الزمان هو السادس عشر من سبتمبر 1937، والمكان هو استاد هايبري بالعاصمة الإنجليزية لندن، قناة BBC تحتفل بما يقرب من عام على بداية بثها، من خلال ترتيب ما سيصبح عقب ذلك حدثًا أهم من القناة التليفزيونية الإنجليزية ذاتها، فريق أرسنال لكرة القدم يلتقى في مباراة ودية مع فريق أرسنال الاحتياطي، الأمر أشبه بلقاء تدريبي، ولكن الجديد والتاريخي أن هذه هي أول مباراة كرة قدم يتم بثها تليفزيونيًّا وبشكل مباشر. في أبريل من العام التالي يلتقى المنتخبان الإنجليزي والأسكتلندي لكرة القدم في أول مباراة دولية يتم بثها تليفزيونيًّا.

لم يكن يعرف لاعبو الكرة الهواة في تلك اللحظات بأجسادهم غير المتناسقة، وأزيائهم الرياضية الواسعة، أن هذا البث التليفزيوني سيحول هذه اللعبة فيما هو قادم من سنين إلى صناعة ضخمة تقدر قيمتها بمليارات الدولارات، صناعة سيتحول معها اللاعبون إلى أيقونات إعلانية، وتتحول معها اللعبة ذاتها إلى ما يشبه العرض السينمائي.

هل فكر مارادونا وهو يتخطى 6 من لاعبي المنتخب الإنجليزي، واحدًا تلو الآخر، ضمن نهائيات كأس العالم لعام 1986، أن مصورًا رياضيًّا سيضيف لاعبين من المنتخب النيجيري في عملية مونتاج متقنة ليجعل ميسى، خليفته سيئ الحظ في قيادة منتخب التانجو، يبدو في كادر سينمائي وكأنه محاصر بشكل غاية في التعقيد ومن كل الجهات؟

وهنا في مصر، هل كان يعلم عبد الرحمن فوزي صاحب أول هدفين لمصر في كأس العالم، وبالتحديد في دورة عام 1934، أن الهدف المصري الثالث الذي سيحرزه لاعب اسمه مجدي عبد الغني بعد مرور 56 عامًا سيصبح مادة تليفزيونية يعاد استغلالها إعلانيًّا في الألفية الجديدة ليتكسب صاحبها منها لسنوات وسنوات؟ والأهم، هل انتظرت الجماهير المصرية 28 عامًا عقب هذا الهدف لتشاهد منتخبها مرة أخرى في كأس العالم، أم انتظرناه لنرى نجومه كأبطال فقط في الإعلانات والبرامج التليفزيونية المذاعة على هامش المونديال؟

عن الشخصيات التمثيلية التي أداها نجوم المنتخب خارج الملعب، والمستوحاة من أدائهم داخله، نحلل معكم اليوم ما يمكننا تسميته «فن صناعة اللقطة» في كرة القدم المصرية.


أحمد فتحى: الأكشن على طريقة أفلام الفيديو

بكلمات مدحت شلبي التي يمكن اعتبارها تحريضًا مباشرًا على العنف، بدأت مصر مبارياتها في تصفيات كأس العالم روسيا 2018، واجه فتحي في مباراتنا ضد المنتخب الغاني لاعبًا سريعًا ومهاريًّا وصغير السن في مركز الجناح الأيسر، يتفوق على فتحي في كل شيء تقريبًا، حاول اللاعب الغاني أن يتخطى فتحى في بداية اللقاء، فما كان من فتحي إلا أن باغته بركلة «غشيمة» في عظام ساقه سقط على إثرها، وتكرر السقوط حتى توقف الجناح الغاني عن محاولاته تمامًا. انتصرت مصر في هذا اللقاء بهدفين، أحدهما من ركلة جزاء، والآخر من هجمة مرتدة، لتخدع النتيجة الجمهور المصري في لقاء كنا الطرف الأضعف طوال أحداثه.

