغة الخطورة في سلوكيات جارد المتهورة، التي شملت القفز على متن قطارات الشحن، وإدمان الخمر منذ سن الثالثة عشرة، ودخول المستشفى أكثر من مرة ثم الخروج منه قبل إنهاء الاستشفاء بشكل كامل، والتورط في شجارات مع أضخم الفتيان، والتعرض لحادث سيارة مريع كاد يودي بحياته.
«تجاوز الثامنة عشرة ولم يعد لدينا ما نقدمه له»
هنا يقع الالتباس الثالث، فعلى مر صفحات الكتاب، نرى بوضوح أن جارد لم يقطع صلته بعائلته تماماً، بل كان يعاود الاتصال بهم بين الفينة والأخرى، خصوصاً بجده الذي كان حاضراً بقوة في طفولته. لكن العائلة على ما يبدو غفلت تماماً عن حاجة الشاب للشعور بأن وجوده مرغوب به، وأنه ليس عبئاً، وعن أن الإنسان لا يكبر أبداً عن الحاجة للحب والتقبل.
«دماغ المدمن يدفعه للشرب»
في الفصل العاشر، يستعين الكاتب/الجد بكتاب الصحفي «ديفيد شِف» وعنوانه «التغلب على الإدمان وإنهاء كبرى مأساويات أمريكا»، مقتبساً فقط الفقرات التي تشرح عن دماغ مدمن الخمر، وحاجته الماسة لكميات متزايدة من ذلك السم، ومعاناته (في حال الامتناع عن الشرب) من الهذيان الارتعاشي، وأعراض الانسحاب، والإغماءات والانقباضات، وأن العقل يعطي للمدمن أوامر ليس بوسعه تجاهلها.
وهذا الأمر قد يسبب الالتباس مجدداً لدى القارئ، لأنه يُغفل تماماً أن علاج أي نوع من الإدمان، يتكون من أربعة أركان رئيسية، هي تقليل الجرعات بانتظام بإشراف طبي، والاستعانة بعقار طبي لتخفيف أعراض الانسحاب، والعلاج النفسي، والتفاف العائلة والأصدقاء حوله وتشجيعهم.