يعرض في رمضان الحالي ثلاثة أعمال تناقش العلاقات الأسرية والعاطفية، بشكل خاص مشكلات تلك العلاقات، كيف تنهار وكيف تتشكل وما هي دورة حياتها، تتناول الأعمال موضوعاتها بأشكال وأنماط مختلفة، بعضها يتناولها في صيغة رومانسية كوميدية مثل «مذكرات زوج» الذي يعيد صياغة عمل بنفس الاسم من عام 1990، و«كامل العدد» الذي يتناول أسرة غير تقليدية بشكل كوميدي، بينما يتناولها مسلسل «الهرشة السابعة» بنزعة دراما اجتماعية، وأحيانًا يحول المزاج العام (Tone) المتبع ليصبح أقرب للرومانسي الكوميدي قبل أن يتحول للدراما الاجتماعية مرة أخرى.

يعتبر مسلسل الهرشة السابعة من أكثر الأعمال إثارة للجدالات والتحليلات بين المشاهدين، خاصة على الإنترنت بين فئات سنية تبدأ من المراهقة فأكبر ، تنبع النقاشات من تكثيف السرد لعلاقتين رئيسيتين دون تشعب ومن كون الشخصيات دائمة التبدل والتحول لا يأخذ العمل صف أحدها على الآخر، مما يجعل وجهات النظر متنوعة ومتشابكة.

يأتي الهرشة السابعة من تأليف ورشة سرد لمريم نعوم، وإخراج كريم الشناوي، بعد نجاح كبير لمسلسل خلي بالك من زيزي عام 2021، والذي قامت ببطولته كذلك أمينة خليل، هذا العام تتقسم تلك البطولة بين أربعة ممثلين يمثلون زوجين من الأزواج، أمينة خليل ومحمد شاهين/ أسماء جلال وعلي قاسم، يتبعهم العمل في صراعاتهم اليومية الحميمة ومحاولاتهم في إنجاح علاقاتهم.

ينتمي كل أبطال العمل لطبقة متوسطة عليا، لا ترتفع إلى الحد الذي يجعل التوحد معهم مستحيلًا من الطبقات الأخرى، ولا تنخفض إلى الحد الذي يجعل تجاربهم قريبة من الشريحة الأكبر من المجتمع، فهو يحكي حكايات محددة لأناس محددين، ويجمعهم بشكل رئيسي بجانب الأعمال الأخرى التي تتناول موضوعات مشابهة : مذكرات زوج وكامل العدد خوف من توابع تكوين أسرة نووية.

أب وأم وطفلان

يستخدم مصطلح «العائلة النووية – Nuclear Family» لوصف نوع مستحدث من العائلات يعتبر غربيًّا مرتبطًا بأمريكا الشمالية بشكل رئيسي، وهي العائلة المكونة من زوج وزوجة وأطفال في بيت منفصل، يأتي المصطلح ليفرق بين تلك العائلة المستحدثة في مقابل العائلة الممتدة، أي أن يتزوج الزوجان في بيت عائلة ضخم وينجبان فيه، أو العائلات التي تتضمن أمًا أو أبًا أعزبين، أو العائلات المكونة من أزواج من تفضيلات جنسية مختلفة، أو العائلات التي تختار عدم إنجاب الأطفال، يأتي وصف نووية من فكرة الجوهر، النواة الواحدة التي تنتمي إليها الأسرة بشكل رئيسي منفصلة عن غيرها، يلاقي ذلك النوع الذي أصبح هو الطبيعي من العائلات آراءً مختلفة في المساوئ والمحاسن، لكنه يمثل حلم وهدف الكثيرين، أسرة مستقرة في بيت رحب وأطفال وربما حيوان أليف، ذلك الحلم المرتبط بشكل حياة أمريكي يتحول إلى كابوس في العديد من الأحيان، خاصة مع تحميله توقعات مثالية متعلقة بالأدوار الجندرية والاستقرار المادي.

