لا يخشى إلا الله، ولكنه يستحي أن يقول لإنسان أنت مسيء، فقط يدعو له ويعظه في جموع المسيئين والمحسنين. يحمل الطهر في كل جوارحه، لحقيقةٍ جُبل عليها، عفّ اللسان مع من أساء، حييّ كالعذراء البتول، قوي في الحق الذي اعتقده، أب لكل أتباعه ومريديه، الشدة لا ترهبه، غياهب السجون لم تزده إلا إصرارًا على الحق.

بهذه الكلمات وصفت «زينب الغزالي» المرشد الثالث لجماعة الإخوان المسلمين «عمر التلمساني»، الذي يعد من أكثر مرشدي الجماعة تجديدًا وإصلاحًا، والتي كانت وفاته من أكثر المحطات تأثيرًا داخل الجماعة.بداية مُترفةولد عمر بن عبد الفتاح بن عبد القادر مصطفى التلمساني بمنطقة الغورية بحارة حوش قدم بالدرب الأحمر بالقاهرة في 4 نوفمبر 1904م، وينسب أصلة إلى بلدة تلمسان بالجزائر لعائلة تشتغل بتجارة الأقمشة ومن الأغنياء.عاش حياة ثرية حيث كان من علية القوم، يملك جده عزبة في القليبوبية ويعيش في منزل مساحته 800 متر، دخل مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية، ودافع عن تلميذ صديقه حدثت معه ضائقة من قبل ضباط المدرسة فتشاجر هو والضابط وترك المدرسة، وذهب إلى مدرسة الرشاد الثانوية ثم تركها وذهب إلى المدرسة الإلهامية الثانوية وتخرج منها، ثم اتجه إلى دراسة الحقوق في عام 1924م وعن رغبته الشخصية وحبه لها ولكنه رسب أكثر من مرة في كلية الحقوق.توفي والده وهو يدرس الحقوق، وفي تلك الأوقات أخذ التلمساني يفعل كل شيء وينفق أمواله في السينيمات وتعليم الرقص حيث قال: «شرائي سيارة رينو آبروليه رقم 2751 وانصرافي إلى الاستمتاع بحرية لم تكن متوفرة لديّ، فقد عرفت كل ما يعرفه الشبان الوارثون عدا الزنا والخمر من ارتياد السينما والمسرح والرقص في الصالات».انشغل التلمساني في حياته الجامعية بالعمل السياسي، وكان ينتمي لحزب الوفد ويتردد كثيرًا لحضور جلسات ومؤتمرات في بيت الأمة، ومعجب جدًا بشخصية سعد زغلول حيث قال: «أخذت السياسية مني وأنا في الجامعة اهتمامًا كبيرًا، فقد كنت وفديًّا بكل كياني وكنت كثير التردد على بيت الأمة».


ما الذي حكاه في مذكراته عن انضمامه للجماعة؟

يحكي التلمساني قصة انتمائه إلى الإخوان المسلمين: أنه في عام 1933 وتحديدًا في يوم جمعة ذهب إليه فى بيته كل من «عزت محمد حسن ومحمد عبدالعال» ليطلبوا منه الانضمام إلى الجماعة، ويذكر الحوار الذي دار بينهم كالتالي: «ماذا تفعل هنا؟»، فأثارني السؤال واعتبرته تدخلًا فيما لا يعنيه، فقلت ساخرًا: أربّي كتاكيت!، ولم تؤثر إجابتي الساخرة على أعصابه بل ظل كما هو موجهًا أسئلته، قال: هناك شيء أهم من الكتاكيت في حاجة إلى التربية من أمثالك، وقلت وما زلت غير جاد فى الإجابة: وما ذلك الشيء الذي في حاجة إلى تربيتي؟، قال: المسلمون الذين بعدوا عن دينهم فتدهور سلطانهم حتى في بلادهم وأصبحوا لا شيء وسط الأمم، قلت: وما شأني بذلك؟ هناك الحكومات والأزهر الشريف بعلمائه يتولون هذه المهمة، قال: إن الشعوب الإسلامية لا تكاد يحس بوجودها، هل يرضيك أن تدعى هيئة كبار العلماء ليلة القدر من كل رمضان للإفطار على مائدة المندوب السامي البريطاني وإلى جانب كل شيخ سيدة إنجليزية في أبهى زينتها؟، قلت: طبعًا لا يرضيني، ولكن ماذا أفعل؟، قال: إنك لست اليوم بمفردك، فهناك في القاهرة هيئة إسلامية شاملة اسمها جماعة الإخوان المسلمين ويرأسها مدرس ابتدائي اسمه «حسن البنا» وسوف نحدد لك موعدًا لتقابله وتتعرف إلى ما يدعو إليه ويريد تحقيقه، وشبت العاطفة الدينية الكامنة في دخيلة نفسي فملت إلى الرضا ووافقت على مقابلة الرجل وانصرفا بغير ما استقبلا به»، ومن هنا بدأت علاقة التلمساني بالإخوان، وترك تربية «الكتاكيت» ليربي المسلمين الذين تدهور بهم الحال، وإن كان هو من ضمن من يتوجب أن ينظر إلى إيمانه ومدى قربه من الله وينظر إلى أفعاله من رقص وغيرها.


