إذا انتزعت الطقوس والمظاهر الاحتفالية عن أي مناسبة لفقدت معناها، هذه حقيقة، شهر رمضان مثلا وعلى الرغم من كونه مناسبة روحانية في الأساس، ويتعلق بشكل أساسي بالعبادات، فإن طقوسه ومظاهره الاجتماعية جزء أصيل منه، ربما لهذا لا يشعر المغتربون، خارج الوطن العربي تحديدا، بالاختلاف بينه وبين باقي الشهور.

أحد المظاهر العتيدة لشهر رمضان هو اختلاف الخريطة التليفزيونية، بالطبع تشعب الموضوع واختلف تماما في عصرنا هذا بعد كم القنوات الفضائية المهول، وفي السنوات الأخيرة انضم عنصر جديد لخريطة الإعلام الرمضانية، الإعلانات التليفزيونية التي تقتصر إذاعتها على شهر رمضان، بل ينتظرها المشاهدون من عام لآخر، وتعتبر من أكبر المعارك التي تخوضها الشركات والعلامات التجارية خلال العام.

الإعلانات التليفزيونية قطعا إحدى صور الفن والإبداع، بل من أصعب أنواع الفن التي تتطلب ذكاء حقيقيا ليجذب المشاهد ويقوم بتوصيل رسالته في وقت محدود جدا، الغريب فعلا في إعلانات رمضان هو العالم الذي تخلقه، مصر أخرى موازية لا نراها في الواقع ولا نراها في غير رمضان، تكثيف كبير لمشاهد ومبادئ غير حقيقية وغير متحققة، حتى أن الموضوع في أغلب الأحيان ينقلب لكوميديا.


المصريون سعداء جداً مع بعضهم

المصريون سعداء بشكل عام، وسعداء مع بعضهم البعض بشكل خاص، يحبون بعضهم ويساعد أحدهم الآخر ومنسجمون تماما في حياتهم الباسمة، ورغم الصعوبات التي تواجههم فإنهم يستطيعون تخطيها بروح إيجابية وبتمسكهم بعاداتهم وتقاليدهم وفطرتهم السليمة التي استطاعوا الحفاظ عليها لأنهم مهذبون متعاونون متدينون بالفطرة.

كلام فارغ في الحقيقة، إذا نظرت حولك أو حتى في المرآة فلن تجد هذا المصري الأسطوري الذي نتحدث عنه، ولكن شركة «موبينيل» وجدته منذ عام 2012 وحتى تحولها لتصبح أورانج في 2016، بدأ الحديث عن تلك الـ«مصر» العجيبة التي لا نعرف عنها وعن ساكنيها أي شيء، كان الحديث عن هذا العالم المثالي مبررا بعد الثورة المصرية، حين أطلقوا أول إعلاناتهم الطويلة الذي حمل عنوان «دايما مع بعض»، ولكن وعلى الرغم من تداعي كل شيء بالتدريج، فإن موبينيل صممت على موقفها وفي كل عام تخرج علينا بإعلان أجمل وأكثر تأثيرا وأكثر خيالية وأسطورية، ثم تحولت الشركة لأورانج وأصبحت إعلاناتهم عادية، ظريفة وقصيرة ولا تبشر بأي مجتمع خيالي.


العائلات المصرية المترابطة جداً

يمكنك أن تقرب الصورة قليلا إذا لم يعجبك الحديث عن المجتمع السعيد لتجد العائلة السعيدة، التي تمارس طقوس رمضان بولائمه وعزوماته الكبيرة جدا، والمترابطين الذين يعرفون أن جذورهم الحقيقية هي العائلة والتاريخ العريق، الذين لا يبغضون بعضهم البعض ولا يمارسون النفسنة أبدا، وبالطبع لا يقطعون الأرحام.

يمكنك أن تشاهد هذه العائلات السعيدة – التي لا تنتمي أنت لها – في إعلانات فودافون التي ترى منذ عدد من السنوات أن «قوتك في عيلتك»، أو يمكنك إذا لم تقتنع أن «قوتك في عيلتك» أن تتحسر أنك كبرت، وأن الماضي لن يعود ولا علاج لذلك، فتأخذك بيبسي –كل عام – في جولة سريعة في ذكرياتك عن التليفزيون وماضيك الباسم الذي كانت عائلتك فيه تتجمع حول الشاشة، وتجتر أحزانك أو حنينك كيفما اتفق وتقسم لنفسك أنك ستعيد لمة أسرتك وعائلتك الكبيرة، ثم تنسى الموضوع برمته بعد أن ينتهي الإعلان.


المصريون كرماء خيرون

في ظل الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد يجب أن نعترف أن التبرعات هي الشيء الأساسي الذي يدعم المستشفيات، والمؤسسات العلاجية، وجمعيات مساعدة الفقراء والمعوزين، في ظل غياب شبه كامل لأجهزة الدولة المعنية بالأمر، ولذلك فإعلانات طلب التبرعات موجودة طوال العام بشكل أساسي، ولكنها في رمضان تصبح وسواسا قهريا لا فكاك منه.

بالطبع نسبة التبرعات ترتفع في رمضان، ولكن من يتبرعون في رمضان هم من يتبرعون في غير رمضان، ولذلك تصبح كثرة الإعلانات شيئا غير منطقي بالمرة، خاصة إذا كانت لنفس المؤسسة، أنت لن تحثني على التبرع بمبلغ أكبر إذا صنعت ثلاثة إعلانات مبهرة، وخمسة إعلانات أخرى قاسية تأتيني فيها بأطفال مرضى يناشدون المشاهدين في كل الأوقات عبر الشاشة، يكفي إعلان واحد متكرر، المصريون في الحقيقة ليسوا كلهم كرماء جدا، الكرماء منهم سيتبرعون سواء صنعت إعلانا أو عشرة.


الجودة والخيال يتباريان

نحن هنا لا نتحدث عن جودة صناعة الإعلانات، بالعكس نحن نعرف ونعترف أن فن الإعلانات تطور جدا في السنوات الأخيرة، ولا نتحدث أيضا عن سخفها، ففي الحقيقة نحن نتأثر بتلك الإعلانات جدا وتمس في قلوبنا شيئا ما وتداعب الحنين لعالم مثالي خالٍ من الدراما التي نعيشها قسرا في كل يوم.

المشكلة فقط أن تلك الإعلانات ترسخ في أذهاننا فكرة ضبابية عن المجتمع وعن العائلة وعن الطقوس والعبادات وما نستطيعه وما نملكه بالفعل، تجعلنا متحيرين أي الحياتين هي الحقيقة؛ حياتنا الباهتة المرهقة، أم الحياة اللامعة الباسمة على الشاشة؟ نحن نتوق لتلك الحياة الملونة، خاصة أن صناع الإعلانات يستطيعون أن ينتزعوا من فمك جملة «آه والله احنا كدة فعلا» عندما تشاهد إعلاناتهم، في حين أننا في الحقيقة مش كدة فعلا ولا حاجة، ولكنها الحاجة الإنسانية الطبيعية لحياة جميلة لا نستطيع أن نحصل منها على أي شيء، ولا حتى لمحة، على الأقل معظمنا.

هنا في إعلانات رمضان مصر أخرى، مصر جميلة وشعب سعيد، كريم، مبتسم، شعب يمتلك أفراده مالا ليقيموا ولائم وعزومات، في حين أن سفرتك الحقيقية ربما تحوي طبخة أورديحي، لذلك فمصر التي في إعلانات رمضان تختلف تماما عن مصر التي في خاطري.