بعد أن استولى الديكتاتور الراحل أوغستو بينوشيه، عبر انقلاب عسكري مدعوم من الولايات المُتحدة الأمريكية، على رئاسة جُمهورية تشيلي، وُلد بابلو لارين بعد استقرار بينوشيه رئيسًا عقب اغتيال الرئيس المدني سلفادور اليندي. هذا الحدث التاريخي العلامة في تاريخ جُمهورية تشيلي، مرّ على لارين وهو في مأمنٍ من تبعاته القمعية، فقد وُلد بابلو لأبٍ سياسي، رئيس أحد الأحزاب اليمينية –المُحببة لنظام بينوشيه- في تشيلي، بينما والدته كانت وزيرة في الحكومة المُحافظة، وأصلها العائلي «ماتي» يعود إلى أغنى عائلات تشيلي.

عبر طُفولة لأبٍ يدعمُ سياسة قمعية، وأم يعود إرثُ عائلتها إلى طرد سُكّان مابوتشي من أراضيهم في تشيلي، جاء بابلو ليُسائل مسيرة الديكتاتور الأيقونة في بلاده، تحت عيّن مُتحفظة من اليسار في تشيلي، فكيف يروي شخصًا قصصًا عن ديكتاتورية كان معزولًا عنها؟

لدى بابلو رأي مُختصر حول هذه التكهّنات، فتشيلي عالمه، ولا يُمكن لأحدٍ أن يمنع آخر من الحديث عن عالمه، لكن أي عالم؟ فبعيدًا عن مأمن الطبقة العُليا، اختفى خلال حُكم بينوشيه قُرابة 1500 مُعارض، تعرّض 40 ألف شخص للتعذيب مات منهم الكثير.

في فيلم «El Conde»الذي أخرجه بابلو لارين، ينتقلُ «بينوشيه» بخفّة عبر التاريخ في جميع أنحاء العالم، يقف إلى جانب الجهة القمعية ويعملُ بنشاط على زعزعة استقرار أي حركة بميول يسارية، أو أي تكتّل يبحث عن الحُريّة والعدالة، بينوشيه جسد بشريّ بروح مصّاص دماء، يحتفظُ برأس ماري أنطوانيت، يقتاتُ على دماء البشر، ينتقلُ عبر التاريخ حتّى يتجسّد في شخص بينوشيه حاكم تشيلي.

يتجلّى أوغستو بينوشيه في الفيلم المُعنون بلقبه الحقيقي المُفضّل «الكونت» في صورة بعيدة عن حقيقته التاريخية، لكنّه بعد يستقطبُ آثار قمعيته ذائعة الصيت ضمن مُتون القمع والسُلطوية في أمريكا اللاتينية. الرئيسُ هنا، محطّة تاريخية بدأت قديمًا، ولم تنته بموت الكونت، لأنّه زيّف موته، استقر في ريف تشيلي، يرتدي بزّته العسكرية كُل ليل، مصحوبة بوشاح للطيران أعلى مدينة سانتياغو ليلًا، لصيد القُلوب الحيّة وعصرها، ثم التغذّي على طزاجة الدماء كي يظل حيًا.

يتحرك الفيلم عبر الخيال إلى مساحات متطرفة وذكية من نقد واقع الديكتاتورية التي ما زالت أصداؤها قائمة في تشيلي، فإرثُ بينوشيه ما زال قائمًا. لم يُشارك زُعماء المُعارضة اليمينية في تشيلي في ذكرى الانقلاب العنيف والوفيات التي تلته على يد بينوشيه، إضافةً إلى رفض التوقيع على عريضة التزام بالديمقراطية، بينما على مُستوى الشعب، يعتقدُ أكثر من ثُلث التشيليين أن انقلاب بينوشيه كان مُبررًا، ويرى أكثر من 20% منهم، أن الديكتاتور الراحل في 2006- دون أي إدانة رسمية، رغم ثبوت وقائع اعتقال وعُنف وتعذيب، إضافة إلى السرقة والإحتيال- أحد أفضل حُكّام تشيلي في القرن العشرين.

في ظل ترسّخ مُفردات القمع، التي تغرز أنيابها في قلب الوعي الجماعي للمُجتمع، فضلًا عن وجود نماذج مُشابهة كثيرة، في أمريكا اللاتينية، ورُبما في مُجمل الدُول المُفقرة، كيف يُمكن أن تتم السُخرية من طاغية سياسي، دون الوقوع في فخّ التوثيق الذي يُحيل إلى تعاطُف مجّاني سريع الزوال؟

بينوشيه الأبدي

إن كان جوهر السلطة ممارسة القيادة، من الواضح أن ليس ثمة سلطة أكبر من تلك التي تنبع من فوهة البندقية.
حنّة أرندت

يرتكزُ فيلم الكونت على استعارة مركزية، تقوم على أن بينوشيه ونظامه ليس مرحلة مؤطرة زمنيًا، تنتهي مع زوال القرار القمعي، فهي حالة تتداعى بشكل خالد، يتردد صداها عبر التاريخ. لذلك، رأينا بينوشيه بعيدًا عن كل حيثيات واقعه الديكتاتوري، ثمّة إدراك لمدى فظاعة حُكمه من حيّز بعيد، حيثُ الكونت يُزيّف موته، يعيش في الجنوب، يقتات كمصاص دماء على القُلوب الطازجة.