يمكن مد الخط على استقامته للتعريف بالشخصية التمثيلية التي كونها الجمهور المصري عن فتحي، الشخصية التي بلورها عقب ذلك صناع الحملة الإعلانية لشركة فودافون في رمضان الماضي، والتي ظهر فتحي خلالها في دور بلطجي في حارة مصرية، يضع شاربًا مستعارًا ويحمل عصا خشبية في صورة تحاكي الأسطورة محمد رمضان، يهتف الممثل أمير كرارة داخل الإعلان معترضًا «ده بيضرب ضرب قديم».

الغريب أن هذه النكتة التي تقال على عجالة تعبر بشكل كبير عن أداء أحمد فتحي الكروي، هذا الأكشن القديم الذي يذكرنا بأفلام الفيديو، يشابه بشكل قديم أسلوب أداء أحمد فتحي لمهام المدافع الأيمن، هذا المركز الذي تطور على مدى التاريخ الكروي، ليصبح مفتاحًا مهمًا لبناء الهجمات، يعود من خلال أحمد فتحي في نسخته الحالية إلى شكله القديم، رجل وظيفته صد هجمات الفريق المنافس ومنعه من الوصول للمرمي عن طريق الجناح الأيمن. أما الجانب الهجومي فلا وجود له في طريقة أداء فتحي على الإطلاق، وليس هناك أكثر بؤسًا من لاعب في هذا المركز ولا يمكنه عمل «كرة عرضية» واحدة سليمة، وهو الشيء الوحيد المنتظر منه في هذا المركز هجوميًّا.

أحمد فتحى لاعب مصري ذو سجل مدهش من الإنجازات بالطبع، ولكنه اعتمد طوال تاريخ مشاركاته الطويل مع النادي الأهلى، ومن قبله الإسماعيلي، ومع المنتخبات المصرية باختلاف مراحلها، على القوة البدنية الهائلة والمجهود الوفير، ولكنه الآن وقد خسر كثيرًا من لياقته ومجهوده البدني تحول لنسخة بائسة لمدافع أيمن «غشيم»، يمتد الخط على استقامته ليسجل فتحي عن طريق الخط وسوء الحظ في مرمى المنتخب المصري في مباراة روسيا، الأمر الذي كان سيتكرر في كادر مرعب في مباراة السعودية بعد تسبب فتحي في احتساب ركلة جزاء.

وفي النهاية لم تصلح الشخصية التمثيلية التي استغلها صناع إعلان فودافون في صناعة لقطة جيدة لفتحي في كأس العالم الحقيقي.


سعد سمير: نكتة لا تضحك أحدًا

إذا سألت جماهير الكرة المصرية عن سعد سمير، فسيخبرونك أنه مدافع ظل طوال سنوات على دكة بدلاء الأهلى قبل أن يقدم مؤخرًا مستوى جيدًا ضمن له مركزًا أساسيًّا في دفاع الشياطين الحمر، لكن الأهم والأكثر شهرة لباقي الجماهير هو الشخصية التمثيلية التي طالما أداها سعد بشكل كوميدي في اللقاءات الصحفية والتليفزيونية التي تم استضافته بها.

لم يضمن سعد مكانه في التشكيلة الأساسية للمنتخب المصري طوال فترة قيادة هيكتور كوبر، ولكن شخصيته التمثيلية ضمنت له مكانًا أساسيًّا في الحملات الإعلانية التي غطت المشاركة المصرية في المونديال.

يظهر سعد بشخصيته الكوميدية في الحملة الإعلانية لشركة فودافون أيضًا، يضحك بشكل كاريكاتيري وهو يهز رأسه ويدندن «أنا اسمي سعد سمير واسأل عني الجماهير»، بالإضافة لهذا فسعد هو البطل الرئيسي لحملة شركة بيبسي الإعلانية، والتي تم تصويرها في كواليس معسكر المنتخب.

