في أعقاب هزيمة 1967 ظهرت مجموعة من الأفلام لمخرجين أمثال يوسف شاهين، وكمال الشيخ، وصلاح أبو سيف وغيرهم، تحاول مواجهة الواقع بقدر كبير من النقد في محاولة لتحليل أسباب الهزيمة الكارثية التي حلت بمصر.

توفيق صالح هو واحد من هؤلاء المخرجين، والذي عُرض له خلال عامي 1968 و1969 ثلاثة أفلام من أصل خمسة أفلام أخرجها في مصر، هي بترتيب عرضها: «المتمردون»، و«السيد البلطي»، و«يوميات نائب في الأرياف». ومع أن الأفلام الثلاثة تدور أحداثها في عهد الملكية، قبل زمن الثورة وهزيمتها، فإن رؤيتها النقدية للواقع تتجاوز زمنها الخاص إلى اللحظة الآنية أو زمن عرضها.

من بين أفلام صالح الثلاثة سالفة الذكر، عادة ما يُتَجَاهل فيلمه «السيد البلطي» كواحد من الأفلام التي ظهرت بعد هزيمة 1967 وسعت لتحليل أسبابها وتفكيكها، في تجاهل غريب للسياق الذي صنع فيه الفيلم وخرج إلى النور، إذ أخرج صالح الفيلم بعد 3 أشهر فقط من هزيمة 1967 وتأجل عرضه لأسباب رقابية كعادة أفلامه إلى عام 1969، وتجاهل أيضًا للوعي النقدي الفريد الذي يحمله الفيلم باعتباره من أول الأفلام التي سعت إلى تفكيك أسطورة المخلص الفرد التي حكمت مسار النموذج الناصري.

الفيلم مقتبس عن رواية صالح مرسي، «زقاق السيد البلطي»، التي تدور أساسًا حول جدل القديم والحديث وحتمية التطور، حيث يواجه مجتمع الصيادين ثلاثينيات القرن الماضي والذي لا يزال يستخدم أدوات صيد بدائية، رياح التغيير المتمثل في مركب ضخم بموتور سيمتلكه أحد أغنياء الشط. على رأس هؤلاء الصيادين المهددين بالتغيير القادم عائلة البلطي، والتي كانت تحكم الشط حتى وقت قريب بسطوة كبيرها السيد البلطي، الرجل الذي تحول في وعيهم الجمعي بعد أن طمره البحر في أعماقه، إلى أسطورة حية.

يعيد توفيق صالح عبر السيناريو الذي كتبه بنفسه كبقية أفلامه السابقة تشكيل الرواية وشخصياتها وصراعاتها إلى حد بعيد، خالقًا واقعًا يمكننا أن نتلمس خلاله وبوضوح ظلال الهزيمة وحالة الفوضي والضياع التي تلتها، بالإضافة إلى محاولة تحليل الأسباب التي قادت إليها.

يمكننا أن نرى ظلال الهزيمة في تبدل الزمن وتغير موازين القوة، وفي حالة السقوط والتفكك التي تعاني منها عائلة البلطي بعد أن كانوا يحكمون الشط حتى زمن قريب، وفي حالة الفوضى والخوف التي تسود الشط مع أنباء اقتراب وصول المركب الذي يهدد مستقبلهم للأبد. يحاول سيناريو صالح تعميق هذه الحالات وجعل الأمر أقرب للكارثة في محاولة لخلق معادل موضوعي للهزيمة. لا يوجد توصيف لهذا الوضع الكارثي الذي يسود الشط أكثر بلاغة من كلمات حنفي/عزت العلايلي ابن السيد البلطي وحامل إرثه في مناجاته للأب الغائب الحاضر:

وإيه العمل يا سيد؟ السما بتنطبق على الأرض، والزمن بقى كلب واتسعر.

أسطورة البطل المخلص كأحد أسباب الهزيمة

انطلق الفيلم من مفهوم أنه إذا قام الشعب بخلق أسطورة من شخصية ما، يتوقف عن العمل معتمدًا على هذه الشخصية التي ستعالج كل الأمور وستحل كل المشكلات، والنتيجة ستكون الهزيمة.
«توفيق صالح» متحدثًا عن فيلمه «السيد البلطي»

يمكننا أن نرى في شخصية السيد البلطي، الأب الذي يمثل نموذجًا للبطل المخلص، معادلًا موضوعيًّا لشخصية عبد الناصر. البطل الذي يؤسس غيابه في حالة السيد البلطي وهزيمته في حالة عبد الناصر، للحظة الفوضي والسقوط الآنية. البطل الذي رغم غيابه/هزيمته لا يزال الجميع يطلب منه المدد باعتباره وحده القادر على إزالة آثار الكارثة وتجاوز المحنة. يصير الأب بعد الغياب أكثر حضورًا وتحوله الأسطورة إلى قوة ميتافيزيقية يُطلب منها المدد في الشدائد.

تنوح زوجة السيد البلطي/ناهد سمير: «بقى لو كان موجود كان ده كله حصل، يا ترى أنت فين دلوقتي يا سيد؟!» مثلما يناجي الابن حنفي الأب الغائب مواجهًا البحر: «والعمل إيه دلوقتي يا سيد، ساعدني يابا، دلني على الطريق، دا أنا ابنك يا سيد». يقطع صالح هنا أثناء المناجاة على لقطة من وجهة نظر موضوعية لقلعة رملية على الشط يجرفها مد الموج في طريقه مؤطرًا بذلك سرابية المناجاة والحلم باستعادة زمن الأب.

