غياب عوامل كفاءة مراكز أبحاث الاستراتيجية والأمن القومي أو أغلبها (راجع المقال السابق على موقع إضاءات) هو ما يفسرُ غياب مراكز بحوث ذات قيمة في أغلب بلدان أمتنا الإسلامية، باستثناءات قليلة جداً وغير خالية من الآفات، وإحدى أهم آفات هذا العدد القليل هو أنها غير مستقلة، وملحقة بالسلطة، ومستوعبة في فلكها تماماً -أو تكاد- وفاقدة لرؤية مستقلة، ومستكينة للعمل من داخل الرؤى التي تتبناها الطبقة الحاكمة، ثم هي لا تأتي بجديد أو بشيء مفيد، لا لهذه الطبقة، ولا لغيرها من المثقفين وعموم الجمهور.

هي مراكز «تحت الطلب» من الجهات الرسمية؛ وهذا ليس عيباً بحد ذاته؛ إذ من المفترض أن تتعاون المراكز البحثية مع السلطات الحكومية من أجل المصلحة العامة، ولكن الحاصل في كثير من الحالات، وعبر أغلب بلدان أمتنا الإسلامية، هو أن تلك المراكز تقدم تبريرات أكثر مما تقدم تحليلات موضوعية، أو رؤى مستقبلية أو تفسيرات منطقية وواقعية للقضايا التي يتم تكليفها بها، وغالباً ما تغض الطرف عما تعتقد أنه سيغضب أهل الحكم، أو أولياء النعمة، ثم هي مراكز -وأكرر في أغلبها- ليست صاحبة مبادرات ذاتية في البحث، ولا لديها حرية المبادرة بابتكار الأفكار، وربما فكرة واحدة مبتكرة أدت إلى تغييرات كبيرة.

في دول الصف الأول تعكفُ مراكز بحثية استراتيجية -أوربية وأمريكية- منذ عشر سنوات تقريباً، على دراسة التأثيرات المستقبلية المحتملة لما يسمونه «التكنولوجيا الناشئة، وإنترنت الأجسام» Internet of Bodies (iOB)، تمييزاً لها عن إنترنت الأشياء(iOT) Internet of Things ، وخطورة إنترنت الأجسام وتكنولوجياهُ الناشئة أنه يجعل من الممكن جمع معلومات شخصية حساسة عن الذين يستخدمونها عموماً، بخاصة عن «القادة العسكريين» والسياسيين وكبار رجال الأعمال، ويمكن أن تستغل هذه المعلومات لأغراض التجسس والتدخل في تغيير القيم والاتجاهات عندهم، الأمر الذي ينذر -وما أكثر ما ينذر به- بوجوب تجاوز مفاهيم وسياسات الأمن القومي التقليدية، والتعامل مع هذه الديناميكيات المستحدثة باستخدام «إنترنت الأجسام» الذي يقولون إنه سيدخل في بعض الأدوية والعقاقير والأجهزة التعويضية الطبية، ويمكن استقبال رسائله من داخل أجسام الذين يتعاطونها وتخزينها وتحليلها في مراكز عالية التقنية.

ولا تحسبن هذا «خيالاً علمياً»، لا؛ لقد بات حقيقة، ووزارة التجارة الأمريكية –مثلاً- تدرس وسائل حجب شركات الأدوية غير الأمريكية التي تستخدم تقنية «إنترنت الأجسام» من أجل منعها من دخول السوق الأمريكي، وخبراء تلك المراكز يتوقعون أن تزيد تهديدات الأمن القومي مع الانتقال خلال أقل من عشر سنوات إلى تقنيات G5 وG6 من شبكة الاتصال اللاسلكي، وسيكون الأمر بالغ الخطورة عندما تتمكن شركات الكمبيوتر من تطوير ما يسمونه «الكمبيوترات الكمومية»؛ يقصدون: كمبيوترات تكون قادرة على فك أنظمة التشفير الرقمي الذي تعتمد عليها(حالياً) البنية التحتية للمعلومات والاتصالات عبر العالم، وحينئذٍ تستطيع هذه «الكمبيوترات الكمومية» أن تقرأ الاتصالات العسكرية والمعاملات المالية والأمنية المشفرة، وهو ما يعرضها لمخاطر جسيمة تصل إلى درجة التوظيف العكسي الذي يصيب منتجها وليس المستهدف منها.

في هذه المسألة تحديداً تبنَّى مركز «راند» برنامجاً بحثياً لكيفية تأمين أنظمة الاتصالات في عصر الكمبيوترات «الكمومية» الآتي قريباً، وفي دولة العدو الصهيوني يقومون باختبارات معملية لطبع أفخر أنواع اللحوم والأسماك، ليس تربيتها أو إكثار سلالات منها، وإنما الاستغناء عن هذا كله والذهاب إلى تصنيعها و«طباعتها» -كطباعة الكتب والصحف- من مواد خاصة واستخدامها، بديلاً للحوم الحيوانية والأسماك المائية الطبيعية؛ كيف سيؤثر هذا الاحتمال في حال شيوعه ودخوله في الأسواق والأذواق والسياسات الاقتصادية والميول الاستهلاكية؟