جاءت فكرة الفيلم ببساطة عبر موقف سريع لبابلو، رأى فيه بينوشيه وهو يرتدي زيّ جنرال عسكري، عباءة طُويلة بوجه يبتسم، بذكاء القتلة، وعند هذه اللحظة كوّن بابلو انطباعًا بأن هذا العسكري، مُجرّد مصاص دماء.

من خلال ملمح الخُلود الحاضر في الفيلم، نرى حيّزًا ضيقًا من الصراع، يتآمر أبناء بينوشيه على الوالد للحصول على الميراث، تتحايل زوجته عليه كي يعضّها وتُحقق ابديتها مرة أخرى، بينما الخادم الروسي، بُحكم ولاءه، مصّاص دماء كمكافأة من الرئيس.

يستحيلُ الفضاء الريفي المُحدود إلى تمثيل إبداعي للسُخرية من مفردات الديكتاتورية، ثمّة هجاء حاد مُفعم بالخيال، كسُلطة مُوازية، للاشتباك مع الإرث الذي يشملُ بينوشيه ويتجاوزه، لأن مُعالجة الفيلم ليست معنيّة بتوثيق تاريخي، فإدانة بينوشيه لن تُجدي نفعًا، لأنه مات ثريًا دون مُحاكمة ليوم واحد.

يتمتع بينوشيه في عالمه الشبحي برفاهية الحُزن والسلطة، فالأول مُتولّد من اعتباره لصًا، بينما مسائل القتل والتعذيب ليست مشكلة، لأن الرئيس لم يكن ليخلق مُجتمعًا آدميًا دون سحق اليسار، بينما السرقات، فهي شحيحة مُقارنة بنماذج ديكتاتورية أخرى، ويُمكن للجُندي أن يُتّهم بالقتل لكن السرقة، لا طبعًا.

يأتي التناول النظري لهذه الحالة المُطلقة حيثُ السلطة كنموذج يمتد مع الكونت من الحياة كرئيس إلى أخرى في الريف بنفس استحقاقية السُلطة في كتاب «الطاغية» لإمام عبد الفتّاح، الذي يذكر أن جبروت الطُغاة، بالأساس، قائم على شرعنة السُلطة، فحينما تتواجد مُفردات القوة والقهر، يوجد معها التبرير المُشرعن بأحقيتها، لكن الصُورة الإنسانية للسُلطة، لا يُمكنها أن تقوم بأي حال على قمع حُريّة الأفراد.

يتجاوز الفيلم هذه القاعدة، مُعتبرًا أن إطلاق سُلطة بينوشيه مسألة حدثت، وجذورها ما زالت حاضرة في تشيلي ومُستحالة إلى العالم، درجة أن الفيلم يُظهر الطاغية في صُورة حاكم ثيوقراطي- Theocratic، التي تعني، مثلما يُشير إمام، الحُكم المطلق المتعسف الذي يأخذ برقاب الناس باسم إرادة ترتقي إلى مقام الإرادة الإلهية.

تغيبُ مدينة تشيلي في الفيلم ولا تظهر إلى بعين بينوشيه الطائر في الليل لصيد القُلوب، نرى آلية القمع عبر مجازٍ سينمائي يحوم من بعيد، لكن هذا المجازُ يكتسبُ براح الإحالة إلى ما يُجاوز بينوشيه نفسه، ويأتي تجهيلُ الطرف الآخر، المقموع، من إقرار سبينوزا بأن الأفعال اللاأخلاقية واللاقانونية، تأتي من سلب الإنسان لسُلطة العقل، فمع هذه الحالة، يُمثّل العُنف فعلًا إقصائيًا للوجود البشري كجماعة.

يأتي التناول العمومي للفيلم القائم على الخيال والسُخرية، ليُطالعنا على طبيعة عصر التكنولوجيا والتوظيف الأيديولوجي للعلوم، ويتجلّى عُنف السلطة في هذا السياق مُسيّر بالغاية في تحقيق «الضبط»، حتى بات مُبرر هذه الغاية، مثلما تُشير حنّة أرندت في كتاب «في العنف» مُمتدًا إلى أن مزيدًا من الردع، والقتل والتعذيب، هو خير ضامن للسلام.

