تحل هذه الأيام الذكرى الثامنة والأربعون لحرب الخامس من يونيو 1967، تلك الحرب التي أطلق الكاتب الخالد، حرفيًا، محمد حسنين هيكل على هزيمة الجيش المصري فيها: “النكسة”.

أحب بهذه المناسبة أن أجري مقارنة بين نكسة 1967 وثورة 2011 من ناحية تأثيرهما على السياسة في مصر. ذلك أنني أعتبر الحدثين – الحرب والثورة – نقطتين فاصلتين في تاريخ “دولة يوليو”، بل ربما في دولة ما بعد الاستعمار في المنطقة العربية عمومًا.


النكسة وما بعدها

يقال إن الحروب والثورات الكبرى تلعب دور “القابلة” في التاريخ. فبعد سنوات وعقود من الركود، أو من تراكم التغييرات المحدودة، تأتي الحرب أو الثورة لتحدث إنفجارًا مدويًا يهز الأسس التي استقرت عليها المجتمعات، فـ”يلد” قسرًا أسسًا جديدة بهذا القدر أو ذاك، أو يخلّف الفوضى والدمار لأزمنة قد تطول كثيرًا.

لم تشذ مصر عن تلك القاعدة. فهزيمة صيف العام السابع والستين من القرن العشرين وجَّهت ضربة مميتة إلى نظام يوليو كاشفةً هشاشته وقصر نفَسِه. ورغم أنها، نقصد الهزيمة، لم تقوِّض دولة يوليو، ولا حتى سلطة عبد الناصر، إلا أنها بالتأكيد دفعت النظام الحاكم دفعًا إلى إحداث تغيير، تدريجي أحيانًا، متسارع أحيانًا أخرى، في تحالفات السلطة وتوجهاتها الإستراتيجية.

وبغض النظر عن تفاصيل عملية التحول الفوقية التي شهدتها السنوات من 1967 – عام الهزيمة – إلى 1977 – عام زيارة القدس – فإن جوهر ما حدث خلال تلك السنوات كان إعلان دولة يوليو المعدّلة تخليها عن الوعود الرنانة لدولة ما بعد الاستعمار، وأهمها: الاستقلال والتنمية. إذ تكيّف النظام مع هزيمته بالتودد إلى “الصديق الأمريكي”، وإجراء مصالحة تاريخية مع “الجار الإسرائيلي”، والتقرّب إلى “الحلف السعودي”، والتراجع عن “التنمية المستقلة” لمصلحة انفتاح يقوم على تنشيط قوى السوق ودعم “القطط السُمان” واصطياد الاستثمارات الأجنبية؛ كل ذلك على خلفية تدعيم التحالف بين بيروقراطية السلطة والرأسمالية التجارية والعقارية الناشئة.

وفي الأثناء نفسها، ومع انهيار أسس الشعبوية الناصرية، وفسخ العقد الاجتماعي ليوليو، تشكّلت معارضة جديدة، ذات جناحين، للنظام: جناح يساري، وجناح إسلامي.

نجح النظام في لملمة أكبر قوى الجناح اليساري تحت عباءته في صيغة حزب التجمع الرسمي الذي ضم إلى جانب الشيوعيين، يساريي منظمة الشباب والتنظيم الطليعي، وناصريي الدولة، جنبًا إلى جنب مع كتل ذات شأن من الشباب اليساري والناصري. وقد اجتمع هؤلاء الأخوة الأعداء تحت شعارات قومية/وطنية وسعوا إلى استعادة “ثوابت يوليو” من أنياب “الثورة المضادة” الساداتية.

أما علاقة دولة يوليو في صيغتها الساداتية مع الإسلاميين، فقد كانت أكثر تعقيدًا؛ فمن ناحية، استدعى النظام القوى الإسلامية، ممثلة بالأساس في الإخوان المسلمين، في محاولة لإضعاف اليسار القومي والشيوعي، باعتباره الخطر الأكبر الذي أُقصي عن مواقع السلطة ويحاول الآن التحريض من أجل عودة مكتسبات الماضي الناصري.

لكن من ناحية أخرى، رفض النظام شرعنة القوى الإسلامية وإدماجها في الآلة الحزبية الجديدة، وهو الأمر الذي لعب، لاحقًا، دورًا في إظهارها بمظهر المعارضة الأكثر صلابة من اليسار الحاصل على صك شرعية رسمي من الدولة.