ضم الأثرياء ومنهاج البنا

«وأما البعد عن هيمنة الكبراء والأعيان فلانصرافهم عن هذه الدعوات الناشئة المجردة من الغايات والأهواء والدعوات القائمة التي تستتبع المغانم وتجر المنافع ولو في ظن الناس لا في حقيقة الحال _ ولأننا معشر القائمين بدعوة الإخوان تعمدنا هذا لأول عهد الدعوة بالظهور حتى لا يطمس لونها الصافي لون آخر من ألوان الدعوات التي يروج لها هؤلاء الكبراء».هكذا صرح البنا في المؤتمر الخامس فيما يتعلق بضم الأثرياء إلى الجماعة، وهذا ما دفع البعض للتساؤل: لمَ يسعى بعض أعضاء الجماعة إلى ضم رجل غني ومن أثرياء القوم كالتلمساني؟، ولكن إلى يومنا هذا يظل هذا الأمر كغيره من الأمور المجهولة والمتناقضة داخل الجماعة.

يعدّ ضم شخصية مثل التلمساني للإخوان المسلمين خرقًا لما قاله البنا بالمؤتمر الخامس بالبعد عن الكبراء والأعيان.

على كل حال انضم التلمساني إلى جماعة الإخوان المسلمين والتقى بحسن البنا على إثر الدعوة التي كانت من قبل، ودخل منزل حسن البنا فرأى الفروق تتضح بينه وبين البنا حيث أنه -التلمساني- كان شخصًا في غاية الأناقة يلبس بدلة فاخرة، ومنزل البنا كان عبارة عن غرفة صغيرة بها مكتب صغير وكراسٍ تمتلئ بالتراب، حيث قال التلمساني: «تبينت أن في الغرفة مكتبًا صغيرًا غاية في التواضع وبعض الكراسي من القش يعلوها شيء من التراب، وجلس إلى المكتب وقدم لي آرسيا لأجلس، وعز عليّ أن أجلس على مثل ذلك الكرسي بالبدلة الأنيقة فأخرجت منديلًا من جيبي وفرشته على الكرسي لكى أستطيع الجلوس هادئا في غير تضجر ولا قلق. وكان ينظر إلى ما أفعل وعلى فمه ابتسامة واهنة ظننتها تتعجب مما أفعل ومما أدعى إليه، وشتان ما بين رجل يحافظ على أناقته ورجل على وشك أن يدعى للعمل والجهاد فى سبيل الله»، وظل التلمساني يستمع إلى كلام حسن البنا عن الجماعة وعن هدفها في التحول من القوانين الوضعية إلى العمل بالقوانين الإسلامية ولم يقاطعه في الحديث، وبعد أن انتهى البنا سأل التلمساني عن كونه اقتنع بالجماعة أم لا وترك له أسبوعًا لكي يفكر، حيث قال التلمساني: «ولما أنهى حديثه الذي لم أقاطعه فيه مرة سألني: هل اقتنعت؟ وقبل أن أجيب قال في حزم: «لا تجب الآن» وأمامك أسبوع تراود نفسك فيه فإنى لا أدعوك لنزهة ولكني أعرضك لمشقات فإن شرح الله صدرك فتعال في الأسبوع القادم للبيعة وإن تحرجت فيكفيني منك أن تكون صديقًا للإخوان المسلمين»، وبعد فترة من انضمام التلمساني للجماعة عرض عليه البنا أن يكون وكيلًا للجماعة ورفض التلمساني لأنه غير مؤهل لذلك وليست لديه إمكانيات تسمح له بتولي المنصب حيث قال: «عرض علي الإمام الشهيد أن أكون وكيلاً لجماعة الإخوان المسلمين فلم أقبل مقسمًا له بأني لست أهلاً لهذا المكان ولا أستطيع أن أملأ فراغه، وحرام علي أن أخدع الإمام بقبول تلك المكانة في الإخوان المسلمين»، ثم عين التلمساني وزيرًا لوزارة المالية بالإخوان المسلمين فقال: «وظللت فترة وزير مالية الإخوان».ومن الأمور الغريبة التي يذكرها التلمساني عن فترة عمله في الإخوان أيام البنا أن الأخير هو صانع الانقلاب، فمثلما قالوا تلك الأيام إن الإخوان صانعو ثورة يناير فمن قبل قال التلمساني «إن حسن البنا بصوفيته هو صانع «انقلاب 1952» وإن كانوا يتهموننا اليوم بأننا أعداء هذا الانقلاب».في عام 1973م تم اختيار التلمساني لكي يكون مرشدًا خلفًا للمرشد الثاني حسن الهضيبي واستمر في منصبه إلى أن توفي في عام 1986م.


