أُثارت وفاة الكاتب والروائي «أحمد خالد توفيق» الكثير من الجدل حول القيمة الأدبية لهذا الرجل ودوره، وما صنعه في تلك الأجيال التي تدافعت – منذ عرفت خبر وفاته – ترثيه وتعدد مآثره ومحاسنه على جيل بل جيلين من القرّاء تربوا فعلاً على كتابته، تلك الكتابة التي ظلّت محصورة لفترةٍ طويلة من الزمن في الهامش، لا يعترف بها ولا بوجودها ما يمكن أن نطلق عليه «النقد الرسمي»، فليس ثمة اهتمام من الدولة بكتابات «أحمد خالد توفيق»، بل وصل الأمر ببعض كبار الإعلاميين إلى تجاهل معرفتهم باسمه، وهو ما يحدث مع غيره من كتّاب هذا النوع من الأدب، الذي حار النقّاد والصحفيون أنفسهم في وصفه، فتارة يسمونه «بوب آرت» أو «الأدب الجماهيري»، أو يحصرونه في أنه أدب فانتازيا وخيال علمي، وهم في كل الأحوال يتجاهلونه ولا يولونه أي اهتمام.

من ذلك ما كتبه الناقد سيد محمود في مقاله بالشروق:

المدهش والمؤسف فى نفس الوقت أن الجماهيرية التى تحققت لأدب أحمد خالد توفيق لم تكن موضوعًا للدرس النقدى بين باحثي علم اجتماع الأدب أو علوم التلقي، ولا بين الباحثين المعنيين برصد وتحليل اتجاهات القراءة فى أوساط الشباب تعاليًا على هذه الظاهرة التى تصور البعض أن تجاهلها قد يؤدي إلى تغييبها وهو تصور ساذج بالطبع. وبفضل القراء الشباب مواليد ثمانينيات القرن الماضي تحول خالد توفيق من كاتب هاو إلى «ظاهرة متكاملة» الأركان ولعله أول كاتب لا يسعى للنجومية بالمعنى الشائع لكنه يبلغها لحد أن توزيع أعماله كسر حاجز المليون نسخة، ولم يدفعه هذا النجاح لمغادرة مدينته الأثيرة طنطا والاستقرار فى القاهرة التي لم يجد فيها «نداهة» تبرر غربته وظل منسجماً مع هذا الاختيار تمام الانسجام دون أن يشعر بأي ضعف أو نقص في صور تحققه.

البداية

يعود تاريخ «روايات الجيب» إلى تجارب حلمي مراد، وعمر عبد العزيز أمين، ومحمد كامل حسن، الذين عملوا بداية على ترجمة الأعمال البوليسية الغربية ذائعة الصيت ونشروها في روايات ذات طبعة «شعبية» قليلة التكلفة سهلة التناول في سلاسل حملت أسماء مثل «كتابي»، و«روايات الجيب».

نشرت أعمالاً مختصرة لكل من «أجاثا كريستي»، و«الكساندر دوماس»، و«فيكتور هوجو» وغيرها، كما اعتمدت على نشر الروايات ذات الصبغة البوليسية والتشويقية، وانتقلوا بعد ذلك إلى نشر روايات رومانسية أيضًا في سلسلة «عبير» ذائعة الصيت، تزامن مع ذلك أن بدأ الكاتب الكبير «محمود سالم» كتابة روايات المغامرات في دار المعارف من خلال السلسلة الشهيرة «المغامرون الخمسة» و«الشياطين الـ 13».

أمّا «أحمد خالد توفيق» والذين معه، فكانت بدايتهم مع «المؤسسة العربية الحديثة للنشر» لصاحبها حمدي مصطفى الذي كان محبًا للعمل في الظل، لا يهتم بأن يعرفه الناس أو يخرج في أحاديث صحفيّة، بل كان كل ما يهمه أن يقدّم للقرّاء في كل الوطن العربي أعمالاً تعجبهم وتنمي شغفهم للقراءة والمعرفة، واستطاع منذ بدأ سلسلة «روايات مصريّة للجيب» أن يستكتب عددًا كبيرًا من الأقلام الواعدة التي قدّمت لمكتبة روايات الجيب ولذلك النوع من الكتابة والأدب التشويقي الفريد أعمالاً شكّلت بالفعل وجدان الأجيال.

بداية بسلاسل الروايات التي كتبها «نبيل فاروق» وقدّم فيها صورة البطل المصري النموذجي من خلال ضابط المخابرات «أدهم صبري» في سلسلة «رجل المستحيل»، أو السلسلة الخاصة بالخيال العلمي «ملف المستقبل» بالإضافة إلى سلسلة روايات رومانسية حملت اسم «زهور» بالاشتراك مع الكاتب «شريف شوقي» الذي قدّم هو الآخر سلسلة بوليسية اسمها «المكتب رقم 19» وحققت تلك الكتابات والروايات رواجًا كبيرًا بين أوساط الشباب والمراهقين في ذلك الوقت.

وفي 1992 انضم إليهم «أحمد خالد توفيق» بأفكار جديدة، وأبطال مختلفين كل الاختلاف، وبقصص وحكايات إن كان فيها من الخيال والفانتازيا فإنها تحمل على عاتقها هموم الواقع ومشكلاته في الوقت نفسه. لكنه لم يتوقف عند سلاسل «روايات مصريّة للجيب» بل استطاع وربما لأوّل مرة أن يكسر الحاجز بين الشباب والأكبر سنًا، ويخرج من دائرة الأدب الجماهيري إلى الأدب الرسمي العادي وإن بقيت أفكار الخيال العلمي مسيطرة عليه، فقدّم روايته الأولى «يوتوبيا» عام 2008 وكان صدورها حدثًا بارزًا لفت أنظار الكثيرين إليه، وتوالت أعماله الروائية الأخرى وإن بقي محصورًا كواحد من كتّاب أدب الشباب بشكلٍ خاص.