ولعل المراقب المدقق يتفق معي في أن مآلات جناحي المعارضة السابق ذكرهما ارتبطت، بشكل ملحوظ، بأدوار هوامشهما الأكثر راديكالية. فبينما كانت الهوامش الراديكالية على أطراف الإخوان المسلمين، مثل تنظيمات الجهاد والجماعة الإسلامية وجماعة المسلمين، كبيرة ومؤثرة وذات جذور شعبية لا يستهان بها وتتسم بالحسم الإستراتيجي والفعالية الحركية، كانت الهوامش الراديكالية على يسار حزب التجمع، مثل أحزاب العمال الشيوعي و8 يناير وعصبة الشيوعيين، ضعيفة نسبيًا ومعزولة وضعيفة الجذور وتفتقر إلى الوضوح الفكري والفعالية العملية.

وقد كان من نتائج ما وصفناه من علاقات بين جناحي المعارضة والسلطة من ناحية وبينهما وبين هوامشهما الراديكالية من ناحية أخرى، جنبًا إلى جنب مع عوامل أخرى تتعلق بتنظيمات وحركة الطبقة العاملة وأوضاع اليسار العالمي، كان من نتائج هذا أن انتهى الحال إلى صعود المعارضة الإسلامية واحتلالها معظم المشهد بدءًا من أواخر السبعينات وإلى يومنا هذا، في مقابل إنزواء المعارضة اليسارية وتضاؤل حجمها وأثرها.

الخلاصة من هذا كله أن زلزال 1967 خلق فضاءً سياسيًا جديدًا في مصر. إذ أفلست دولة الاستقلال وكشفت عن كذب وعودها التنموية والتحررية، فيما رفضت بإباء وشمم خلق بيئة ديمقراطية مستقرة، فتحولت إلى سلطوية ليبرالية جديدة مندمجة في موقع الذيل في النظام العالمي. ومن ناحية أخرى تبخرت تقريبًا المعارضة اليسارية، ناهيك عن الليبرالية طبعًا، مفسحة المجال لصعود هائل لشعبويات وراديكاليات إسلامية من أنواع مختلفة.

هنا أعلنت السياسة في دولة الاستقلال إفلاسها العام والتام. وأنا أعني بـ”إفلاس السياسة” في هذا المقام، ليس تصفية أو انتهاء الصراع السياسي والطبقي، فالحقيقة أن أوضاع ما بعد هزيمة 1967 أججت الصراع بأشكاله المختلفة، ولكنني أعني عدم جاهزية المعارضة الموجودة بالفعل، الإسلاميون بالتحديد، لتحويل التذمر الطبقي الواسع إلى مشاريع سياسية واقعية قادرة على حل معضلة إفلاس دولة يوليو/ما بعد الاستعمار التي فشلت الأنظمة المتعاقبة من 1967 حتى 2011 في حلها.


من التيه إلى الثورة

أحب أن أصف السنوات بين 1967 و2011 بأنها “سنوات التيه”. فعلى جانب الدولة/السلطة كانت تلك عقود التدهور الدؤوب والفشل الممل. لم يفض التحول الليبرالي الجديد، ولا إعادة إنتاج السلطوية، ولا الصلح مع الإمبريالية والصهيونية، إلا إلى تراجع وراء تراجع، تظهر آثارهم في الخطاب المتألم للنخبة المثقفة، حكومية ومعارضة، الذي ينعي مصرنا التي كانت، والتي يبدو أنها لن تعود.

صحيح احتفظت دولة يوليو بنفسها، لم تنفجر ولم تذوِ، ولكنها في المقابل سارت على درب التعفن طويل الأجل، وتعقدت مسارات فسادها بحيث لم يعد يجدي معها إصلاح.

وهكذا اندلعت ثورة يناير لتجد دولة يحكمها مرتزقة، ومعارضة مدنية صاخبة الصوت منعدمة الجذور، ومعارضة إسلامية مشروعها إما إعادة إنتاج الحاضر بحذافيره، مع تركيب اللحية وحمل المسبحة، أو تدمير الحاضر بلا أي جسر لمستقبل ذو معنى، إلا إذا اعتبرنا السلم المرفوع إلى السماء الذي يسنده الإسلاميون الجهاديون جسرًا إلى أي شيء عدا خيالهم العدمي، وكذلك الدموي، منقطع الصلة بعالم البشر الواقعيين.