على أرض ملاعب روسيا كان الوضع مختلفًا، لم يشارك سعد سمير ولو لدقيقة واحدة طوال مباريات المنتخب المصري، ولكن شخصيته التمثيلية وفرت له صناعة اللقطة في مرتين، الأولى حينما التقطت له صورة عقب مباراة مصر وأورجواي وهو يقف وعلى وجهه أمارات الانبهار وسط النجمين المصري محمد صلاح والأورجوياني أديسون كافاني، والثانية إثر تسريب فيديو لإحدى الحصص التدريبية للمنتخب المصري، والتي تضمنت حركة فسرها البعض على أنها إشارة جنسية من سعد سمير لزميله محمود كهربا، ليخرج بيان كوميدي من الاتحاد المصري واصفًا هذه الحركة بأنها نكز لا أكثر ولا أقل.

في المرتين نجح سعد في انتزاع الضحكات من البعض على مواقع التواصل الاجتماعي بأدائه الكوميدي، ولكن على مستوى كأس العالم الحقيقي لم يكن له وجود.


عمرو وردة: الشهد والدموع

لم يكن للاعب المصري عمرو وردة شعبية كبيرة بين الجماهير المصرية قبل مونديال روسيا، اللهم إلا الجماهير المهتمة والمتابعة بشدة لكرة القدم. لم يظهر وردة في أي من الحملات الإعلانية الكثيفة التي تناولت وصول المنتخب لروسيا، على الرغم من فوزه بجائزة أفضل لاعب محترف في الدوري اليوناني في الموسم الماضي، وبرغم كونه خيارًا حاضرًا وبقوة لدى هيكتور كوبر.

ظهر وردة كما هو متوقع كبديل لمحمد صلاح، وليشارك أساسيًّا في مباراة أورجواي الأولى التي أدى فيها المنتخب المصري مباراة جيدة نسبيًّا، ثم شارك كبديل في مباراتي روسيا والسعودية، ورغم الهزائم الثلاثة التي مني بها المنتخب المصري، فإن وردة خرج بشعبية تفوق شعبيته قبل البطولة، نظرًا لأدائه الجيد غير المتوقع، وبشكل أكبر بسبب مجهوده وحماسه في كل كرة اقتربت منه طوال فترة مشاركاته. صنع وردة لقطته المونديالية أخيرًا عقب مباراة السعودية، لم يخرج هاربًا من الكاميرات مثل غالبية لاعبي مصر، ولكنه ظهر باكيًا معتذرًا للجماهير المصرية.

رغم الهزيمة اعتبر الكثيرون هذه المشاركة إيجابية لعمرو وردة، عسى أن نراه مرة أخرى بمثل هذا الحماس وسط تشكيلة أفضل وتحت قيادة فنية أكثر حكمة.


محمد صلاح: لأن الطيران يلزمه جناحات

إن كنا أمام سيناريو سينمائي، فالطبع هذا هو النجم الأوحد، «مو صلاح»، الملك المصري الذي وصل متوجًا من أوربا، هداف الدوري الإنجليزي وأفضل لاعب فيه طبقًا لكل الاستفتاءات. لصلاح لقطات سينمائية كثيرة في مشواره الأوروبي، ولكن المشترك فيها جميعًا أنها خلقت شخصية بطولية متخيلة عنه لدى الجماهير المصرية. صلاح بطل خارق أو نصف إله في مخيلة المصريين.

ثم تأتي لقطة الإصابة الدراماتيكية في نهائي دوري الأبطال لتضفي على هذه الصورة المتخيلة الأسطورية لمحة من المظلومية والمعاناة، نحن إذن في انتظار البطل الخارق الذي سيبعث من جديد، الطائر الأسطوري الذي سينفض التراب عن جناحيه ليحلق عاليًا فوق رءوس الجميع.

هذه الصورة المتخيلة عن البطل، أمل الضعفاء، صانع الأحلام، تم تغذيتها لتصبح شخصية صلاح التمثيلية في كل الحملات الإعلانية المصرية التي اتخذته رمزًا. ظهر محمود العسيلي قبيل انطلاق كأس العالم وهو يرتدي تيشرت المنتخب المصري، وليوجه أغنيته لصلاح شخصيًّا. تتردد كلمات العسيلي مع نغمات البيانو «تقدر تطير من غير جناحات». دخل صلاح المونديال بإصابة في الكتف، ولكن الجماهير المصرية كانت تؤمن تمام الإيمان أن بإمكانه الانتصار وحيدًا.