هذا الكلام يجلب «الزعل» طبعاً، ويدعو للرثاء قطعاً؛ حيث مراكز أبحاث الاستراتيجية والأمن القومي في أغلبية مجتمعات أمتنا الإسلامية لا تزال تغالب النعاس، وربما النوم؛ لكون «الشخصنة» سمتها الأبرز، ولكون «الشللية» هي اليد الخفية الممسكة بتلابيبها، ويذهلك أن أعضاء «الشلة» في أغلبهم يرون أنفسهم «حداثيين»، أو بالأصح «حداثويين»، يتغنون بمفردات الحداثة والتقدم؛ بينما هم يرتعون عملياً وحياتياً في الروابط الأولية، أو البدائية، التي يقولون -أو يزعمون- إنها ضد قيم الحداثة ومبادئها على طول الخط ومنها: رابطة الدم والمصاهرة، ورابطة الوراثة من الوالد إلى الولد، وحتى تقاليد «كيد النسا» التي غزت أغلبية هذه المراكز، إلى جانب تحابيش: الواسطة، وجبر الخواطر، وتبادل الهدايا ومنح الجوائز واللذائذ، كل هذا يحدث بغض النظر عن أي اعتبار آخر، أو قبل أي اعتبار آخر يتعلق بالكفاءة والتخصص، أو بالجدارة والمهارة، وبغض النظر عن أخلاقيات الأمانة والنزاهة والإحسان في العمل.

سمعت عن شيوع هذه «الحال» في العديد من البلدان العربية من غربها إلى شرقها، ومن شمالها إلى جنوبها، والنتيجة المأساوية هي: التضحية بالوظائف الأساسة المفترض أن تقوم بها هذه المراكز، وتحويلها في كثير من الأحوال إلى مقرات مريحة، أو شبه استراحات لطيفة؛ يلتقي فيها خبراؤها وباحثوها ببعضهم وبزوارهم؛ فيمضون بعض الوقت بعيداً عن منازلهم، ويستريح فيها بعضهم ولو لساعات من صخب الأولاد ومشاغباتهم.

هذه الصورة المحزنة لأغلب مراكز البحوث في بلدان أمتنا، تقابلها الصورة الأخرى التي رسمنا بعض ملامحها في بلاد الخواجات، وهي مناقضة لها تماماً، سواء في دول الصف الأول، أو في دول الصف الثاني.

ومن عبر التاريخ المعاصر أن نظم الحكم الاستبدادية في أمريكا اللاتينية كانت عديمَة الحس الوطني، وظلت هامدة لا هم لها سوى المحافظة على الأوضاع القائمة، ونادراً ما شعرت بالحاجة إلى مراكز جادة ومتخصصة في التفكير الاستراتيجي وأبحاث الأمن القومي؛ لسبب بسيط هو أن الطبقة الحاكمة في تلك الدول كانت تفكر بطريقة معاكسة لنمط التفكير الاستراتيجي، وكانت ملتصقة باللحظة التي تعيشها وتنظر فقط تحت أقدامها، بينما التفكير الاستراتيجي فكر افتراقي يدبر للمستقبل البعيد، ويعتمد على ابتكار حلول إبداعية، أو يكتشف تطبيقات مستحدثة لأفكار قديمة، ومثل هذا النمط من التفكير يحتاج إلى قدرات للتخيل والتصور وإدراك دقيق لمعاني الأشياء والمفاهيم وعلاقاتها ببعضها، وهي قدرات فوق طاقة تلك الطبقات التي سيطرت لعقود على مقاليد السلطة، ولم تخرج تلك الدول من محنتها إلا بعد أن تخلصت من تلك الأنظمة الاستبدادية الفاسدة الفاشلة، وانتقالها إلى نظم ديمقراطية حرة.

لا معنى لمراكز «استراتيجية» في ظل نظم مغلقة لا يتوافر فيها مناخ ملائم لتربية كوادر أو خبراء استراتيجيين، ولا تتوافر لهم فرصة لتنمية مهاراتهم، ولا تطوير خبراتهم، ولا اختبار أفكارهم، ولا حرية التعبير عن آرائهم المتنوعة.

والعجب كله من أنظمة تخنق حرية مراكز البحوث وتفرغها من مضمونها، بينما المهمة الأساسة لهذه المراكز أن تزود إدارات الدولة ومؤسساتها بالبحوث والأفكار والتحليلات والحلول التي تسهم في مواجهة التحديات التي تواجهها تلك الأنظمة ذاتها.

في بلدان الصفين الأول والثاني، تتجدد مراكز الدراسات والأبحاث الاستراتيجية باستمرار ويزيد عددها، وترتفع كفاءتها، وتتعمق تخصصاتها، وتترسخ شرعيتها حتى لو كان بعض الأشخاص يتخذونها للوصول إلى منصب رفيع هنا أو هناك من مناصب الدولة، أما في بلدان الهوامش والأطراف ودول الصف الأخير فيحدث العكس؛ إذ لا تكاد تشب تلك المراكز عن نشأتها؛ بل إن هي بدأت بداية قوية سرعان ما تنكفئ وتنتكس، ولو حدث وشب بعضها عن الطوق، فسرعان ما يتم إغلاقه بحجج واهية، أو قد يقع هذا المركز الاستراتيجي أو ذاك في قبضة التمويل الأجنبي، وهذا أدهى وأمر؛ فالتمويل الأجنبي للبحوث ومراكزها يعني تبعيتها لمصدر هذا التمويل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

أملنا هو أن تتطور مراكز البحوث الاستراتيجية وغير الاستراتيجية في بلاد أمتنا الإسلامية، وتطورها مرهون بالانتقال إلى أجواء حرة؛ دونما ادعاء العصمة أو احتكار الحقيقة تحت أي حجة من الحجج؛ لأن إسكات صوت واحد ولو بحجة تصحيحه يعني ادعاء العصمة، ويعني أيضاً تكريس الظلم والفشل إلى ما لا نهاية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.