لا يُدين بينوشيه نفسه طُوال الفيلم، بل يبتعدُ هو وعائلته عن كُل ذلك، ويرى أنّه كان عسكريًا منضبطًا، بل يُمكن اعتبار أن كل هذه الأسئلة لم تكن في باله من الأساس، هُناك جوع نحو البقاء، نحو مزيد من الدماء الطازجة، لكن مثلما تأكل مثل هذه المنظومات ذاتها لتُنتج من جديد في صُور مغايرة، فإن الأساسي في الفيلم هو صراعات داخلية للعائلة. الشعبُ هناك، بعيدًا، ينتظرُ ليلًا احتمالات الهلاك والنجاة.

مرارة السُخريّة

من فيلم El Conde - إخراج بابلو لارين
من فيلم El Conde – إخراج بابلو لارين

تنبع الكوميديا في فيلم الكونت، أولًا، من خلال تقديم طريقة يتصرّف بها بينوشيه، الذي ما زال يتعامل مع مشواره العسكري، كحاكم، على أنّه مرحلة خرج منها فائزًا، بينما هو في الزمن الفيلمي، تفوح منه رائحة عدم الأهمية في جسدٍ مُتهالك، لا يُنقذه حتى الدماء الشابة.

أدرك لارين مُنذ العمل على فيلمه، أن مُواجهة الأيديولوجية السياسية بشكلها القمعي، لن تكون لعبة ناجحة، أو بها أي تأثير فعلي، في حالة تكرار نفس سرديات الإدانة المُثبتة بمقاطع من أرشيف، أو حتى بإدانة دولية، كُل هذه الأدوات حاليًا أصبحت مُستهلكة، لا يُمكنها كسب أي موقف حقيقي، أو توليد وعيٍ -يُمثّل أحد أشكال المقاومة الفعلية- كافٍ لإدراك إجرامية حُكم بينوشيه.

إذًا، ليست هُناك حكاية واقعية، منعًا لمجّانية التعاطف، وبدلًا من ذلك، ستحضر المهزلة والهجاء بتطرف بصري وحدّة صُورية، كأن فعلُ الإدانة عبر الواقع، يجعلنا على مساحة تراتبية من مُواجهة الحاكم، لذلك يكسرُ لارين هذه الحالة، إذ يحضرُ الخيال كوسيط يُمكنه وضع طرفي الحكاية في حيّزٍ مُتساوٍ، اعتمادًا على سحر السُخرية التي لا تقوم فقط على إدانة الآخر، بل تجعلُه مُدانًا أمام نفسه بفعلٍ التقليل.

قبل العمل على فيلم «الكونت»، دُعي بابلو لارين لإخراج فيلم كبير في الولايات المُتحدة، كانت فكرته حرب عصابات مُخدرات في لوس أنجلوس، وأراد بابلو أن يجعل الخارج مادة مركزية للفيلم، حيثُ قُوى العصابات تُعربد في صراعات حادّة. أُصيب المسؤولون التنفيذيون بالذُعر، لأن ذلك يُمكن أن يحدث في المكسيك مثلًا، في كولومبيا، لكن في الولايات المُتحدة؟ هذا لا يُحدث إلا من أثرياء أمريكا اللاتينية، النازحين إلى الولايات المُتحدة بحثًا عن الارتقاء، ولن يكون في شوارع لوس أنجلوس هؤلاء الرجال الذين يسحبون بنادقهم ويطلقون النار على بعضهم، هذه الأشياء تُرى من بعيد، ولا تحدث في الشارع.

للمُفارقة، أخذ بابلو بهذا الرد المُدجّن بالطابع الأمريكي المُجمّل عُنوة، وعمل على فيلم، به رؤوس تُقطع ودماء تُشرب وصراع عائلي مُحتدم، بينما جسدُ الديكتاتور -العلامة التي يجب أن نتفاداها- يُشير إلى شخصٍ مفعم بالسذاجة والغباء، والتداعي كذلك، حتى مع وجود إكسير الدم الطازج، دفع كُل هذه الأشياء داخل عالم نائي، به هاجس الخيال الذي، مع الاشتباك معه، نعود إلى الواقع أكثر، عبر صورة ثُنائية اللون بالأبيض والأسود، تُشير إلى نزع أحقية الإدانة والسُخرية والتهكم وقراءة العالم من خلالها.