في المونديال الحقيقي كان الوضع مختلفًا، لم تصلح شخصية صلاح التمثيلية الأسطورية في ضمان المكسب لمنتخب مصري ضعيف يعتمد على الدفاع فقط ولا يجيده أيضًا، حقق صلاح هدفين في مباراتي روسيا والسعودية، ولكنه لم يفلح في إنقاذ المنتخب المصري من تذيل ترتيب مجموعته، وترتيب البطولة كلها بصفر من النقاط. في أرض الملعب لا يمكن للاعب واحد أن ينتصر، كرة القدم لعبة جماعية، وصلاح يطير في أوروبا لأنه يلعب ضمن فريق جيد، وتحت إدارة فنية جيدة.


يا يا يا يا تريكة

وريله العين الحمرا يا فتحي.

بعيدًا عن الجميع، كانت هتافات الجماهير المصرية لنجمها المحبوب محمد أبو تريكة تتردد مرة تلو الأخرى في الشوارع المحيطة بالملاعب الروسية.

ما الداعي لذكر اسم هذا الرجل في مقال عن كأس العالم؟

بالتأكيد يسأل بعضكم هذا، ربما يظن البعض أنني أذكره على سبيل حشر اسمه لإثبات موقف سياسي مثلًا، ولكن الحقيقة أنني لست مهتمًا بهذا على الإطلاق. الحقيقة أن الغريب بحق هو تجاهل التفاعل الجماهيري مع تريكة، هذا لاعب معتزل، ممنوع تقريبًا من دخول بلده، ولكنه رغم كل هذا لا زال يصنع لقطات جماهيرية خلابة أينما وُجِد.

لتريكة شخصية أسطورية أيضًا في مخيلة المصريين، هذا رجل يظنه المصريون مبتسمًا دائمًا، راضيًا دائمًا، يرزقه الله من حيث لا يحتسب، وهذا هو التفسير الوحيد لوجوده دائمًا في لقطات حسم بطولات المنتخب في أفريقيا 2006، و2008، وفي هدفه الإعجازي أمام الصفاقسي نهائي دوري الأبطال الأفريقي في اللحظات الأخيرة وسط شماريخ ملعب رادس.

القديس، عم الناس، وغيرها ألقاب يناديه محبوه بها، ألقاب ظلت تضمن لشخصيته الأسطورية تلك تصدر لقطات الوجود المصري في روسيا، حتى لو وجد خارج الملعب، في الاستديوهات، وفي الشوارع.

لم تغط أي من الحملات الإعلامية التي حاصرت المنتخب المصري وجود تريكة، لم يلتق الرجل أيًا من اللاعبين المصريين في حين حاصرهم وفد من مجموعة من الفنانين المصريين عديمي الحضور والشعبية، والذين حضروا لروسيا على نفقة شركة اتصالات مصرية مملوكة للدولة.

صنعت الجماهير المصرية لقطة تريكة الجميلة في المونديال بعيدًا عن كل هؤلاء، ليضربوا فنًّا في صناعة اللقطة، عسى أن يبتعد من يمنع الجماهير المصرية من حضور مباريات كرة القدم منذ ما يزيد عن سبع سنوات.

كرة القدم رياضة تنافسية ممتعة، يعشقها ملايين البشر حول العالم، تتحول شيئًا فشيئًا إلي صناعة ترفيه، يتطور البث التليفزيوني وطرق التصوير لتقترب شيئًا فشيئًا من كونها نوعًا جديدًا من المحتوى الفني البصري، يتحول الأمر لما يشبه الفيلم، ولكن ما شاهدناه من منتخبنا في روسيا كان بالتأكيد فيلمًا مصريًّا بائسًا.