فرط السذاجة فقط هو الذي دفعنا إلى اعتبار الثورة جسرًا أوتوماتيكيًا إلى مستقبل مختلف يحمل حلولًا جذرية، وإن كانت واقعية، لأزمة إفلاس دولة يوليو. ولكن كيف تحمل الثورة وعود التغيير، بينما عرابوا المستقبل، نقصد القوى المعارضة، لا يملكون بديلًا، بل هم أقرب إلى كونهم جزءًا من الأزمة وليس من الحل؟

ولذا فقد حدث ما حدث، حدث ما عشناه وتألمنا منه سويًا، حيث أثبتت دولة يوليو قدرة مدهشة على البقاء رغم تأصل العفن في جذورها. المشكلة هنا أن الثورة، بعد أن وجهت ضربة أخرى موجعة لدولة يوليو، هي الأكبر منذ 1967، عمقت من تعفن هذه الدولة وفضحته بشكل لم يكن أحد يتصوره.

كان التفكك الذي أحدثته الثورة في أوصال الدولة، بمثابة طعنة لنمر تركته جريحًا بدلًا من أن تجهز عليه، فأصبح شرسًا مجنونًا يضرب في كل اتجاه بلا حساب أو رؤية.

وهكذا تم تدشين دولة يوليو المملوكية، حيث تمت خصخصة المصالح وتضييقها داخل المؤسسة التي من المفترض أنها تمثل، بمعنى ما، الصالح العام. وحيث أصبحت تسوية النزاعات بين المماليك، وبينهم وبين “رعاياهم” تتم إما بالسلاح، أو بأدوات أخرى لا تقل خسة ووضاعة.

كانت مصر في ظل مبارك “دولة محاسيب” يقترن فيها التراكم الرأسمالي بفساد الدولة اقترانًا وثيقًا، وتُزّكى شلل من رجال الأعمال على حساب شلل أخرى، بينما يتحول البيرقراطيون وساسة النظام إلى رأسماليين والعكس بالعكس.

أصبحت مصر في ظل السيسي “دولة لصوص” أبقت على كل ملامح دولة محاسيب مبارك، ولكنها وضعت تلك الملامح في سياق بنيوي جديد هو تحالف الطغمة الأوليجاركية (= حكم القلة) المتصارعة على تنظيم النهب بشكل فردي وشللي. انفكت معظم أشكال السيطرة الجماعية على عمليات النهب، وبرزت الشلل المؤسسية كأطراف في تحالف مملوكي يضرب بعضه بعضًا ويمارس اللصوصية المباشرة في وضح النهار.

أما المعارضة، التي كانت في الأصل منهكة ومفلسة قبيل الثورة، فقد ضربتها الثورة في مقتل، تقريبًا بكل قواها. فقد انكشف عنها الغطاء، وانتقلت من مواقع السلطة إلى المعارضة إلى داعمي السلطة، في دوائر انتهازية، ارتكزت جميعها في لحظات الصعود، فيما عدا استثناءات هامشية، على دعم الجيش، القلب الصلب للدولة، وحامي حمى ثورة 30 يونيو التي مسحت بأستيكة كل المنجزات المحتملة لثورة 25 يناير.

وهكذا، نجد أنفسنا بعد مرورة أربعة أعوام ونصف على الثورة، وقد أُعيد إنتاج دولة يوليو في صيغة أكثر تعفنًا، بينما المعارضة، وليس الإنقلاب، تترنح من فرط فقدان الأفق والرؤية، أكثر من ترنحها من فرط توحش السلطة.


البديل

يحدث في التاريخ، حسبما أكدت لنا الأحداث بلا لبس، أن يظل أشباه الموتى متحكمون في الأحياء. قصة الاحتضار الطويل لدولة يوليو، التي فشلت في أن تحيا وفي أن تموت، والتي تحورت، كالفيروس، مع كل ضربة، فاستوعبت الليبرالية الجديدة وكيفت سلطويتها عليها، وهضمت التواطؤ مع الإمبرالية وكيفت بؤسها التابع عليه، هذه القصة ليست إلا قصة إفلاس البدائل. فطالما ظل الفراغ قائمًا، لن تجد دولة يوليو لنفسها بديلًا إلا الفوضى، وهو بالضبط ما قاله المهندس الأول للفراغ، سيء الذكر، محمد حسني مبارك.

ولذا فإذا كان لنا من مهمة، ومن قضية تستحق دونها التضحية، فإنها ستكون فحص فرص بناء البدائل. وفي ظني أن بؤس الواقع يقول إن البديل لا يمكن أن يكون مجرد إصلاح وترقيع، ولا يمكن أن يكون استبدال نخبة بنخبة، بل معركة ثورية طويلة الأجل، قد يشهد أبناؤنا نتائجها ويقطفون ثمراتها.