الأبيض والأسود

لا أعتقد أنك بحاجة لمكان مُظلم كي ترى الشر، عليك فقط أن تتشجّع قدر الإمكان.
بابلو لارين

يُستعاد الأبيض والأسود في السينما خلال السنوات الماضية، فيأتي كإشارة لتأطير الماضي في صورة خيالات تستحيل إلى واقع، يُشكّل سيرة، مثل فيلم«Roma» لألفونسو كوارون، أو دلالة لشيء ما، مُضمر بداخل شخصية تنطبق على ذاتها، بينما ثُنائية اللون تعكسُ ذلك المجهول الداخلي بنفس مجهوليته، مثل فيلم «Ida» لباوليكوفيسكي. يُمكن لشاشة الأبيض والأسود، أن تعكس عالمًا له حُضور أسطوري، يقوم على ضباب التوّهم المربوط بأسطرة التاريخ وهواجس تعكسها عُزلة بعيدة لشخصين أمام عرض البحر، مثل فيلم The Lighthouse.

لدى الأفلام المذكورة داعٍ فنّي للتنازل عن ألق الألوان الظاهري، لأجل ألق له حُضور أعمق حينما يوظّف إبداعيًا كآلية فاعلة في المادة الفيلمية، بعيدًا عن التوّرط في فخ الحنين إلى كلاسيكية السينما.

تتّخذ سينما الأبيض والأسود في فيلم الكونت بُعدًا مُميزًا، لا يشغلُ الفضاء الصوري العام فقط، بقدر ما يجعلُ تفصيلات هذا العالم أكثر حدّة، رغم أن الفيلم يقوم على ظاهر ساخر، بينما دواخله مُفعمة بجديّة إدانة الديكتاتورية والنظام القمعي، وبينوشيه يجلسُ في وسط هذا كنموذج.

ثمّة حُضور للألوان في الفيلم، داكنة أكثر من العادي، لها حُضور حاد وقاسٍ، فالدماء فاقدة لوهج الأحمر المُعتاد، ذات لون داكن مُلطّخ بخيالات الأزرق المُحبّر، إضافة إلى الحُضور الشبحي لعائلة بينوشيه.

خلال التحضير للفيلم، عمل مُدير التصوير إدوارد لاكمان على اختبار تباين تكوينات المشهد عبر الأبيض والأسود، ووجد أن زُرقة الدم تتمتّع بانطباع به مزيد من اللمعان والشفافية أكثر من اللون الأحمر، إضافة إلى إعتماد ثيمة تصوير، تستدعي عن قصد، المزاج الشكلي الهوليودي في منتصف القرن الفائت، التي صوّرها مديرو تصوير كِبار، مثل جريج تولاند الذي عمل مع المُخرج الأيقوني أورسون ويلز. كانت رؤية لاكمان البصرية للفيلم مُحدّدة مُسبقًا، بداية من البحث عن عدسات Ultra Batlar التي استُخدمت في 1938، وصوّرت أفلامًا مرجعية مثل Citizen Kane.

على مُستوى استخدام الظلال، والتوظيف الخّلاق لفضاءات الريف الجنوبي في تشيلي، استغلّ لاكمان الإضاءة العامة المُتعلقة بالمساحات الخارجية، حيثُ تمّ الاعتماد على إضاءات النوافذ الجانبية والعُلوية في المنازل القديمة، لتخلق مظهرًا يعكسُ بُعدًا واقعيًا، على وجوه أشخاص بأجساد حقيقية في عالم حقيقي مصبوغ بقتامة الشر، لذا كان مُتعمّدًا أن تظهر الشخصيات في مشاهد كثير بعيون قاتمة، بالكاد يظهر تشريحها الداخلي، فهؤلاء الأشخاص يختبئون من بعضهم، ومن أنفسهم بشكل ما، وبالتالي بدأ هاجسُ الغُموض في الفيلم مُنطلقًا من عيون هذه الشخصيات، ليتم نقله إلى مزاج عمومي يحوم حول الفيلم. ثمّة دماءٌ يُنتظرُ أن تُراق.

يُطالعنا فيلم «الكونت» على أسلوب سينمائي ليس بجديد تمامًا، بقدر ما تبدو طزاجته من جودة التوظيف المُناسب، على فضاء أوسع للسينما كي تُقدّم فيلمًا ينفذ إلى قلب ما هو سياسي، دُون أن تتراجع مُجبرة إلى ضرورة التوثيق، فالحُضور السينمائي في الفيلم، عبر الخيال، له تأثير أكثر عُمقًا من رؤية كُل شرائط الفيديو الموثّقة لديكتاتورية بينوشيه، لأن الضرورة هُنا تتعلّق بانعكاسات النُظم الديكتاتورية علينا، وعلى قدرتها على تحويل المُجتمعات المُفقرة إلى وُحوش مُحتملة من فرط العُنف المُبطن بداخلها.

في فيلم الكونت، ثمّة عالم يوهمنا عبر الوسيط السينمائي بأنّه قائم على خيال ما، لكن الوقوع في الورطة يحدثُ حينما نجدُ هذا الخيال يؤول إلى انفعالات، نُقاربها مع انفعالاتنا حول ردود فعلٍ واقعية، مُعاشة، نشتبك معها في اليوم العادي.