يتعامل الهرشة السابعة مع أسرتين نوويتين: أسرة نادين (أمينة خليل) وآدم ( محمد شاهين) وأسرة أخرى في جيل يكبرهم، وهي أسرة والدة نادين وأبيها، يقوم بدورهما عايدة رياض ومحمد محمود، وأسرة ثالثة تتجنب مفهوم الأسرة النووية الكلاسيكية، وهما شريف (علي قاسم) وسلمى (أسماء جلال)، اللذان يتجنبان من بداية علاقتهما الوقوع في مساوئ الأسرة النووية بمفهومها المحافظ، لكن ذلك لا ينجيهما من تعقيدات أخرى، يتبع الهرشة السابعة بناءً سرديًّا لطالما شوهد في السينما والتلفزيون، علاقات الحب الممتدة التي تتحول إلى جحيم على الأرض بعد الزواج وتكوين أسرة، تبدأ الأحداث في شكل يصور عالمًا مثاليًّا، حبًّا متبادلًا وآمالًا للمستقبل، قبل أن تتحول لمواجهات عنيفة بين الطرفين.

في حالة آدم ونادين يفسد تكوين العائلة تناغمَا دام 22 عامًا، يسرد المسلسل ذلك الانهيار تدريجيًّا، يضع المشاهد في قلب شخصية نادين فترة قبل أن يتحول إلى شخصية آدم، وطيلة تلك العملية لا يتعامل مع شخصية بتفضيل عن الأخرى، أو يتولى وجهة نظرها، لكنه مع ذلك يعي المشكلات النابعة من تأصيل طويل للظلم الجندري، المتمثل في استحالة تغيير الأدوار الرئيسية والمساحات التي يحتلها الرجال والنساء مكانيًّا داخل البيت أو خارجه ووظيفيًّا داخل الأسرة، تنمو المشكلات الرئيسية من التوقع القائم من الزوجات نادين في تلك الحالة بتولي مسئولية أطفالها كاملة، وأن يكون مكانها الرئيسي هو منزلها، بينما يمتلك الزوج حرية تغيير المسيرة المهنية والبحث حتى يجد العمل المناسب والنجاح في عدة مجالات دون حمل هم توقيت مكوثه خارج المنزل أو تحمل مسئولية أولاده.

المساحة داخل الفرد والمكان

يتعامل الهرشة السابعة داخل المساحات الداخلية بشكل رئيس،  يعمل كدراما غرفة Chamber Drama، ويفيد في ذلك قضاء النساء أوقاتهن في المنزل، مما يجعل الجدالات الحادة داخلية مكانيًّا، يستغل ذلك في الجانب التقني والفني مدير التصوير مصطفى فهمي ومصممتا الإنتاج شذى ضياء ومونيكا عمانوئيل والمونتير باهر رشيد في إرساء العلاقات بين الشخصيات داخل المساحات الداخلية، مما يصنع إمكانية لتوزيع الشخصيات بشكل يخدم السرد البصري، كما أن الطبقة المرتفعة التي تسكنها الشخصيات تساعد في جعل بيوتهم أكثر وسعًا ورحابة فيسهل تمثيل الانفصال والاتصال بصريًّا عن طريق البعد أو القرب المكاني بين شخصية وأخرى، تعمل البيوت كحواجز بين تلك الشخصيات أو كمساحات خانقة تجمعهم، مثل المشهد الشهير الذي جميع شخصيات آدم ونادين على طاولة المطبخ يفككان علاقاتهما في مساحة محدودة حتى تنهار أمامهما بالكلمات فلا يصبح لاستكمالها معنى.