يؤمن الصيادون أيضًا بضرورة وجود سيد آخر يتم الاعتماد عليه، لكن لا أحد يريد أن يتحرك من أجل التغيير. يعزز هذا التعلق بفكرة البطل الفرد وتحويله إلى أسطورة وعي قدري وتفكير بدائي يؤمن بالخرافات والأساطير لدى كل الأجيال داخل هذا العالم. طالما انتقدهما توفيق صالح في أفلامه الأولى «درب المهابيل»، و«صراع الأبطال» ويستمر هنا أيضًا في نقدهما ومحاولة تجاوزهما عن طريق الوعي النقيض والجدل القائم بينهما. هذا الوعي النقيض يمثله محمود البلطي/محمد نوح، ابن عم حنفي، وجمعة/عبد العظيم عبد الحق، حكيم الصيادين.

يفتتح صالح فيلمه بخروج محمود على سلطة الأب والعائلة إلى «الدنيا الواسعة»، على حد تعبيره. هذه الحركة نحو الخارج وبعيدًا عن ظلال الأب مصحوبة برغبة أصيلة للاقتراب من الواقع وفهم قانونه من أجل أن يوجِد مكانًا لنفسه داخل عالم يتغير يومًا بعد آخر. شخصية محمود تقف على طرف نقيض من شخصية حنفي الذي يرغب في إعادة عقارب الساعة للوراء وإعادة محمود إلى حضن العائلة مرة أخرى حالمًا باستعادة زمن الأب، والجدل بينهما هو ما يصنع معني الفيلم ووعيه الخاص. يصرخ محمود في حنفي على إثر محاولة الأخير إقناعه بالعودة مرة أخرى للبيت: «الدنيا وشها بيتغير كل يوم عن التاني وأنت لسه بتحلم بعزوة أبوك».


غياب الرؤية كأحد أسباب الهزيمة

في فيلمه السابق «المتمردون» يصل صالح عبر وعي نافذ إلى لحظة الهزيمة قبل حدوثها. حقق الفيلم قبل هزيمة يونيو، ولكنه أيضًا – لمشاكل رقابية – لم يُعرض إلا عام 1968. التمرد الذي حدث علي الإدارة الفاسدة لمصحة أقيمت في الصحراء لمرضى السل، يبوء بالفشل لأن قادة التمرد بلا وعي حقيقي أو رؤية للإدارة. فبعد استيلائهم على إدارة المستسفى يتساءل أحد قادة التمرد: «ماذا بعد؟» لكن السؤال يظل معلقًا دون إجابة لأنه لا أحد فيهم يمتلك إجابة له.

في حوار لصالح عن فيلمه «المتمردون» يقول:

هذا أيضًا هو الفرق بين حنفي البلطي ومحمود البلطي، كلاهما يدرك واقع الفقر والظلم الذي يسود الشط ويرغبان في تغييره إلى الأفضل، يدركان ضرورة التحرك الجماعي لكن ما يفصلهما هو الوعي والرؤية. وعي حنفي وعي يتراوح بين القدرية والامتثال، بينما وعي محمود هو وعي حر يمتلك رؤية واضحة. حنفي الذي يلجأ إليه الصيادون للمشورة في وضعهم المتفاقم رغم عدم تمرده، فإنه امتداد لمتمردي المصحة في انعدام الرؤية أو على الأقل تشوشها لامتثاليته فهو غير قادر على أن يتحرك بعيدًا عن ظل الأب أو العائلة.

محمود يمثل الوعي الحاد والصدامي لصالح نفسه الذي يرى فيه الخلاص، وأنه وحده القادر على حل تناقضات الواقع. إنه صوته الخاص، صوت التمرد المستبصر والحلم «اللي بينور طريق الناس».


هزيمة الذات الفردية كأحد أسباب الهزيمة

المتمردون ليسوا ثوارًا، الفرق بينهم كالفرق بين من لا يملك نظرية ومن يملكها.

ينتقد صالح هنا أيضًا دور السلطة الممثلة في صورتها الاجتماعية (العائلة) في تشكيل ذات الفرد وتحديد مساراته. حنفي المتردد والحائر، يدور حول نفسه مكبلًا بإرث الأب وتقاليد العائلة. إنه ذات مهزومة، عاجز حتى أن يكون نفسه، يضحي برغباته الخاصة وبحبه لزوبة/سهير المرشدي ابنة خاله من أجل العائلة. ينظر إلى محمود المتحرر من وصاية الأب وقيم العائلة دائمًا بنوع من الغبطة والحسد. يراه يرقص ويشرب مع المرأة التي يحبها بحرية فيحدث نفسه:

يا بختك يا محمود، يا سلام لو زوبة كانت معايا هنا نرقص سوا، لكن العيلة ترضي؟! يرضوا يشوفوا ابن السيد سايب حمله وبيرقص؟!

هل يمكن لشخصية كحنفي أن تغير الواقع للأفضل، هل يمكن أن تنتصر ذات مهزومة في أعماقها؟

بالرغم من أن صالح حين صنع فيلمه هذا كان لا يزال تحت تأثير صدمة الهزيمة، لم تواتِه فرصة لمراجعة الذات أو تأمل الواقع عن بعد، فإنه استطاع أن يعكس في مرآة فيلمه ظلال الهزيمة القاتمة، مضمنًا فيلمه بعدًا نقديًّا أصيلًا لما كان قبل الهزيمة مع رغبة قوية في نسيان أوهام الماضي وتجاوزه نحو المستقبل بوعي حر.