روايات الجيب .. والنقد

ربما يحصر البعض دور الناقد في استكشاف المواهب الأدبية الجديدة وتعريف القرّاء بها وتسليط الضوء عليها، أو تقديم أعمال الأسماء المكرّسة والمعروفة من جهةٍ أخرى حتى يبرز اسم الناقد نفسه ويعرفه القرّاء والكتاب على حدٍ سواء، وهم في الحالتين لا يعيرون اهتمامًا لتلك الكتب التي تلقى رواجًا ونجاحًا تجاريًا كبيرًا، غير عابئين بذوق القرّاء وما يحدث فيه من تغيرات، أو الكشف عن تلك الظواهر المختلفة التي ربما تبدو غريبة عمّا ألفوه وتعارفوا عليه، في حين قد تأتي مواكبةً له وتسير على نفس نهجه (مثلما لاحظنا في رواية السنجة لأحمد خالد توفيق مثلاً).

لا يرى الروائي والناقد «طارق إمام» غضاضة في إعراض النقد «الرسمي» أو عدم اهتمامه بهذا النوع من الأدب والكتابة، بل على العكس يرى أن ذلك أمر طبيعي وهو موجود في العالم كله، لأن هذا النوع من الكتابة موجه إلى القارئ العام وخاصة فئة الشباب «اليافعين»، بل إنه يرى أن من الخطأ التعامل معه كما يتم التعامل مع الأدب، ذلك أنه أدب نوعي مثل أدب الجريمة وأدب الرعب وغير ذلك.

في الوقت الذي يختلف الناقد والشاعر «شعبان يوسف» مع وجهة النظر تلك بل يرى أن عدم الاهتمام بروايات الجيب تقصير فادح من النقاد، لأن هذا النوع من الكتابة له تأثير واسع على قطاع عريض من الناس عمومًا، فهذه الروايات يقرأها شباب فاعل، ولكن الحركة الثقافية، تعتبر أن هذه الروايات لا تنتمى إلى الأدب الرفيع، ورغم أن النقاد والمثقفين النخبويين دومًا ما يصدمهم رواج هذا النوع من الكتابة، إلا أنهم لا يتعلمون من هذه الدروس، وتظل نظرتهم متعالية ومتغطرسة تجاه هذه الكتابة وجمهور هذه الكتابة، وكذلك فهذا الجمهور يبادلهم النظرة نفسها.

وهناك قطيعة شبه كاملة بين النخبة وقرّاء وكتّاب روايات الجيب التى تحاول بكافة الأشكال أن تتواصل مع الشرائح الأوسع، وبالتأكيد فإن هذه القطيعة تلعب دورًا كبيرًا فى عدم تطور هذا النوع من الكتابة بشكل سليم، لأن كتّاب هذا النوع حذفوا النخبة حذفًا قاسيًا من كل حساباتهم.

توجهت إلى الروائي والسيناريست «محمد سليمان عبد المالك» الذي كان له تجربة مشابهة لحدٍ بعيد بتجربة «د.أحمد خالد توفيق» حيث نشر عددًا من السلاسل في «المؤسسة العربية الحديثة» ثم انتقل إلى كتابة الروايات فأصدر «إخوة الدم»، و«حياة جديدة» وغيرهما.

أشار «عبد المالك» إلى أن المشكلة فيها جزء موضوعي ذلك أن السلاسل تصنف كأدب جماهيري ـ وذلك موجود في العالم كله ـ للأدب الخيالي و(أدب اليافعين) الذي يصعب رصده نقديًا، أما ما يتعجب من تجاهله فهو الروايات العادية التي يتم نشرها بعيدًا عن فكرة السلاسل وإن بقيت محتفظة بطابع التشويق والمغامرات، ولعل الروائي الناجي الوحيد من هذه المشكلة هو الروائي «أحمد مراد» الذي استطاع أن يكسر الحاجز ويصل برواياته إلى النقاد والقرّاء على حدٍ سواء.

أما أن يبقى كل من يكتب أدب شبابي يتم تجاهل إنتاجه فذلك لأن هناك طائفة من النقاد تعودوا على التعامل مع الأدب على أنه غير رائج، بل ربما يهاجمون ذلك النوع من الأدب لمجرد وصوله للناس ورواجه، كما يشير «عبد المالك» إلا أن النقّاد عليهم أن ينتبهوا إلى أنهم أصبحوا اليوم وسط المتغيرات الحديثة وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي وجودريدز وغيرها من وسائط جعلت الكاتب على علاقة مباشرة بالقارئ، ولم يعد القارئ محتاجًا للناقد كوسيط، فأصبح عليهم بالتالي أن يجددوا أدواتهم وفقًا لمتغيرات العصر لكي يكونوا مرآة حقيقية للمجتمع تمكنهم من إفادة الكتّاب وإرشادهم على طريق الكتابة أيًا كان ما يكتبونه.

ويبدو أن الجدل سيظل دائرًا بين المتعة والقيمة، وبين روايات الجوائز وروايات «الأكثر مبيعًا» وغيرها من اعتبارات ومسميات، ويبقى في النهاية ما ينفع الناس.