تضل إحدى السائحات الأجنبيات طريقها في مدينة القدس، تذهب لأقرب شرطي إسرائيلي لتسأله عن الوصول لكنيسة «القبر المقدس» المعروف باسم «Holy Sepulchre»، يسألها الشرطي عن الطرق التي جربتها بالفعل، تجيبه أنها مشت يمينًا ويسارًا ولم تستطع الوصول، ينظران سويًا في الخريطة التي تحملها، وفي النهاية يخبرها أن لديه فكرة أفضل، يذهب لشاحنة الشرطة، ويخرج من بابها الخلفي رجل فلسطيني معتقل معصوب العينين، تسأله السائحة عن مكان الكنيسة، يقف الرجل للحظات ليستنشق الهواء ثم ينظر يمينًا ويسارًا وفي النهاية وبشكل مبهر يخبرها بطريقين ممكنين للوصول للكنيسة القديمة، تشكر السائحة الشرطي الإسرائيلي وترحل، فيما يعيد الشرطي سجينه الفلسطيني مكبل اليدين ومعصوب العينين إلى الشاحنة التي يتحفظ عليه بها.

هذا المشهد القصير من فيلم «يد إلهية – Divine Intervention» للمخرج الفلسطيني إيليا سليمان، يترك على وجهك ابتسامة عريضة حينما تشاهده للمرة الأولى، لكنك بعد لحظات تبدأ بالتفكر في معناه ورمزيته، لتدرك أنه يخبرك بالكثير والكثير عن هذه الأرض وشعبها، شعبها الذي يدرك أدق تفاصيلها حتى وهو مغمض العينين.

المتتبع لمسيرة المخرج والمؤلف «إيليا سليمان» سيجد وبلا شك أنه أمام أحد أكثر المخرجين تفردًا وأصالة في العالم العربي، ولا نبالغ إن قلنا إنه من بين أكثر المخرجين إثارة للاهتمام في العالم أجمع.

اليوم نحاول برفقتكم أن نحلل أسلوبه الإخراجي وخصائص عالمه السينمائي، هذا العالم الذي يضع المواطن الفلسطيني وحسه الساخر في مواجهة مباشرة مع الاحتلال، الغضب، واليأس.


شذرات من الحياة

تتميز أفلام إيليا سليمان بأنها لا تحمل حبكة واحدة أو خطًا سرديًا واحدًا، على العكس تمامًا يصحبنا الرجل في مشاهد تبدو منفصلة، لكنها في الحقيقة ترسم سويًا لوحة شديدة الواقعية والتكامل للحياة في فلسطين المحتلة.

ينتقل الرجل في أفلامه الروائية الثلاثة الأولى بين عرب الداخل، الفلسطينيين الذين فقدوا أرضهم في نكبة 1948، وبين رام الله والضفة حيث لا زالت المقاومة في صراع مستمر ضد الاحتلال.

في فيلمه الروائي الأول «اختفاء Chronicle of a disappearance» عام 1996، ينتهي الفيلم بمشهد نتابع فيه والد إيليا ووالدته وهما جالسان في صالة بيتهم بمدينة الناصرة المحتلة، يشاهدان التلفاز ثم يغلبهما النعاس، ينتهي بث التلفاز بصورة لعلم إسرائيل وموسيقى السلام الوطني الإسرائيلي، في تلك اللحظة تنتقل كاميرا إيليا للجانب المقابل لنرى الأب والأم، اللذين يمثلان الوطن الوحيد الذي يتشبث به إيليا وسط احتلال طمس كل معالم وطنه الضائع.

يصلنا هذا عن طريق مشاهد يقوم ببطولتها في كثير من الأحيان أشخاص حقيقيون، وهذا ملمح آخر مميز في أفلام إيليا، فالرجل يصور أباه وأمه وجيرانه وكل من يلقاه ويجده مثيرًا للاهتمام، والمذهل أنهم قادرون على الأداء والتعبير أمام الكاميرا بشكل جيد للغاية، وربما، كما يقول إيليا في أحد لقاءاته، إن الفلسطينيين موهوبون بالفطرة، هم غاضبون وتواقون للتمثيل للتعبير عن معاناتهم وحكاياتهم.