يساهم تصميم المساحات كذلك في تأطير العلاقة الرئيسية الأخرى التي يتناولها المسلسل، علاقة شريف وسلمى، يحتل كلاهما مساحة منزلية معقدة مضاءة بدقة وبشكل أسلوبي، ترتبط الشخصيات بالمنزل بشكل رئيسي، فالمنزل هو مكان عمل شريف ومحل عودة سلمى، تصبح المنازل شخصيات رئيسية داخل العمل، تنطلق علاقة الشخصيات بالمساحات بالجيل الذي يسبقهما، شريف ابن لأسرة منفصلة، لكنها متقاربة، أم فرنسية وأب مصري، يصعب تحديد عمل كل منهم لكن يرتبط وجودهم بمساحات تحركهم، وهي حديقة كبيرة مثمرة، تمثل علاقة أبوي شريف مدخلًا لفهم رؤيته للعلاقات، فهما يتصرفان مثل أسرة متماسكة نووية، وهما ليسا ذلك، يمثل ذلك الجانب تضادًّا مع الجانب الذي تمثله أسرة نادين، ففي حين تتدهور علاقتهما بسبب جمود شكل الأسرة المعاصرة فإن شريف وسلمى ووالدي شريف يعيشون في أسر بديلة حتى مع ظهور المشكلة الكبرى في علاقتهما المتعلقة بوجود ابنة مجهولة لسنوات فإن العلاقة لا تتحول إلى أسرة نووية تقليدية، بل أسرة معقدة لا تتضمن الأدوار الجندرية والأسرية الصارمة، يمضي شريف وقته في المنزل يصنع الطعام ويعمل، وتخرج سلمى إلى العمل في مساحة خارجية، ويحدق بهما رعب الأسرة النووية المحتملة بسبب اختلافهما على مبدأ إنجاب الأطفال.

يتعامل الهرشة السابعة مع صراعات الأسرة التقليدية والمغايرة بدقة معظم الوقت، يعطي لأبطاله مساحاتهم في تلقي الحب والكراهية من الجمهور، لكنه يفقد قوته حين يستعيض عن التعقيد بالتبسيط الذي يجعله أكثر سهولة في الهضم ويحول المزاج القاتم لدراما الغرفة التي تستدعي أعمالًا كبيرة مثل مشاهد من زواج Scenes From A marriage لانجمار بيرجمان في السبعينيات، أو حتى أعمال معاصرة مثل حكاية زواج Marriage story لنواه بامباك في 2019، إلى مزاج أشبه بالأعمال التي تعرض على المنصات المدفوعة تستهلك في ساعات ثم تنسى للأبد،  يتجنب الهرشة السابعة في كثير من الأحيان النغمة التي بناها سلفًا، إحساس عدم الراحة والقلق النابع من استحالة تغيير الأوضاع والفكاك منها أخيرًا في انفصال صعب وكأنه قطع مؤلم، ويدرج داخل تلك القسوة مشاهد يمكن وصفها بالسذاجة لنجاحات وهمية أو مواهب متوسطة تساعد أبطاله على التخطي، بجانب استخدام أدوات سردية مباشرة لا تترك للشخصيات مساحة للغموض مثل الحديث بشكل مباشر أمام الأطباء النفسيين وشرح كل شعور داخلي داخل الشخصية بشكل مسموع، لكنه وعلى الرغم من تلك النزعة نحو إرضاء ذوق النهايات المرضية يظل أكثر أعمال العام نضجًا في جانب بناء الصراعات.
تشكل الأسر والعلاقات الثنائية موضوعًا لا ينضب للتناول الدرامي، ويوجد آلاف الطرق لتناولها، بشكل نوعي أو شكل حر، كوميدي أو تراجيدي، لكن ما جعل الهرشة السابعة على الرغم من عدم مثاليته في كل العناصر أحد أكثر الأعمال متابعة في رمضان هو كونه عملًا على مقياس صغير، يقف عند الحوارات اليومية ويكتسب دراما شخصياته من المراقبة الدقيقة لهم، فتصبح تصرفاتهم نابعة منهم وليست مقحمة عليهم، لكن يعيبه نزعة متكررة في أعمال ورشة سرد، وهو الإسراع في لم شمل الجميع في النهاية وتغيير النغمة العامة بشكل مفاجئ لإرضاء الجمهور بنهاية سعيدة دون اعتبار لما سبق تناوله طيلة أسبوعين كاملين.