إستراتيجية «الخطوات المتوازية» وحزب الشورى:

يتمثل الإسهام الأكبر للتلمساني داخل الجماعة في إستراتيجية المشي بـ «خطوات متوازية» وهي خطة خمسينية ترسم مستقبل الجماعة لمدة نصف قرن، قوامها التسلل بالنقابات والجامعات والمدارس والأنشطة السياسية والاقتصادية، والبعد التام عن الصدام مع النظام القائم، وهذا ما نجح فيه الإخوان شيئًا ما فترة توليه مكتب الإرشاد، ولكن ترتب على إستراتيجية التلمساني تلك تفاعل وصراع كبير بين جناحي الإخوان آنذاك «المحافظون والمجددون» أو جيل السبعينات والحرس القديم.وكثيرًا ما ردد البنا وأتباعه من قيادات الجماعة رفض الحزبية، ولكن التلمساني كان له رأي مخالف، ففي الوقت الذي أعطى فيه السادات مساحة واسعة للإسلاميين للعمل على الساحة السياسية، تقدم الإخوان بقيادة التلمساني في العام 1976 بطلب لإعادة العمل الرسمي للجماعة بعد قرار حلها في العام 1945، ولكن القضاء رفض البت في الأمر.في العام 1979 وعقب صدور قانون تنظيم الأحزاب، وجدت الجماعة ضالتها به وأصرت على الحصول على الشرعية كحزب سياسي، لم يعبأ السادات بالأمر، وأحال طلب التلمساني إلى وزارة التضامن الاجتماعي طالبًا منه التواصل معها، إلا أن رؤية التلمساني لكون الأمر سياسيًّا وليس قانونيًا دفعها لعدم التواصل.في العام 1984 وتحديدًا مع اقتراب موعد انتخابات مجلس الشعب، طرح التلمساني على الجماعة إنشاء حزب سياسي حيث أن قانون الانتخابات لا يسمح لغير حزبيّ بالترشح على القوائم الانتخابية، ولكن الأمر وجد معارضة من قبل الحرس القديم بالجماعة والحكومة، إلا أن التلمساني لم يستسلم للأمر وجدد طرحه مرة أخرى في العام 1986، وقام بمساعدة أبناء جيل السبعينات من وضع برنامج سياسي لحزب تحت اسم «حزب الشورى»، ولكن لم يشأ القدر أن يتم التلمساني مهمته تلك، والتي تكررت في أشكال عدة فيما بعد تارة على يد أبو الفتوح واقتراح حزب «الإصلاح» والذي تكرر على يد المهندس محمد السمان فيما بعد تحت اسم حزب «الأمل»، والتجربة الناجحة من تلك المحاولات جاءت على يد «عصام سلطان وأبو العلا ماضي» وفكرة حزب «الوسط».


شعرة الجماعة التي انقطعت

ارتكز فكر التلمساني على خطة وضعها عرفت باسم «الخطوات المتوازية» والتي من شأنها التسلل إلى النقابات والجامعات والمدارس والأنشطة السياسية والاقتصادية.

كان التلمساني بمثابة رمانة الميزان ما بين الحرس القديم وجيل السبعينات، والشعرة التي تربط بين هؤلاء وأولئك، حيث كان هناك جيل متصلب رافض للتجديد بمختلف صوره ثابت على أفكار المؤسسين، وجيل آخر يسعى للتطور والتحرك وهو جيل الوسط، ذلك الجيل الذي يرى أنه لا بد من ترك فكرة معاداة نظام حاكم لكونه نظامًا حاكمًا، ويود الابتعاد عن فكرة جعل فهم الإسلام البشري هو الإسلام الصحيح والادعاء بأن من يخالفه هو مخالف للدين الإسلامي طبقًا للحديث النبوي «من شذّ عن الجماعة فقد شذّ إلى النار»، ولكن بوفاة التلمساني اختل ذلك الميزان وبدأ الخلاف يظهر بشكل كبير.وبالفعل بعد عشر سنوات من وفاته وجدنا أن هذا الاختلاف تحول إلى تصارع على أرض الواقع وبدأ النداء إلى إنشاء حزب الوسط منذ عام 1996م، حيث اتجه أبو العلا ماضي وعصام سلطان إلى لجنة شئون الأحزاب لتأسيس حزب سياسي تحت اسم «حزب الوسط»، ولعل من نقاط الجمود التي أثبتها سلطان هي رفض مفتي الجماعة عبد الله الخطيب إقامة مسرحية بنقابة المهندسين أبطالها من جيل الوسط بحجة أن المسرحيات بدعة وليست من تعاليم الإسلام.لتبدأ بعدها مرحلة الانشقاقات والارتداد عن الجماعة من قبل جيل السبعينات وتلاميذ التلمساني وعلى رأسهم: عصام سلطان، وأبو العلا ماضي، وإبراهيم الزعفراني، وثروت الخرباوي، وعبدالستار المليجي، ومحمد حبيب، وعبد المنعم أبو الفتوح.

المراجع
  1. انظر : عمر التلمساني , ذكريات لا مذكرات ص 11.
  2. انظر : جمال البنا, من وثائق الإخوان المجهولة, ص 398.
  3. محمد مختار قنديل، الإخوان المرتدون