الفكاهة كوسيلة لمقاومة الاحتلال

لا يمكننا تصنيف أفلام إيليا سليمان في نوع فيلمي محدد، لكن الكوميديا تبدو حاضرة بشكل غالب، كوميديا تنبع في الأساس كما قلنا من واقع الحياة في فلسطين المحتلة. حس إيليا سليمان الساخر يبدو للوهلة الأولى قريبًا من حس المخرج السويدي «روي أندرسون»، لكننا حينما ندقق النظر نجد اختلافًا كبيرًا، فبينما تحمل سخرية أندرسون طابعًا ما بعد حداثي تشاؤمي، يحمل في طياته فقدان أمل في الإنسانية بشكل عام، نجد على عكس ذلك أن سخرية إيليا وسيلة مستمرة للمقاومة ضد الفناء، ضد زوال الهوية، ضد المحتل وضد اليأس الذي يحاول الاحتلال فرضه كقدر.

في فيلم «الزمن الباقي – The Time That Remains» نشاهد رجلاً فلسطينيًا يفتح باب منزله لرمي أكياس القمامة، فإذا بفوهة دبابة إسرائيلية تلاحقه، تتبعه خطوة بخطوة، لا يلقي الرجل لها بالاً، يتخلص من الأكياس في صندوق القمامة ثم يستقبل مكالمة على هاتفه المحمول، فيكملها وهو يسير يمينًا ويسارًا، تستمر الفوهة في الدوران، حتى يعود الرجل إلى بيته، دون أن يلتفت لآلة القتل الإسرائيلية الضخمة ولو لمرة واحدة.


إيليا الحاضر الصامت

يظهر إيليا سليمان دائمًا في أفلامه بشكل صامت، طور الرجل أداءً فريدًا من نوعه منذ الظهور الأول في «اختفاء»، يشبهّه الكثيرون بأداء «باستر كيتون» مبدع عصر السينما الصامتة. المختلف هنا أن كل من حول إيليا يتحدث، يثرثر في كثير من الأحيان، حتى يظهر إيليا داخل الكادر، ليطغى بصمته على كل شيء.

يؤكد إيليا هنا على حقيقة أن ما يقال في حياتنا يتضاءل تمامًا مقارنة بما لا يقال، وتتضاعف هذه الحقيقة بشكل خاص في حالة المواطن الفلسطيني الذي أُنهك في مراحل المقاومة المسلحة، ثم المقاومة السياسية، وصولاً ليأس صامت يمكن الشعور به بمجرد تجوالك في بيوت وحواري الفلسطينيين.

تتجسد هذه المراحل الثلاثة بشكلها الأوضح في فيلم «الزمن الباقي» والذي يعاين فيه إيليا حكاية بداية دولة إسرائيل من خلال مذكرات والده «فؤاد سليمان»، الرجل الذي بدأ هو وجيله المقاومة المسلحة ضد عصابات الصهاينة في 1948، ثم تعرض للاعتقال والتعذيب، وانتقل عقب النكبة إلى الممانعة والمقاومة السياسية وتلقين ابنه حقيقة الاحتلال وداعميه، ثم انتهى به الحال صامتًا يائسًا ناقمًا على كل من حوله، ليطبع بنهايته تلك حاضر ابنه إيليا ومستقبله.

يظل إيليا صامتًا في أفلامه الروائية الثلاثة، مهما حدث، ولكنه يتحدث وبعد طول انتظار في فيلمه الرابع المعنون «لابد أنها الجنة It must be Heaven»، والفائز بجائزة الاتحاد الدولي لنقاد السينما (FIPRESCI) لأفضل فيلم في مهرجان كان السينمائي الدولي لعام 2019، بالإضافة لتنويه خاص من لجنة تحكيم المهرجان. ينطق إيليا بجملة واحدة من أربع كلمات، لن نذكرها لأن غالبية القراء بالتأكيد لم يشاهدوا الفيلم بعد، لكننا لا نبالغ إن قلنا إنّ حدث نطق إيليا لأول مرة في أفلامه يذكرنا بشكل كبير بالمرة الأولى التي نطق فيها صعلوك شارلي شابلن على الشاشة، في الحالتين هي كلمات مقاومة للفاشية ستظل خالدة عبر الزمن.